مرمس في دار الحديث

تلمسان... عرفت اسمها وأنا صغير، وتجولت بين أرجائها وأحيائها وأزقتها وأنا كبير، وقرأت عنها في الكتب الشيء الكثير وكان أهم ما استوقفني في تلك الرحلات كلها، معلم علمي شامخ لا يزال إلى يوم الناس هذا يقبع بين جنبات المدينة، ويتربع ساحة أحضانها، الواقف أمامه والناظر للافتته يرن الجرس في ذهنه لا شعوريا، وهو يتذكر - إن كان من العارفين -معلم الأزهر الشريف- أرجعه الله إلى سالف عهده - بقاهرة المعز بن باديس، وجامع الزيتونة - أعاده المولى لنا من بعد طول انتظار- في تونس المحروسة، والمدارس الإسلامية بدمشق التاريخ والحضارة وغيرها كثير، إنها "دار الحديث بتلمسان"...

تلك الدار أو المدرسة أو المعهد أو الجامعة أو سمها ما شئت، التي شيدت بمعاول أثرية وعقول نيرة وفهوم نادرة، لم يسبق لها مثيل ورجال فطاحل - عجزت والدات اليوم أن يلدن مثلهم - تركوا على مر التاريخ والسنين، لمسات سحرية وبصمات وراثية من جينة تختلف عن جينات كل البشر،  فيما تحمل من فكر وإصلاح وأثر، إنّه العلامة فخر الأمة الإسلامية جمعاء، الشيخ "محمد البشير الإبراهيمي" طيب الله ثراه. أقول: هذا للواقف على عتبة الباب. 

أما إن تعديت الأسوار وحللت بباحة الدار، متأبطا كرسيا وجالسا بصحن ساحتها لتتجول بمقلتيك بين ربوعها، لترى طابعها ونمط بنيانها، ثم تغوص في سيرة مشيدها ومسيرها تقلب الصفحات والذكريات قراءة وفهما، فلا شك وأنه سيجول بمخيلتك سؤال مهم وغريب، ويستوقفك استفسار ضروري وعجيب في آن واحد، تتركب ماهيته على نسق المثل السائر عند إخواننا الشاميين " إيش جاب المشرقي على المغربي؟". ولعل الكثير من القراء الأعزاء يفهم مقصدي وإلى ماذا أومأ، وما حقيقة قصة الخطوبة والعزومة والتزاوج الندي الحاصل بين عريس سطيف الشرق  وعروس تلمسان الغرب؟.

إنّ حكاية التتيم العجيب ورواية الغرام الغريب الذي حدث في وقت ما ومكان ما، بين علم علماء هذه الأمة وإحدى بقعها المترامية الأطراف لشيء يخلج الصدر ويخز الفكر، فأنى لرجل بوزن العلامة الإبراهيمي رحمه الله يشد الرحال من مدينة بشرق البلاد ليتوطن مدينة بأقصى غربها، حاطا الرحال هناك بعد أن مر على عشرات المدن الكبرى ومئات القرى والأرياف عربيها وأمازيغيها، ومن أهمها عاصمة الجزائر، لا يروق له فيها هكذا مقعد ولا بين أهلها هكذا مقام... إذا: فالإبراهيمي المشرقي بين أحضان تلمسان عاصمة المغرب الأوسط، لا يتوافقون في لهجة الكلام ولا في العادات والتقاليد والأعراف والأحكام، ولا حتى في الملبس والبنيان، فياترى أين يكمن السر بربكم؟. هذا اللغز المحجوب عنا والذي قبل أن نكشف عنه، تعالوا بنا نستطلع الأخبار ونستقصي الكتب والأخيار، لنعرف الحكاية من البداية فعلى بركة الله:

بداية الحكاية

كانت البداية سنة 1932م حينما زار الشيخ ابن باديس رحمه الله مدينة تلمسان، وألقى بين سراتها وأهلها درسا ومحاضرة بليغة فصيحة دوت لها الأفئدة والحيطان، لم يتسع فيها المكان حتى للوقوف فما بالك بالجلوس والناس، يشتكون له ويطلبون منه المزيد، وبأن يوفد لهم حامل مشعل وقائد حركة علمية وإصلاحية من علماء الجمعية يجري ماء الدعوة الراكد منذ سنين، فما كان منه إلا النزول عند رغبتهم وتلبية طلبهم، عائدا أدراجه وعازما على ما يبدو انتخاب الشيخ الإبراهيمي لهذه المهمة المشرفة والمكلفة في آن واحد، ملقيا عبئ الدعوة والإصلاح على كاهله ولسان حال البشير وفعاله يقول - من دون إبطاء - " أنا لها أنا لها ". وبالفعل كان ما سيكون، وذلك في أوائل سنة 1933م حينما نزل ضيف تلمسان ببهو ساحة القوم وباحة أحواشهم، ليبتدر مريدي الخير والإحسان، يقدمون عليه من كل حدب وصوب ويخرجون من كل فج عميق مهللين ومرحبين، ينهلون من معارفه وعلمه الغزير الذي قدمه لهم على كف من حرير وطبق من ذهب مستدير، من خلال حلقاته العلمية ودروسه الوعظية الإرشادية من الصبح إلى العشية، وهو في ذلك الخضم يستشرف الواقع ويتحسس المواقع لمشروعه الذي تبلور في ذهنه للتلو.

ثمار مرحلة التغيير

لما استتبت رياح الإصلاح وتراءت من بعيد فرص النجاح، أمام مخيلة الشيخ وكأنه يعايشها بفعل القفزة النوعية التي أحدثها رحمه الله، في نفوس وعقول سكان مدينة تلمسان، وكذا تكوين جيل من خيرة شباب المنطقة وطلابها وطالباتها يحفظون القرآن وينهمون من علوم الشريعة نهما، تلك الناشئة والتي لما ضاقت بهم الأمكنة ولم تسعهم دور وأحواش وبساتين التلمسانيين، عزم الشيخ الإنتقال إلى الشوط الثاني وربح الوقت بدل الضائع، فاجتمع برجال البر والإحسان والإصلاح من عقلاء ونقباء المدينة، ليعرض عليهم مشروع "دار الحديث" ومن ثم يتخيروا في الخطة الثانية، مكانا بهيا يتوسط الأطراف الأربعة ليس فيه مشقة لقاصديه والراغبين فيه، متوكلين على مولاهم لرفع قوائم وتشييد دعائم ذلك الصرح العلمي المهيب، إذ كان ثمن قطعة الأرض آنذاك وعلى حد ما تذكر المصادر 125000 فرنك فرنسي، والغريب في الأمر أنّ تلك الأرض وهي عبارة عند دكان لبقال ليهودي، كان العيب فيها أنها تقع على مرتفع عظيم وتنحدر كل عام بواحد سنتمتر، مما يعني أنها لا تصلح للبناء واليهودي بخبثه ومكره، كان على علم بما ينوي أن يقوم به الذين اشتروها، ولكنه باعها لهم وفي إعتقاده النتن أنّه سيأتي يوم ويسقط فيه بنيانهم، إلا أن المولى تعالى وبكرامة منه متن أساسها وقوى دعائمها، وها هي إلى اليوم شامخة على الرغم من كر وفر الزمان والحوادث والمتغيرات الطبيعية، لم يصبها ولن يصيبها سوء بإذن الله. وفي 17 فبراير 1936م انطلق جنود الإصلاح في تشييد وبناء المدرسة، تحت إشراف مهندس الفكرة ومخطط المشروع الشيخ البشير، ومشاركة أهالي تلمسان المعطاءين كل بما يجود، بداية من الفلوس ونهاية بالدعاء المستطاب متوخين الحفاظ على طابعها المعماري الإسلامي أو مازجين في تركيبتها الزكية بين الأصالة والمعاصرة

وللقصة بقية

لقد كان يوما مشهودا وعظيما تدخل فيه الحركة الإصلاحية في الجزائر التاريخ من بابه الواسع، يوم 27 سبتمبر 1937م تشرق فيه الشمس على مدينة تلمسان العبقة، لتبعث بنورها الخريفي يطارد الجهل والخرافات ويمسح الغبار عن الحقيقة ويمحو الآفات، فعلى مدار 19 شهرا من الكد وبذل الجهد والعطاء المادي والمعنوي، يكلل جهاد أولئك الأشاوس ببلوغ نصاب  بناء دار الحديث بالكمال والتمام وقد أحدثوا فيها: طابق أرضي فيه مسجد للصلاة وقاعة وضوء في الطابق السفلي وقاعة للمحاضرات وخشبة للمسرح ومكتب إدارة المدرسة في الطابق الأول، وأما الطابق الثاني فيحتوي على خمسة أقسام دراسية. وقد حضر حفل الإفتتاح جل علماء ورجالات الإصلاح في الجمعية، من الشيخين الرئيس والنائب إلى أديبيها الشيخ العربي تبسي والشيخ مبارك الميلي، ولا ننسى شاعرها المفوه محمد العيد آل خليفة رحم الله الجميع، بل حتى من داخل تلمسان ومن خارجها، مسندين شرف فتح المدرسة للعلامة الجليل عبد الحميد ابن باديس متسلما المفتاح من أخيه الذي لا يقل عنه شأنا، وقاطعا للشريط الحريري كما هي عادة مراسيم إفتتاح المشاريع وهو يقول: "بسم الله الرحمن الرحيم، ثم على اسم  الإسلام والعروبة، والعلم والفضيلة أفتح مدرسة دار الحديث: "وقل رب أنزلني منزلا مباركا وأنت خير المنزلين" المؤمنون 29. "وقل ربي أدخلني مدخل صدق وأخرجني مخرج صدق واجعل لي من لدنك سلطانا نصيرا، وقل جاء الحق وزهق الباطل إن الباطل كان زهوقا" الإسراء 80 - 81. ليتقدم الشيخ بخطى ثابتة -والله وحده العليم بنفسيته ومدى بهجته وفرحته بذلك النصر العظيم- يطل من بعد فترة على إلحاح من جموع الحاضرين الهاتفة باسمه من على شرفة المدرسة، ويلقي كلاما مقتضبا جامعا مانعا يدل على صدق الرسالة ومصداقية الرؤية والتخطيط، ولا أنسى أن أذكر في هذا المقام الذي لا يتسع -مع الأسف-  بقصيدة الشاعر محمد العيد آل خليفة التي ترنم فيها بتلك الثورة العلمية المؤزرة والتي يقول في مطلعها:

أحيي بالرضـا حرما يزار... ودارا تستظل بها الديــار

وروض مستجد الغرس نضرا... أربضا زهر الأدب النضار

المحنة الإبراهيمية

مما يؤسف له أن تلك الفرحة لم تدم طويلا حتى دخل الأعداء على خط الكيد من الداخل والخارج، بخطة جهنمية للإطاحة بذلك الصرح العلمي الشامخ، فوشى بعض مرضى النفوس بالمدرسة ورجالها لدى الحكومة الفرنسية آنذاك، بحجة أنها تنشر ما يخالف عرف أهل البلد وهي بذرة من بذور الفكر المناهض لسياسة أمهم فرنسا؟؟؟

قلت: ما أشبه الليلة بالبارحة - ففي سنة 1938م وبأمر من رئيس الدائرة أغلقت دار الحديث، مما أثار غضبا شعبيا وسخطا عارما ليدخل معه ومعهم الشيخ رحمه الله في حزن وهم عميقين، تجسده لنا كلماته الأولى من خطبته التي يندد فيها ويشجب بمثل هذا الأمر قائلا: "تعودنا أن نكظم الغيظ إذا كربتنا الحوادث وتعودنا أن نطوي النفوس على مكروهها إذا رمتنا الأيام بما لا صبر عليه، شنشنة من الصبر طبعنا عليها ديننا وخلق من الرزانة هدتنا إليه التجارب المتكررة، خصوصا إن أصبحنا نساوم على الصبر وأصبحنا نرمى بالأحداث عن عمد استفزازا لعواطفنا، وتحريكا لمشاعرنا واستدراجا لنا إلى المعاطب". الآثار ج1/ 312

إن بعد العسر يسر

ولكن يا ترى هل سكت الشيخ وقبع القرفصاء يندب ويتحسر على القدر؟ أم جمع يديه وانزوى كحال الضعيف المستكين؟. لا بل على العكس من ذلك تماما، فإنه بذكائه وحنكته السياسية التي تعلمها من مجارات الحوادث والعوائد، استطاع بفضل من الله ثم بفضل مساعي بعض صالحي البلد إعادة فتح المدرسة إلى سالف عهدها، وربما على نحو أفضل مما كانت عليه بفعل الإلتفاف الجماهيري من حولها والتعاطف معها، ولكن سرعان ما وأدت الفرحة في مهدها غلقت المدرسة مرة أخرى، وبنفس التخطيط الشيطاني الخبيث القديم والمتجدد فيه أنه نفي الشيخ رميا بين أنياب وأحضان الحاسدين والحاقدين عليه وعلى دعوته الأثرية، بعمالة آفلو من ولاية الأغواط يفعلون فيه الأفاعيل لمدة ثلاثة أعوام، ثم يلوح اليسر الثاني من بعيد وتفتح المدرسة من جديد، وبوتيرة أعلى مما كانت عليه سنة 1943م، على إثر إطلاق صراح شيخها الجليل، ولم تتوقف عن الإنتاج والإنتاجية للعقول النيرة والأفكار النادرة إلا في 29 ماي سنة 1956م من طرف السلطات الفرنسية، في حملتها الدنيئة الشعواء التي أطلقتها بغرب البلاد لغلق المدارس التعليمية.

نهاية الحكاية

على الرغم من التضييق المفتعل داخليا وخارجيا على نشاط المدرسة وشعلتها التي استضاء بنورها الكثير، إلا أنها استطاعت بالفعل أن تحقق الأمنية التي كان يخاف منها المستعمر آنذاك والتي لم يحسب لها أي حساب، وهي أن يولد من بين أحضان تلك الأسوار والباحات المباركة، رجال وبتفوق يحملون شهادة أخروية ليست ككل الشهادات الدنيوية، إنّها شهادة الموت في سبيل إعلاء كلمة الله تعالى ومحو سلطة المستدمر الغاشم، الذي أتى على الحرث والنسل وهذا هو الأساس الذي على أساسه شيدت المدرسة في فكر ومخيلة العلامة، قبل أن تجسد على أرض الواقع، مؤمنا بقاعدة السيف بيد القلم يحركه ويوجهه وليس العكس، والدليل على ذلك تلك القائمة الطويلة العريضة لمجاهدي وشهداء الثورة التي تزخر بخيرة خريجي مدرستنا الميمونة، والتي ناهزت الخمسين اسما كان على تاج ناصيتها الشهيد البطل "بن علي بودغن" المدعو العقيد لطفي قائد الولاية الخامسة التاريخية رحم الله وتقبل من الجميع.

 إلى هنا أقول: إنتهت الحكاية ولكن لم تنته الرواية، في فصول متجددة أحداثها لازالت مترامية الزوايا تدور في فلك الزمان إلى يوم الناس هذا، فالجمعية ولله الحمد والمنة كما عهدناها وألفناها واقفة صامدة على قدم وساق، بفضل من الله ثم بفضل رجالها الذين يخوضون معارك في حرب طويلة غنيمتهم "الإسلام والعربية والجزائر". هذا ولمن أراد الإستفادة فلينظر جل الأحداث بالتفصيل وزيادة كتاب "المسيرة الرائدة للتعليم العربي الحر بالجزائر" للأديب محمد الحسن فضلاء رحمه الله.

مربط الفرس

أما الآن فتعالوا بنا نعرج إلى الكشف عن السر الذي من ورائه -فيما أعتقد وأحسب- الإجابة عن السؤال والمثل السائرين الذين مرا معنا:  

- 1طبيعة تلمسان الحضارة كما كان يحلو للشيخ أن يسميها في نصوصه وكتبه، وهذا ما جعله يمتدحها في قوله: "ولا يتناسب مع قدر تلمسان وعظمتها التاريخية ومجدها الخالد". [الآثار ج1/ 307]. فتلمسان - أيها الأحبة - هي عاصمة المغرب الأوسط، ومهد مملكة زناتة ومتوسط قبائل الأمازيغ، ووجهة التجار من حدب وصوب على حد ما تذكر كتب السير والتاريخ.

2- عمل الشيخ بترنم شيخه ابن باديس رحمه الله بمدينة تلمسان فيما كتب وقال، ولاشك أنه عند رجوعه من رحلته إليها قد شوقه أيما تشويق وحكى له عنها الكثير، وبالأخص ما تزخر به من موارد بشرية وقدرات علمية وتاريخية، على إثر ما رأى وسمع وجالس وناقش العديد من أهل البلدة الذين وجد فيهم حرارة منقطعة النظير، لتقبل العلم والوعظ والإرشاد وكذا إلحاحهم - كما أسلفنا القول - عليه بأن يرسل إليهم مرسول من فطاحلة جمعية العلماء، ينفض الغبار عن مدينتهم ويلمع بريقها الساطع اللامع، ويخرج ما تزخر به من كنوز فكرية ودرر عقلية أثرية، وذلك هو عين الصواب.

3- طبيعة أهل تلمسان المدنية والحضارية القابلة للعلم والتعلم والمشربة بروح الأخلاق العالية والآداب الفاضلة، ولا أقول هذا مجاملة والله شهيد على ما أقول، كما أنه لا يعني هذا بمفهوم المخالفة أن غير عمالة تلمسان من المدن الأخرى هي ليست كذلك، ولكن التاريخ علمنا بأن لأهل المدن العريقة ميزة خاصة وكفى بدمشق وبغداد شاهدا وأهل مكة والمدينة شرفا بذلك.

4- نقل صراع العلم مع الجهل والخرافات والدجل من مناطق الشرق إلى ربوع الوطن، ومحاولة فك العزلة بخلق بذرة بغرب البلاد تزود بقية المناطق بعد ذلك ببذور ذلك النتاج الزكي ليحقق التوازن الفكري والعلمي والمنهجي بين جهاته الأربع.

5- طبيعة الصراع الدائر آنذاك بين الشيخ الإبراهيمي من جهة وعبد الحي الكتاني المغربي من جهة أخرى، هذا الأخير الذي كان يعمل على بث وبعث سمومه في جل مناطق المغرب الإسلامي، وكأن الشيخ رحمه الله نصب له حاجزا أو سدا منيعا يرقبه عن كثب من جهة، ومن جهة أخرى هو له بالمرصاد لكل تآليفه التي كان يسعى بها بين العشائر والأمصار، مروجا لتلك الأطروحة الخبيثة القائلة: "فرنسا دخلت بقدر الله وستخرج بقدر الله". وهذا حتى لا يفسد الطبخة التي كان يعدها الشيخ ومن معه، ويفجروا ثورة التحرير المباركة أو ثورة شعب القلم والسيف

6- إعجاب الشيخ على ما يبدو رحمه بالتاريخ الحضاري والفن المعماري التلمساني الأصيل والتي فيها يقول مؤرخ المغرب الإسلامي العلامة ابن خلدون رحمه الله: "فأصبحت أعظم أمصار المغرب، ونفقت بها أسواق العلوم والصنائع وضاهت أمصار الدول الإسلامية والقواعد الخلفية". وهنا بالذات تتفق الرؤى حول تلمسان التي كان يرى فيها شيخنا بقايا أطلال من بلاد الأندس، تلك التحفة الغالية الضائعة، ولكأنه كان يريد أن يرجع عجلة الزمان إلى الوراء إبان حقبتها الذهبية من تاريخنا المشرف، وهذا ما نلمسه من قوله: "وتظهر في هذا الشكل العجيب المدهش جامعة بين الفن العربي البديع والشكل العصري الأنيق، وتبدو آية في الضخامة والجمال والسعة والكمال" [الآثار ج1/ 307]. 

7- من طبيعة المشاريع الخيرية أنها تحتاج إلى من يغدق عليها بالتبرعات والخيرات وهذا عامل مهم، وفرصة إيجابية سانحة إستنفذها الإمام الإبراهيمي في مشروعه بين أهل تلك الديار، لعلمه بحقيقة هي أشهى من العسل، لا زلنا إلى اليوم نرددها ونكررها كمثل على الإنسان الخير والجواد الكريم بطبعه فنقول عنه: "ابن الغرب" و"بنت الغرب" للدلالة على يده السخية وعطاءه المنقطع النظير.

8- من المعلوم لدى القاصي والداني في سيرة هذا الرجل العظيم أنّه طاف بلاد إسلامية عدة، ومن المعلوم أيضا من خلال  إستقراء كتبه وتآليفه، أنه تأثر تأثرا بليغا بالحركة العلمية والمشاريع الدعوية الإصلاحية التي أحدثتها وجسدتها فكرة إنشاء المدارس في كبرى العواصم الإسلامية، وهذا ما نتحسسه من تحليل العديد من مقالاته على صفحات آثاره، فنجده يقول مثلا عن جامع الأزهر الأشم في مقاله المعنون بـ "أثر الأزهر في النهضة المصري": "أثر الأزهر في النهضة المصرية، هو الجزء الطبيعي الأصيل فيها وهو الخميرة التي تحيل الدخيل أصيلا، لأن ذلك الجزء منزل على طباع الأمة ومرتبط بدينها وآدابها وتاريخها " [ج 3/ 501]. وها هو ذا في الأخرى يقول عن جامع الزيتونة في مقاله "حيا الله تونس": "إلى تونس العزيزة مصورة في ذلك الطراز الرفيع من الزيتونة والهالة المحيطة بها المنورة لأرجائها، من شيخها الجليل إلى مدرسيها الفحول إلى تلك الجموع السالمة من التلامذة ومن الصحف ورجالها " [ج2/ 271]. وهو بذلك يريد أن يبعث النشاط والحياة إلى بعض دور العلم بجزائر الإسلام والعروبة، لتنتج نتاجا زكيا على نسق الوفرة التي أفرزتها العديد من الجوامع والمعاهد وكان من ثلتهم الطيبة على سبيل المثال لا الحصر، الإمام العلم وشيخ الحديث بالديار المصرية أحمد شاكر، وزينة علماء الحديث بالشام العلامة جمال الدين القاسمي، والأصولي المقاصدي النحرير العلامة الطاهر بن عاشور رحم الله الجميع.  

9- أراد الشيخ الهروب وفي نفس الوقت إخراج التعليم الشرعي والدعوي آنذاك من بين مخالب الطرق والزوايا، التي كانت تسيطر عليها بعض رموز التصوف القبيح، تبلد فيها الفهوم وتحجر الفكر وتنشر السموم، خارجة عن صراط السنن الأبين وذوق المورد الأمعن الذي تركنا عليه المصطفى صلوات ربي وسلامه عليه، ساطعة شمسه ليله كنهاره لا يزيغ عنها إلا هالك فأهلكوا الأمة بكل ذلك من خلال الإبتداع السافر وتضييع ملف هوية الأمة بين أنياب الإستعمار الكافر، فلأجل كل هذه وتلك سارع وسابق الشيخ المكان والزمان، ليصلح ما أفسده القوم وبالفعل هذا ما قاله وأقره العلامة في اجتماعه بأعضاء المجلس الإداري للجمعية بنادي الترقي بالعاصمة: "إنّ الطريقة المعششة في غرب البلاد تحتاج منّا لاهتمام أكثر". وليراجع حول نقطة البحث هذه بحث طيب بعنوان "موقف الإبراهيمي من الطرق الصوفية المنحرفة في الجزائر". بمجلة الشريعة والدراسات الإسلامية العدد 45 جامعة الكويت بقلم الدكتور: محمد زرمان.

على أنني وفي آخر هذه الجولة الطيبة التي صحبنا فيها تلك الأنفس الزكية، أحيي من هذا المنبر المعطاء واقفا وقفت إجلال وإحترام وتقدير لكل الرجال بأتم ما تحمل هذه الكلمة من معاني، ممن بذلوا الغالي والنفيس في جزائر القرن الواحد والعشرين أو جزائر الهوية، مجابهين في الأولى هذا السيل الجارف والريح العاصف الذي ما فتأ أن خفت وطأته حتى عاد إلى حلبة الميدان يصارع ويقارع، وفي الثانية يعيدون إحياء السنة الحسنة التي تركها شيخنا العلامة، متمثلين بحديث المصطفى صلى الله عليه وسلم الذي فيه يقول: "من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها بعده من غير أن ينقص من أجورهم شيء ومن سن في الإسلام سنة سيئة كان عليه وزرها ووزر من عمل بها من بعده من غير أن ينقص من أوزراهم شيء" رواه مسلم. وكل ذلك من خلال تشييد العديد من المدارس والمعاهد الشرعية، سواء في الجزائر العاصمة أو بعض المحاولات من هنا وهناك لبعث روح العلم والدعوة خارج البهجة البيضاء، وأقول لهم: قلبي معكم بالدعاء والتضرع إلى الله تعالى بأن يجعل ما تقدمونه في ميزان حسناتكم يوم لا ينفع مال ولا بنون، وقلبي في الأخرى على العلامة البشير ومن قضى نحبه على دربه بالترحم وأن يسكنهم المولى عز وجل فسيح جناته إنه على ذلك قدير وبالإجابة جدير وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

 

* عن مجلة إذاعة القرآن الكريم - الجزائر 

 

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.