عبد الحميد بن باديس وكمال أتاتورك
بقلم: أحمد بن يغزر-
كتب الشيخ عبد الحميد بن باديس في نوفمبر 1938 بجريدة للشهاب مقالة تحدث فيها عن مصطفى كمال أتاتورك بعد انتشار خبر وفاتة، وقد أثار ما كتبه ولا يزال جدلا حول دوافع الإمام لإشادة بهدا الرجل الذي يحمله الكثيرين مسؤولية إلغاء الخلافة العثمانية، ومحاولة صهر تركيا في بوتقة العلمانية التي لازال حضروها قويا حتى اليوم في هذا البلد. احتوى عدد الجريدة بالإصافة إلى مقالة الإمام موادا أخرى عن هذا الحدث فقد وقع محمد العابد الجلالي مقالا بعنوان "نجم يهوي ونجم يسطع" إشارة إلى عصمت إينونو خليفة أتاتورك بعد وفاته، كما نشرت الجريدة قصيدة شعرية لمحمد العيد آل خليفة جاء في مطلعها:
هوى من أفقه البازي * صريعا أم قضى (الغازي)؟
قضى اليوم أبو الترك * فمن لابنه العازي؟
كيف يمكن أن نفهم هذا الاحتفال من طرف ابن باديس ومعه جمعية العلماء بهذه الشخصية الجدلية؟
حاولت بعض الأطراف الايديولوجية الاستثمار في ما قاله ابن باديس للقول أنه يدعوا للعلمانية، وأنه يزكي نموذجها الكمالي بعد إلغاء نظام الخلافة مخرجين المقال عن سياقه التاريخي، والذي يعد المفسر الحقيقي لما ذهب إليه الإمام.
لقد تزامن صدور المقال مع محاولات متعددة لملإ الفراغ الذي تركه غياب الخلافة العثمانية، وبعض هذه المحاولات كانت غير بريئة خاصة بعد تولي الملك فاروق الحكم في مصر على إثر توقيع معاهدة 1936 بين مصر وبريطانيا «...والتي ازدادت أطماعه في الخلافة بعد ما صلى الجمعة في الأزهر (1938) برؤساء وملوك الدول العربية. وقد يكون هذا من بين الدوافع التي جعلت ابن باديس يستغل فرصة تأبين مصطفى كمال ليرد على أطماع الملك فاروق التي كانت تحظى بتأييد علماء الأزهر»(1). ولعل إشارة المقال إلى الأزهر ما يؤيد هذا الرأي فهو يقول في إحدى فقراته : «إن مصر بلد الأزهر الشريف مازالت إلي اليوم الأحكام الشرعية -غير الشخصية- معطلة فيها. ومازال كود نابليون مصدر أحكامها إلى اليوم. وما زال الانتفاع بالمذاهب الإسلامية في القضاء -غير المذهب الحنفي- مهجورا كذلك إلا قليلا جدا».
من المهم أن نستعرض الآن بعض ما جاء في المقال المعنون بـ: "مصطفى كمال رحمه الله" لي يسهل علينا إدراك وجهة نظر الإمام ووضعها في سياقها السليم. يقول ابن باديس في مطلع المقال «في السابع من رمضان المعظم ختمت أنفاس أعظم رجل عرفته البشرية في التاريخ الحديث، وعبقري من أعظم عباقرة الشرق، الذين يطلعون على العالم في مختلف الأحقاب، فيحولون مجرى التاريخ ويخلقونه خلقا جديدا».
ثم يفسر الإمام لماذا يضع مصطفى كمال في هذا المقام فيقول : «ذلك هو مصطفى كمال بطل غاليبولي في الدردنيل وبطل سقاريا في الأناضول وباعث تركيا من شبه الموت إلى حيث هي اليوم من الغنى والعز والسمو».
إذا هو يربط نمجيده لأتاتورك بما حققه من انتصارات عسكرية على الحلفاء في الحرب العالمية الأولى في المواقع المذكوره، وكذلك حفاظه على تركيا من التداعيات الخطيرة لنتائج الحرب التي خرجت منها مهزومة رفقة حلفائها، وهو بذلك كما يقول لم ينقذ تركيا فقط بل -والكلام لابن باديس- : «بعث في الشرق الإسلامي أمله وضرب له المثل العالي في المقاومة والتضحية فنهض يكافح ويجاهد. فلم يكن مصطفى محي تركيا وحدها بل محيي الشرق الإسلامي كله. وبهذا غير مجرى التاريخ ووضع للشرق الإسلامي أساس تكوين جديد».
هل كان بن باديس مبالغا هنا؟ تلك هي الرؤية التي شكلتها معطيات تلك الفترة التاريخية بما كانت عليه من التباسات، وتداخل للأولويات، في ظل وقوع أغلب بلاد العرب والمسلمين تحت الاحتلال الأجنبي
لم يمنع هذا الإعجاب بمصطفى كمال ابن باديس من أن يتأسف على موقفه من الإسلام فهو يعتبره الكلمة التي توجب التنبيه إليها قائلا : «فهذه هي الناحية الوحيدة من نواحي عظمة مصطفى أتاتورك التي ينقبض لها قلب المسلم ويقف متأسفا ويكاد يولي مصطفى في موقفه هذه الملامة كلها حتى يعرف المسؤولين الحقيقيين الذين أوقفوا مصطفى هذا الموقف».
إن الإمام يحمل ما آل إليه موقف أتاتورك من الإسلام إلى أطراف حددها في المقال جملة ثم بين دور كل واحد منها في تلك المسؤولية وهم حسبه: «الذين كانوا يمثلون الإسلام وينطقون باسمه، ويتولون أمر الناس بنفوذه، ويعدون أنفسهم أهله وأولى الناس به، هؤلاء هم خليفة المسلمين، وشيخ إسلام المسلمين ومن معه من علماء الدين، شيوخ الطرق المتصوفون، الأمم الإسلامية التي كانت تعد السلطان العثماني خليفة لها».
هذا رأي ابن باديس في كمال أتاتورك بما له وبما عليه لكن المتأمل المدقق في ما كتبه يشعر كأن ما كان يلمح به وهو يكتب عن هذه الشخصية أكثر وأهم مما ضمنه تصريحا عنها، لعله كان يشير وهو يتكلم عن أتاتورك إلى حاجة الأمة في ظل الظروف التي كانت عليها إلى شخصية قوية حازمة جريئة تمقت الجمود على التقاليد البالية، والأوضاع المألوفة وتواجه الأعداء بذكاء واقتدار وهو ما بدا للإمام في زمنه في شخص مصطفى كمال.
يظهر هذا في تقدير ابن باديس لقرار إلغاء نظام الخلافة العثمانية الذي قام به أتاتورك فهو لا يعده عملا مشينا، بل يراه قرارا ثوريا : «لقد ثار مصطفى كمال حقيقة ثورة جامحة جارفة ولكنه لم يثر على الإسلام وإنما ثار على هؤلاء الذين يسمون بالمسلمين.فألغى الخلافة الزائفة وقطع يد أولئك العلماء عن الحكم فرفض مجلة الأحكام واقتلع زقوم الطرفية من جذورها وقال للأمم الإسلامية عليكم أنفسكم وعلى نفسي، لا خير لي في الاتصال بكم ما دمتم على ما أنتم عليه، فكونوا أنفسكم ثم تعالوا نتعاهد ونتعاون كما تتعاهد وتتعاون الأمم ذوات السيادة والسلطان».
إن ابن باديس هنا يدافع بوضوح عن قرار أتاتورك بإلغاء الخلافة التي لم يبق منها إلا الشكل وأذها: «لم تكن موجودة في الواقع على قواعد البيعة والشورى، ولا على طريقة الخلفاء الراشدين على الأقل»(2).
ولذا فهو يقول في مقال آخر تحت عنوان : الخلافة أم جماعة المسلمين عن موضوع إلغاء الخلافة : «يوم ألغى الأتراك الخلافة -ولسنا نبرر كل أعمالهم-، لم يلغوا الخلافة الإسلامية بمعناها الإسلامي، وإنما ألغوا نظاما حكوميا خاصا بهم، وأزالوا رمزا خياليا فتن به المسلمون لغير جدوى وحاربتهم من أجله الدول الغربية المتعصبة والمتخوفة من شبح الإسلام»(3).
فهل يعد هذا الرأي في ومنه مجود معارضة للاتجاه العام السائد؟ أم يعد وعيا متقدما سبق إليه ابن باديس ؟
وإذا كان موقف الإمام من مسألة إلغاء نظام الخلافة مفهوما نسبيا، فإن إطرائه الشديد على أتاتورك يحتاج إلى فحص من حيث دوافعه، فهل يتعلق الأمر بما ذكرناه أعلاه من إعجاب بجرأة وإقدام هذا الشخص؟ أم بنقمة على حال الجمود والركود الذي كانت عليه حال الأمة في هذه الفترة التاريخية ؟ أم يعود لأمور أخرى غير معلومة؟
ختم ابن باديس مقاله عن أتاتورك بفقرة ذات دلاله قائلا: «نعم، إن مصطفى أتاتورك نزع عن الأتراك الأحكام الشرعية وليس مسؤولا في ذلك وحده وفي امكانهم أن يسترجعوها متى شاءوا وكيفما شاءوا ولكنه رجع لهم حريتهم واستقلالهم وسيادتهم وعظمتهم بين أمم الأرض. وذلك ما لا يسهل اسأرجاعه لوضاع»
الهوامش :
[1]- أحمد صاري: شخصيات وقضايا من تاريخ الجزائر، ط1، المطبعة العربية غرداية الجزائر.2004، ص67.
[2]- عبد الكريم بوصفصاف :تاريخ الجزائر الحديث والمعاهبر، ج1، ط1دار الهدى الجزائر.2013، ص177.
[3]- عبد الحميد ابن باديس :الخلافة أم جماعة المسلمين، الشهاب، م2، م14، ماي 1938، ص ص61-63.
أحمد بن يغزر: أستاذ جامعي –خميس مليانة
مجلة الإرشاد: العدد 4 جمادى الآخرة 1436 هـ/أفريل 2015 م.