الإمام الرئيس محمد البشير الإبراهيمي من خلال شعر محمد العيد آل خليفة – 5

بقلم: أ.د. محمد بن سمينة-

ويخلص الشاعر من تلك الوقفة العامة في مطلع قصيدته السابقة (يارائد الشعب) عن الإبراهيمي، إلى وقفة خاصة ركز فيها حديثه على إبراز مكانة الفقيد العلمية والاجتماعية، ونوه فيها بجهوده المحمودة في إيقاظ الشعب الجزائري، وبعثه إلى الحياة من بعد أن كاد يموت، وإنقاذه من ظلمات الجهل من بعد أن أوشك أن يقضي عليه الإهمال والنسيان. وما كان ذلك إلا بما نشر الفقيد في أوساط الأمة من علم، وبث فيها من رأى ، ونشر فيها من وعي.

وتعظم هذه العظائم من أعمال الإمام في عيني الشاعر، فيحمله ذلك على طرح جملة من الأسئلة التقريرية التي ينتهي فيها إلى التأكيد أن ما نهض به الفقيد من أعباء على طريق النهوض بأمته، وما قدمه من خدمات لها ، إنما يذكر ذلك المرء بما قام به عيسى عليه السلام حين أحي الموتى، وبما قام به (البشير) حين ألقى قميص يوسف عليه السلام على وجه أبيه سيدنا يعقوب عليه السلام، فارتد بصيرا، يعبر الشاعر عن هذه المعاني- وهو يخاطب الإمام -  بأسلوب تغلب عليه  الصورة الدينية ألفاظا وتراكيب :

أحييت بـالعلم شعبـا سيق معظمـه                    للقبر في كفـني جهـل وإهمـال

وجئت بالنـور فـي يمنـاك تـرفعه             تجلو الغياهب عن أبصار ضـلال

هل كنت(عيسى)الذي أحيا الرفـاة بما                أحيا وبدل آجـالا بـآجــال؟

أم (البشير)الذي ألقـى القميص على                 (يعقوب) طبـا بنور للأسى جالي؟

أم (البشير) الذي ألقى العظـات على                  شعب الجزائـر مرموقـا بإجلال؟

ويبدو أن الشاعر وجد نفسه في هذه القصيدة لطبيعة الحياة التي أصبحت تجري من حوله في بلده الجزائر ، أقل تقييدا وأكثر حرية، مما كان عليه في عمله السابق. فأطلق العنان لنفسه، لا ليضرب في أغوار الماضي البعيد، ويتحاشى الحديث عن الحاضر، كما عمد إلى ذلك في قصيدته الفارطة عن الإبراهيمي، حينما قرنه بالعلماء المتقدمين، واكتفى  في إبراز جهوده في خدمة الوطن، على إشارات سريعة وعامة، وإنما عمد في هذا العمل إلى الكشف عما كان للفقيد في حاضر الناس من جهود مختلفة، لم يقف به عزمه فيها على حدود الجزائر وطنه الصغير فحسب، بما كان له من أيادي على نهضته، ثم على ثورته، وإنما استطاع أن يمد في أثر تلك الجهود لتشمل وطنه الكبير، العالم العربي الإسلامي، لما كان للإمام الإبراهيمي من آثار في المدينة المنورة، ودمشق، والقاهرة، وباكستان وفلسطين وغيرها. وإذا كان الشاعر كما لاحظنا في عمله السابق، لم يستطع فيه أن يطيل الوقوف في تصوير ذلك الواقع الوطني، واكتفى هناك بملامسته ذلك الواقع من حوله، دون التعمق فيه، فإنه في هذا العمل استطرد لتصوير بعض ما يجري في محيطه القريب من قضايا وأحداث، وقد اختار منها ما هو أقرب إلى موضوعه، كقضية التعريب التي كانت مطروحة يومئذ بحدة، كمشروع وطني ومطلب جماهيري، وغيرها من القضايا الاجتماعية فأدلى بدلوه في كل منها، وخلص من ذلك إلى دعوة قومه، باقتفاء أثر الفقيد والاقتداء به وبأصحابه، وانتهاج نهجهم، ويرجع من جديد إلى ذكر ما ألمع إليه في مطلع قصيدته، مما كان للإبراهيمي من أيادي وأعمال، كانت المهاد لثورة نوفمبر المجيدة التي انتهت إلى ما انتهت إليه، من ظفر وانتصار، مذكرا المتلقين بما كان للروح الدينية من أثر في ذلك، يعبر الشاعر عن ذلك، فيقول:

وماله من يـد طولـى وتوعيـة             للشعب في الثورة العظمى وأعمال

علنـا نقتفـي أثـر البشيـر (به)                  في كل غرس له خصب وإغـلال 

وكم خطط الخطط المثلى لها وجلا          أهـدافهـا وتجـري خير منـوال

حتى علت جبهة التحرير وانتصرت           وقـررت وضـع أوزار وأثقـال 

وأقبل الجيش مرفـوع اللـواء على           أرض الجزائر طلق الوجه والبـال

وكيف يهـزم أبطـال لنـا شفعوا                رمي الرصـاص بتكبير وإهـلال؟

ومما يلفت النظر في هذه القصيدة عموما، أن الموضوعات فيها متعددة، وهذه سمة توشك أن تكون عامة في نتاج معظم شعراء المدرسة الكلاسيكية المتجددة التي يعد الشاعر واحد من أصحابها، وتجدر الملاحظة أن وحدة الموضوع تأتي في مقدمة العناصر الفنية، التي طالبت بعض المدارس المجددة، وعلى رأسها (مدرسة الديوان) بضرورة توفرها في القصيدة الحديثة، وقد اتخذت منها تلك المدارس بابا واسعا نفذت منه إلى توجيه نقذ عنيف لبعض الشعراء المحدثين.

ونلحظ أن القصيدة التي بين أيدينا، على الرغم من افتقارها إلى وحدة الموضوع وتشعب الحديث فيها ما بين الماضي والحاضر، وامتداده على مساحة طويلة، تشمل الوطن والأمة، فإنها تتوفر على جملة من السمات الموضوعية والفنية، التي تسمو بقيمتها الأدبية. ويأتي في مقدمة ذلك: هذا الذي  يبدو فيها، من عمق اندماج الشاعر بموضوعه، وصدق عواطفه فيه، من مثل قوله يخاطب الفقيد:

إني دعيت إلى الذكرى لأشهدها            وإنما تعرض الذكرى على السالي

تالله ما خطرت سلواك في خلدي           يوما ولا عبرت ذكراك من بالـي

كـأن موتـك ما مرت فـجيعته       ولا خلت لحظة من عامة الخالـي

ويظهر ذلك أيضا فيما أبداه في القصيدة، من قدرة ملحوظة في إبراز مناقب الفقيد الحميدة، ومآثره الجلي على نهضة الجزائر وثورتها، وما انعكس من ذلك على الجانب الفني في القصيدة، فبدا فيما تحلت به من إحكام التعبير وحسن التصوير، ولعلنا نذكر أننا افتقدنا معظم هذه الخصائص في العمل السابق، ونحسب أن ذلك، إنما مرده إلى ما ألمعنا إليه من قبل من اختلاف الظروف الموضوعية التي كانت تحيط بالشاعر هنا. وتحف به هناك. فقد كان في ذلك العمل يعيش في عام 1965، وهو في تاريخ دولة الجزائر الفتية، غير سنة 1966م، التي شهدت ميلاد عمله الذي بين أيدينا. ونحسب أن هذين الموقفين المختلفين للشاعر، إنما يدلان على وعيه لما يحيط به، وقدرته في الوقت نفسه على التطور والتكيف مع الأحداث.

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.