مذكرات مالك بن نبي: وفد المؤتمر الإسلامي بباريس
بقلم: مالك بن نبي-
ما إن وصل وفد المؤتمر إلى باريس حتى قمنا بالطبع بزيارة أعضائه، أنا وبن ساعي.
نزل الوفد ومن ضمن أعضائه (العلماء)، في الفندق الكبير. تأسفت لممثلي الإصلاح وللكرامة الدينية في الإصلاح، فهذا الفندق لا يمكن أن يناسبـ (رجال سياسة) جديين ولكنه يواتي أمثال بن جلول وفرحات عباس وحتى مصالي ربما. غير أنه لا يناسب إنسانا يمثل كرامة دينية ... ويفهمني القارئ. ولم أغفل أن أعبر بصراحة عن عتابي لابن باديس الذي صادفته في بهو الفندق محاطا بالعقبي والإبراهيمي وشخصيات أخرى كالمحامي المعمم خفيف الروح الأستاذ بلقاضي، رحمه الله. وكان هذا المحامى هو الذي حاول إقناعى بالضرورة البروتوكولية لنزول الوفد بالفندق الكبير. فحتى محاميا من الأهالي لا يدرك مرامي وخفايا بروتوكول يفرض أن مكانا تنزل فيه فاتنات وغانيات ومن رواده أصحاب الملايين، لا يصلح أن يكون مكانا ل (عالم)، أو قسيس أو حتى رجل سياسة جدي.
كما صدمتني جميع التفاصيل. ففي مدخل الفندق استقبلنا أنا وبن ساعي من قبل الشيخ عبد الرحمان يعلاوي الذي كان يمثل جمعية العلماء بطريقة ذكية، ولا يزال يمثلهم اليوم رسميا. فالشيخ المحترم تلقانا مبتسما مادا يده للمصافحة ليخبرنا بكل برودة أن الوفد في زيارة للمدينة حيث سيلتقي أعضاء من البرلمان الفرنسي. وقد اكتسبنا بن ساعي وأنا، وأخص نفسي أكثر بالمزية، حاسة تمكننا من استشعار رجال ماسينيون. وبما أن المستشار التقني للحكومة الفرنسية المكلف بالشؤون الإسلامية، لا يمكن أن يبقى غير مكترث بوجود الوفد في باريس فأدركت أن الاتصال به غير مرغوب فيه لدى (السلطات العليا). وبناء عليه، قررت مع ذلك أن أدخل الفندق لأتحقق بنفسي من الأمر ... وبهذا الإصرار استطعنا أن نشاهد جماعة (العلماء) التي كانت تهمنا دون سواها في الفندق. وقد أحسست بأن ملاحظاتي كانت تحرج ابن باديس كثيرا دون أن ينبس بكلمة. فكان هو الذي دفع ثمن محادثتنا إذ اختفى العقبي دون أن أدري أين؟ بينما جلس الإبراهيمي بحذر منزويا عن جماعتنا. ثم ظهر لنا بن جلول، وبعد تحية عابرة ذهب ليجلس بعيدا ليرتشف مشروبا كحوليا بصحبة مندوبة جميلة، تم انتدابها على الأرجح خصيصا لدى رئيس (الوفد الأهلي)، كما يمكن أن نتصور.
كان المشهد بائسا يثير الشفقة: فقد صاحبت الفاحشة والمشروبات الكحولية وفدا ضم الأعضاء البارزين للإصلاح الجزائري.
وأدركت من يومها أنه لا يرجى خير كثير من الأزهر والزيتونة وكلية الجزائر.
كما لم أكن متفقا على أي من المبادئ التي تأسس عليها تشكيل وفد الانديجين وسفره. وقلت ذلك للتو لمحدثي دون أن يخرج ابن باديس من صمته. وعبرت عن دهشتي بداية من تسليم رئاسة المؤتمر لبن جلول بينما بدا لي من الطبيعي أن تعود قيادته لجمعية (العلماء). وقد أجيبت بأن السبب هي اللغة الفرنسية التي يجهلها (العلماء). والواقع، وأنا أدرك الأمر أفضل اليوم، أن لرجل الزيتونة والأزهر رد فعل نسوي أمام المسؤولية الحقيقية. وقد أعطاني العربي التبسي والشيخ خير الدين الدليل القطعي، بعد إحدى عشرة سنة بعد ذلك، أثناء رمضان سنة 1947 عندما كان علي أن أقدم للشرطة إما ضميري وإما حياتي. فقد أجمع الشيخان المحترمان أن أرضخ للشرطة بدل مقاومتها، وهذا ما تمليه علي مصلحتي، إلا أنها مصلحة تخيلها ضميران من الأهالي. لا نستبق الأمر، إذ سأعود للحادثة في الجزء الثالث من هذا العرض.
مهما يكن، فقد كبرت أربعا على (العلماء) وأقمت عليهم الحداد منذ سنة 1936 هذه، واعتبرتهم أعجز من فهم فكرة ناهيك عن تصورها وتنفيذها.
كما أن ابن باديس الذي بقي بباريس بعض الأسابيع بعد أن غير الفندق الذي نزل به أول مرة (مما يدل على أن انتقاداتي أتت أكلها)، كان يقضي أمسياته بمقهى الهقار أين كان يلتقي بن ساعي) (1). وكان يعرض وقتها الفيلم المشهور (نداء الصمت، L'appel du silence) الذي أثار حماس جميع الباريسيين التواقين لمشاهدة الذكرى القوية للأب دو فوكو. وذات مساء طرقت فكرة مخيلة بن ساعي، وهي فكرة كان فريقنا وحده هو القادر على تصورها وفهمها، وتتمثل في دعوة بن باديس لمشاهدة الفيلم الكبير , وكانت نية صديقي هي إعطاء الزعيم الإسلامي درسا ولكن بطريقة خفية، حول مفهوم المهمة والرسالة , فكان ما يحيرنا أنا وأصدقائي هو بالضبط الفتور الكبير لزعماء الإصلاح الجزائري الذين كانوا ينتظرون قدوم العامة إليهم حتى كراسيهم، عوض نقل الكلمة الطيبة حتى في أكثر أماكن لهو هذه العامة مجونا وفسادا. وقد قدر بن ساعي أن الدرس كان ضروريا للشيخ بن باديس للاعتبار. بيد أن هذا الأخير كان مدعوا في ذلك المساء وفي ذات الوقت المخصص لعرض الفيلم من طرف صاحب مقهى الهقار الذي اقترح عليه فيلما آخر موضوعه تسلية خالصة. والفرق هو أن مالك الهقار يمتلك سيارة بينما ليس لبن ساعي سوى فكرة.
وظفرت السيارة بالشيخ ابن باديس.
ويمكن أن يدرك الأثر النفسي، علي وعلى بن ساعي، الذي تركه الموقف الغريب للشيخ بن باديس، رحمه الله، غير أن الشيخ الموقر خصنا بمفاجأة أخرى. فعوض أن يتوجه إلينا (وخاصة أنا الذي حملت لواء (العلماء) بباريس واقترحت اسم رئيسهم للرئاسة الشرفية لجمعية الطلبة الجزائريين زمن المرحوم نارون)، قام الشيخ بإسناد مصالح جمعية (العلماء) بباريس للشيخ الورتيلاني الذي كان ربما نجمه يسطع في صنعاء أو القاهرة حيث يمكن للكلمات البراقة والمفخمة أن تقوم مقام الأفكار ولكنها تعجز عن ذلك في بلد غربي يفرض ليس فقط معرفة دقيقة بخصوصياته ولكن يتطلب أفكارا واضحة ومظبوطة حول مشكلات المجتمع الإسلامي. ولإدراك معنى هذا الفعل، يجب إسقاطه على المستوى الإداري. في ذلك اليوم، كان باستطاعة ماسينيون أن يفهم جيدا أن يتصرف معي ومع بن ساعي، كيفما يحلو له دون أن يحرك الوسط الإسلامي ساكنا مطلقا. وقد أدركت المسألة في حينها وفهمت أننا كنا في نظر ماسينيون معزولين ومكشوفين دون أدنى حماية. وقلت ذلك لابن ساعي وكنا نذكر بعضنا بهذه الحقيقة ونحن نردد الحديث النبوي المشهور: (بدأ الإسلام غريبا وسيعود غريبا، فطوبى للغرباء).
غير أن ماسينيون كان مبتهجا ومرتاحا - وأنا أتفهم شعوره! -وهو يرى موظفا مكلفا بتسيير الضمير المسلم بباريس عوض أن يتولى الأمر دعاة مسلمون تكونوا في المدرسة الديكارتية.
وأريد أن أسجل هنا انطباعاتي حول معرض باريس الذي نظم سنة 1936 حيث زرته رفقة بواعنيني. فمشهد معرض باريسي هو في الغالب. مفيد جدا لمسلم سكنته أفكارنا. فقد رأينا جناحا يديره يهودي كان يحاول إخفاء هويته وكان يقدم الآلية التي تحرك عجلة ماكينة وعجلة ... التاريخ. وبجانبه كان مسلم - مشرقي أو مغربي -يقدم سجادة وثيرة وعطور مثيرة. الأول كان يركز على كل ما يخلق القوة والثاني يدعو إلى الراحة والدعة ... لم أر مطلقا هذا المشهد براحة ومن غير أن أكترث.
(1) بقي محمد بن ساعي يكن كل المحبة والتقدير للشيخ عبدالحميد بن باديس. وطوال حياته البائسة التي قضاها بباتنة لم ينشر بن ساعي إلا كتيبا صغيرا صدر سنة 1987 تحت عنوان: (في سبيل عقيدتي - au service de ma foi)، وقد خصصه للإمام بن باديس تقريبا حيث امتدحه كثيرا, وبغض النظر عن الانتقادات التي وجهها له، قد اتخذ بن نبي الموقف نفسه إزاء الأستاذ الإمام إذ لم تفته فرصة إلا وكال له المدح والاحترام الكبير. (المترجم).
من مذكرات مالك بن نبي (العفن).