تأسيا بدار الحديث الأشرفية بالشام: دار الحديث معلم حصاري وقلعة للثورة الجزائرية
نهضت دار الحديث بتلمسان بمختلف علوم الدين من فقه وسيرة وسنن نبوية إلى جانب التاريخ الثوري الشامل وكذا السياسة والتربية والتي نهل منها عدة أجيال متعاقبة منذ تأسيسها بتاريخ 27 سبتمبر1937 أي ما يربو عن 47 عاما من العطاء المستمر بفضل الإرادة والعزيمة التي لم يستطع المستدمر الفرنسي من أن يوقف مدها التنويري.
تشير الإحصائيات الأكيدة أن جمعية العلماء المسلمين منحت أول شهادة رسمية لخريجي دار الحديث والذي ظفر بها 52 ناجحا من مدارس عمالة قسنطينة و51 من عمالة وهران وعشرون من الجزائر بمجموع 123 ناجح في حين أن الذين نجحوا من دار الحديث بلغ عددهم 35 متمدرسا فائزا، وهذا يعني أنها مثلت الثلث من المجموع العام على المستوى الوطني وأكثر من النصف بالنسبة للمناطق التي أشرنا إليها حتى أن المنافسة العلمية بدار الحديث دفعت المغاربة الأشقاء لتأسيس معهدا إسلاميا أطلقوا عليه اسم (دار الحديث الحسنية) لتأثرهم بالاجتهاد الذي حققه مشايخ جمعية العلماء المسلمين وتوصلوا لنفس الهدف وتخرج منها هي الأخرى رجال متخصصون في علم الحديث والسنن النبوية.
فالدار التلمسانية كانت تعج بالتلاميذ طول النهار وفي ساعات الليل، ومل تعد تتسع لمئات الراغبني يف طلب العلم والمعرفة الأمر الذي جعل دار الحديث تتعزز بمدرسة ثانية محاذية لها بنفس المبنى والتي استقلت لتعليم الإناث، وهذا في بداية 1952 والتي تعترب أول مدرسة خصصت للفتيات بالجزائر.
و اكتفت الدار في ذات الفترة من الخمسينيات بتدريس الذكور والذين فاق تعدادهم 1800 متمدرس مقسم إلى أربعة أفواج الأول منه يأخذ دراسة كاملة في النهار وهم نخبة التلاميذ، وفوجان يتلقيان الدروس المسائية بالنسبة للذين يلتحقون بالمدارس الفرنسية، وفوج ليلي للشبان والعمال.
ومع بداية الاستقلال اقترح الأستاذ محمد الصالح رمضان الذي كان يتكفل بإدارة شؤون دار الحديث انطلاقا من عام 1946 إلى سنة 1953 في أن تصبح دار الحديث معهدا إسلاميا تابعا لجامعة قسنطينة أو غريها من جامعات الوطن التي تتوفر على اختصاصات إسلامية وكذا الفلسفة والتاريخ
حتى أنه طالب في الشأن نفسه وزارتي التعليم العالي والشؤون الدينية ومن يعنيه أمر الإسلام ومستقبله في الجزائر من مسئولين لتحقيق المراد.
ومن المراجع التي احتفظت بها المكتبة الإبراهيمية بدار الحديث وبالخصوص في الثلاثينيات أكثر من 500 كتاب للتفاسير تخص الرازي والطربي والإمام عبده والثعالبي والشيخ الكرماني بالإضافة إلى سنن أبي داوود وصحيح البخاري والموطأ وكذا شرح الأربعين النووية ومختصر خليل والمدونة للسيوطي وغريها من من المصادر والمراجع القديمة المهمة التي لازالت شاهدة على الروح العلمية السائدة.
ولا تزال كذلك وهي حاليا تستقبل أكثر من 400 تلميذ سنويا بالمدرسة التحضيرية وتقوم لتدريس أحكام التلاوة للنساء برواية ورش عن نافع، إلى جانب تقديم دروس محو الأمية لما يزيد عن 100 امرأة.
بما أن دار الحديث لعبت دورا مهما وفعالا في بعث الحركة العلمية إبان الاحتلال الفرنسي سنحاول إعطاء نبذة عن كيفية اختيار أرضيتها للشروع في بنائها وتحقيق الحلم الذي راود أعضاء جمعية المسلمين الجزائريين فالبداية كانت عبارة عن صراعات حول القطعة الأرضية من قبل مستثمرين فرنسيين نظرا لمكانها الإستراتيجي المجاور للحي السكني الأمر الذي دفع بمشيدي ومخططي مشروع دار الحديث أن يعزموا على الأخذ بالقطعة الأرضية والإسراع في تجسيد الهدف المنشود ذي الخلفية الإيجابية في حقبة جد صعبة من الاستعمار والرامية إلى نشر العلم وإحياء المعرفة عند الجزائريين للحفاظ على الهوية الوطنية من لغة ودين بالقراءة والكتابة والتوعية الفكرية.
وكان نشاط الجمعية مقتصرا فقط في مقرها الكائن آنذاك بطريق ابن خلدون وبالضبط بحي عربي عريق وبعيد عن الأحياء الأوربية، وفيما يتعلق بعملية شراء الدار فإن العقد ضم قائمة بـ171 شخص يمثلون المشتري، وكان وراء هذا العدد نية تترجم العزيمة الجماعية التي لا جدال فيها فقد حاولت الجمعية أن تمثل في عملية الشراء مختلف الطبقات الشعبية بمدينة تلمسان من أجل المصلحة الكبرى وتم تدوين كل معطيات المساهمين بأسمائهم وعناوينهم وحرفة كل منهم.
وتم تدشين مبنى دار الحديث في المؤتمر السنوي العام لجمعية العلماء المسلمين المنعقد في نادي الترفيه بالعاصمة سنة 1356 هجرية الموافق لـ1937 الموافق لـ1937 والذي حضره ما يزيد على خمسة ألاف من أعضاء الجمعية والمناصرين لها،قام الشيخ البشير الإبراهيمي نائب رئيس الجمعية يحاضر الوافدين بحديث عذب ممتع قال فيه:
"أيها الإخوة الكرام لقد حملني إخوانكم التلمسانيون أمانة يجب علي أن أبلغها لكم وهي أنهم يسلمون عليكم ويعاهدونكم على التفاني في خدمة الجمعية ونشر مبادئها الإصلاحية ويبشرونكم أنهم شيدوا للإسلام والعروبة معهدا لم يكن له نظري من قبل في تاريخ الجزائر الحديث، كما أنهم يتشوقون بأن يكون فتح هذا المعهد أول مرة بيد عالمة الجزائر وزعيم نهضتها الأستاذ الرئيس الشيخ عبد الحميد بن باديس وقد سميت دار الحديث على دار الحديث الأشرفية التي أشئت منذ قرون في دمشق الشام وتخرج منها الأئمة الأعلام الذين خدموا الإسلام أمثال الإمام الحافظ محي الدين النووي وتقي الدين الشبكي وغريهم.
وبما أن شيخنا الإبراهيمي كان يدرس بها أخذه الحنين إلى ذلك المعهد الشامي الذي حمل منه أجمل الذكريات وأراده أن يكون مثله كأثر مشابه في الدور وانطلاقا من المؤتمر واجتماعه تهيأ الحاضرون للسفر والاستعداد لتدشين دار الحديث بتلمسان في يوم الاثنين 22رجب 1356 هجرية الموافق لـ1937 ميلادي، بحيث هب الوفود ليكونوا مع موعد تاريخي حاسم وحدثا للحركة الإصلاحية الثقافية لم تشهد الجزائر من قرينه سوى ختم تفسير ابن باديس للقرآن الكريم في قسنطينة بعد سنة من ذلك الافتتاح أو ما تبعه بعد الحرب العالمية الثانية من الأيام الغر الميامين لمعهد بن باديس وتدشين بعض كبريات المدارس والمساجد الحرة التي توالت بأمهات المدن والقرى التي تأثرت بالحركة ومباشرتها للنهضة الثقافية.
* عن مجلة الجوهرة - تلسمان عاصمة الثقافة الإسلامية 2011.