الإمام الرئيس محمد البشير الإبراهيمي من خلال شعر محمد العيد آل خليفة – 6
بقلم: أ.د. محمد بن سمينة-
وأما ثامن وآخر عمل للشاعر وصلنا مما يتصل بالإبراهيمي، فهو قصيدته (مشاعل حكمة)-نشرت بكتاب الإمام (عيون البصائر) ص11. وهي متوسطة نسبيا، إذ تقع في أربعين بيتا..
<!--more-->
ولهذا العمل قصة، ذلك أن الشاعر دفع إليه دفعا، في وقت يبدو أن الإلهام الشعري فيه قد جفاه أو يكاد، وأنه لم يعد يملك القدرة على السفر إلى وادي (عبقر)، أو أنه لم يشأ أن يسافر إليه، كما كان، ليستوحي منه روائعه التي كان يطلع بها على الناس، أيام كان بينه وبين ذلك الوادي، أوثق الصلات، وكان بينه وبين الوحي بالشعر، أطيب العلاقات، إن الشاعر قال هذا العمل في غضون 1972م، على أثر رسالة وافته من السيد الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي يلتمس فيها منه، أن يتفضل بكتابة تقديم لكتاب أبيه المرحوم (عيون البصائر).
إلا أن الشاعر رد على هذا الالتماس بهذه القصيدة التي بين أيدينا، وهو يرجو أن تقوم مقام التقديم الذي اعتذر عن القيام به بعدة أعذار1.
وإذن فقد نظم الشاعر هذا العمل بدوافع خارجية، وبعد أن مضى على هجره ساحة الشعر، وقت ليس بالقصير، ذلك أن أحدث قصيدة اشتمل عليها ديوانه ترجع إلى سنة 1967 وهي (هي الهمة القعساء)2. ومهما يكن من أمر، فماذا عسى أن يجد القارئ في هذا العمل، مما وقفنا عنده في أعماله السابقة في هذا الموضوع؟
لقد استهل الشاعر قصيدته بالاشادة بكتاب الفقيد، وقد وجد نفسه وهو ينظم عملا سيكون في مكان التقديم لهذا الكتاب مدفوعا إلى الحديث عما كان بينه وبين صاحب هذا الأثر من صلات أدبية، ثم خلص من ذلك إلى التنويه كعهده، بشخصية الابراهيمي العلمية والأدبية، وبمكانته الاجتماعية، وبما كان يربطه بالامام ابن باديس من صلات أهلته لأن يخلفه على رأس جمعية العلماء، وقد أدى به هذا الحديث عن هذين العالمين، إلى تذكر من كان إلى جانبهما في هذا الميدان، فحمله الوفاء للجميع، والرغبة في الاقتداء بهم في الوقت نفسه على أن يهتف بالتحية لأولئك الأعلام ، مشيدا بدورهم في النهضة الوطنية الحديثة التي كانت المهاد لثورة نوفمبر العظيمة3. فقد غرس أولئك الأعلام المجاهدين البذور الأولى لهذه الثورة في النفوس وفي العقول، وفي السلوك، وجاء من بعدهم خلف اقتفى الأثر، وسار على الدرب، وفجر الثورة، وحقق النصر، ومضى يشيد على أرض الجزائر الحرة الدولة الجزائرية العصرية، يشير الشاعر إلى بعض ذلك فيقول:
سلام على الأعلام ما طاب ذكرهم وآثـارهم فـي العلم والعلم يخلـد
لقد زرعوا زرعـا فأخرج شطـأه كأخصب محصول لمن هب يحصـد
وأبقوه للأجيـال ذخـرا مبـاركـا وزادا مـن الذكـرى لـمن يتزود
وأقبل جيـل بعـدهم غـرس ثورة عصـامية يرجـو النمـو وينشـد
ويبنـي على أرض الجـزائر أمـة مثـاليـة فـي وعيهـا ويـشيـد4
ويبرز النسق القرآني جليا في الأبيات في معانيها، وفي طريقة التعبير، والتصوير بها، ونلحظ أن الشاعر يلتقي في صورته الدينية في البيت الثاني، بصورة مماثلة لدى الشاعر حافظ ابراهيم في بيت يتحدث فيه عن (محمد عبده) وهو:
زرعت لنا زرعا فأخرج شطأه وبنت ولما نجتنـي الثمرات5
وينتهي الشاعر قصيدته كعادته في معظم أعماله باستخلاص العبرة فيما يفيد الوطن، وينفع الأمة في يومها وفي غدها، في دينها وفي دنياها.
ويحسن أن نذكر أن إشادة الشاعر بمواقف الشيخ الإبراهيمي وبمآثر لم يقتصر فيها على هذه القصائد التي وقفنا عندها فحسب، وإنما يعثر المرء على شيء من ذلك في أعمال أخرى كان الشاعر قد نظمها في مناسبات مختلفة كان لذلك المصلح بها صلة، نذكر بعضها حسب ترتيبها الزمني: (تحية دار الحديث)6 – (بين أميرين)7 – (تهنئة الأزهر بشيخه الجديد)9 – (فتح جديد)10 – (حسن الظن بالله)12.
ونشير في نهاية دراستنا لهذه الأعمال في الإبراهيمي، أن الشاعر استطاع في هذه الأخيرة منها، بالرغم من تقدم سنه، وهجره قول الشعر من زمان، بأن يجمع فيها شتات شعوره وفكره، وينتقل فيها من معنى، إلى آخر، متصل به، دون أن يخل ذلك إخلالا كبيرا بوحدة الموضوع، بيد أنه لم يستطع أن يجول فيها كما كان يجول ويطيل النفس في مثيلاتها، فبدت لذلك عاطفته فاترة بعض الفتور، وكانت حركته في عرض المعاني محدودة، وانعكس ذلك على الجانب الفني في القصيدة، فجاء الأسلوب بها يميل إلى التقرير، ويخلو من كثير، مما كان يتجلى به أسلوبه في مثل هذه المواقف، من طول نفس، وغزارة مادة، وتنوع مشاعر. ولعل مرد ذلك إلى ما أمعنا إليه من قبل، من أن الشاعر لم ينطلق في هذا العمل من نفسه، كما كان في معظم الأعمال السابقة، وإنما أملي عليه ذلك إملاء من الخارج، وفي مرحلة كان فيها، قد أفرغ يديه من صناعة الشعر، ومن مصاحبة الشعراء،
ومصادقة العباد، وولى فيها وجهه نحو ربه، منصرفا إليه بكليته، صارفا إليه قلبه، وجميع جوارحه، مشتغلا بعبادته عن سواها.
وإن المرء يشم عبير هذه الحياة الروحية، يعبق في ثنايا هذه القصيدة معنى ومبنى من مطلعها إلى خاتمتها، كما يمكن أن يستنشق ذلك الشذى في معظم قصائد الشاعر في هذه الآونة.
ومهما يكن من أمر موقف النقاد من القيمة الأدبية لهذه القصيدة، فإن قيمتها التاريخية، واضحة، كعمل من الأعمال التي جادت بها قريحة الشاعر في أخريات أيامه (سنة 1970)، وقد مر معنا أن الشاعر لم ينشر له بعد هذا التاريخ سوى قصيدة واحدة، وهي التي أسهم بها في تخليد الذكرى العاشرة للاستقلال، ولعل بذلك تكون قد طويت آخر صفحة في سجل عهد طويل دام قرابة نصف قرن لم يفتر فيه الشاعر عن العطاء ولم يتأخر عن النضال إلا في بعض الحالات الاستثنائية التي يمكن أن يتعرض فيها أي إنسان لبعض آثار الضعف، وفيما عدا ذلك فقد كان في معظم مراحل حياته في الطليعة، فقد كان كذلك يوم أن كان الناس في مجتمعه يعطون الكثير ولا يأخذون إلا القليل، ثم صار في المؤخرة يوم أضحى هؤلاء الناس أو بعضهم يأخذ الكثير ولا يعطي إلا القليل.
- الخـلاصـة
وبموازنة بسيطة بين هذه القصائد، وبين مثيلاتها في ابن باديس، وفي العقبي، سنرى أن الشاعر كان في حديثه عن العقبي يشبهه في فصاحته وبلاغته بـ (قس) وبـ (سحبان) كما كان حديثه عن شخصية ابن باديس، يقرنه بأعلام الإصلاح الديني والاجتماعي في الوطن العربي الإسلامي، من ابن تيمية إلى محمد عبده. وأما حديثه عن الإبراهيمي فإنه يضعه في مصاف من رأينا من أعلام اللغة والبيان في تاريخ الأدب العربي، ولم يشذ عن هذا القاعدة إلا مرة واحدة.
ويوشك أن يكون الحديث بهذا قد أشرف على نهايته في هذا الفصل، غير أننا لا نود أن نغادره حتى نقف وقفة نستخلص فيها بعض الملاحظ تتصل بما دار حوله النقاش في هذا الفصل.
1- إن الذي ينعم النظر في نتاج محمد العيد في هذه الفقرة يلحظ اندماج الشاعر بموضوعاته وانفعاله بها، ووضوح عاطفته فيها مما قد يجعل المتلقي يحس أن الشاعر لم يصدر في هذا الشعر عن بواعث خارجية منفصلة عن ذاته، وإنما كان ينطلق فيه من داخله، ولم يحمله على النظم في موضوعاته، إلا إيمانه بأنها جزء منه.
2- إن الشاعر قد خص ابن باديس والعقبي والإبراهيمي بقصائد من شعره دون غيرهم من العلماء المصلحين، وهذا مرده في نظري إلى مجموعة من العوامل يأتي في مقدمتها: أن هؤلاء الأعلام الثلاثة، إنما كانوا هم أكبر قادة الحركة الإصلاحية، والنهضة الوطنية الحديثة في الجزائر، لما لهم من أدوار مميزة في مسيرتها، وللمهام الخاصة التي اضطلعوا بها، والمكانة المرموقة التي كانوا يحظون بها في نفوس أفراد الأمة، بالإضافة إلى ما اكتنفت حياة هؤلاء من حوادث وأحداث، وما كان بين الشاعر، وبين هؤلاء من صلات خاصة، لم ترق إليها علاقته بغيرهم من إخوانهم العلماء. ولهذه العوامل مجتمعة خصهم الشاعر بما لم يخص به غيرهم.
ويحسن ألا يفهم من هذا أن الشاعر قد أغفل جهود من كان إلى جانب هؤلاء في الميدان، وإنما نراه قد نوه في كثير من شعره بمساهمة جميع المصلحين في النهضة الوطنية، ودعا الشعب إلى الالتفاف حولهم، والوقوف إلى جانبهم، وقد وقفنا عند ذلك في مواطن كثيرة من هذه الرسالة، كان آخرها ما لاحظناه في قصيدته (مشاعل حكمة) التي هتف فيها من الأعماق محييا تحية إخلاص وود، جميع أعلام الجزائر.
3- لقد قال محمد العيد بعض قصائده في أعلام الإصلاح أثناء حياتهم، تخليدا لما اكتنف تلك الحياة، من ملابسات ومواقف، وقال بعضها الآخر في أعقاب وفاتهم، إحياء لذكراهم، واستمرارا في الإشادة بجهادهم وجهودهم من أجل العقيدة والوطن، وإن ما يلفت الانتباه في هذا الجانب، أن الشاعر نظم في ابن باديس والإبراهيمي في حياتهما، وبعد وفاتهما، واستمر في ذلك إلى ما بعد الاستقلال، ولكنه لم يفعل مثل ذلك فيما يتصل بثالثهما العقبي الذي تنتهي قصائده فيه بانتهاء الثلاثينات، ولم نعثر له على شعر بعد ذلك في رثائه ولا إحياء ذكراه، وقد سبق تعليل ذلك في مكانه من هذا البحث.
4- كان الشاعر واعيا لعمله الفني في حديثه عن هؤلاء الأعلام مما طبع قصائده في كل واحد منهم، بطوابع مميزة أبرزت ما يتسم به من صفات وما اشتهر به من مواقف، فالإمام ابن باديس يغلب على شخصيته العلم والإصلاح، ويغلب على شخصية الإبراهيمي سعة العلم باللغة والأدب. وأما العقبي فيجمع بين إصلاح الأول وأدب الثاني، فهو إلى جانب ما اشتهر به كداعية إصلاح، كان خطيبا لا يجارى، وشاعرا في الوقت نفسه. وإن نجاح محمد العيد في توفير هذه الطعوم المختلفة لقصائده في أولئك الأعلام وقدرته على اسناده لكل منهم من النعوت والمناقب ما يتلاءم مع شخصيته، عن ذلك يمكن أن يدل على صدق عاطفته، كما يمكن أن يعطي لتلك الأعمال في الوقت نفسه، طابع الخصوصية الذى يبتعد بها عن ظاهرة التعميم، ويدنو بها مما يتميّز به، كل شخصية من تلك الشخصيات من مواقف وآثار.
5- ولعلنا نكون قد تبيّنا من خلال ما تقدّم، أن قصائد الشاعر في هؤلاء المصلحين، تتوزع على مسافة زمنية طويلة، تمتد من أول عهده بالشعر إلى آخر أيامه به، عن (صدى الصحراء)13 التي نظمها سنة 1925، إلى (مشاعل حكمة)14 التي نظمها سنة 1970.
وبديهي أن هذا الاختلاف الزمني بين هذا النتاج سيترتب عنه تباين في أعماله، من مرحلة إلى أخرى، في بعض معانيها، وفي بعض وجوه صياغتها، لما ينشأ عن ذلك من اختلاف التطورات والأحداث بين فترة وأخرى، يكون له اثره، في تطور نظرة الشاعر للحياة والناس من حوله. ويمكن أن نميّز في هذا الشعر مرحلتين اثنين، يأتي الاستقلال حدّا فاصلا بينهما، وهو حدّ مميّز بصورة كبيرة في حياة الجزائر والجزائريين، كما يتميز في حياة كلّ قوم، ينتقلون من زمن العبودية إلى زمن السيادة. وإنّ ما يمكن ملاحظته في هذا النتاج في المرحلة الأولى، أن الشاعر كان يركّز فيه على الاشادة بجهود رجال الحركة الإصلاحية في وضع أسس النهضة الوطنية، وخدمة قضايا الأمة، والمنافحة عن قيمها ومقوّمات شخصيتها، ودعوة هذه الأمة إلى مؤازرة قادة نهضتها، والسير في طريقهم، ويسهم به إلى جانب ذلك بفعالية فيما ينهض به هؤلاء الأعلام من مقاومة الانحراف الديني، وتصحيح العقيدة، ومقارعة أعداء الوطن. ويظهر ذلك خاصة فى حرص الشاعر على بعث الأمل والثقة في نفوس أفراد الشعب، وتوعيتهم بأهدافهم الوطنية، والتمكين لقيم الجهاد في ضمائرهم، ورسم الطريق أمامهم نحو استرداد الحق المغتصب.
وأما قصائده في المرحلة الثانية فقد استمر فيهما يذكر بجهود أولئك الرجال، وتضحياتهم من أجل الأمة، بيد الأمة نحا فيها منحى جديدا يظهر في تأكيده، على أنّ ما ينعم به الشعب الجزائرى اليوم، من مظاهر الحرية والكرامة، إنما كان ثمرة من ثمار تلك البذور التي كان لأولئك الرجال شرف المساهمة في غرسها في نفوس أفراد الأمة، ورعيها من بعد، حتى أيعنت، وأثمرت ثورة انتهت بتحقيق الاستقلال، وينطلق من هذه المعاني إلى تمجيد هذه الثورة، والاشادة بأبطالها، والتنويه بما تحاول الدولة الجزائرية الفتية أن تقيمه من نظام وتعلي صرحه من عمران.
ويركز في الأخير على ظاهرة القدوة بسيرة هؤلاء الأعلام واقتفاء أثرهم في خدمة الأمة، والاخلاص لمبادئها، والتضحية من أجل أهدافها.
وأما من الناحية الفنية فان ما يمكن تمييزه والإشارة إليه في هذا الجانب أن قصائده في المرحلة الثانية، تميزت بوضوح الأثر القرآني فيها، في لغتها، وفي صورها، أكثر مما كان من ذلك في قصائده في المرحلة الأولى، ولا يعني هذا أن الشاعر لم يكن في تلك الفترة واقعا تحت تأثير القرآن الكريم -وقد مضى معنا أنه كان طوال حياته مواظبا على تلاوته والاستنارة بهديه- وإنما الذي نريد أن تنص عليه أن ذلك التأثير وجد في المرحلة الأخيرة من حياته، مناخا ملائما تمكن خلاله من التغلغل في نفس الشاعر، وفي ذهنه، لملابسات حياته الخاصة أثناء الثورة، وبعد الاستقلال وما أصبح يعيش في ظلاله من أجواء التصوف، ويميل إليه من عزلة، الأمر الذى سمح له أكثر من أيّ وقت مضى بالعكوف على تلاوة القرآن الكريم والتعمق في فهم معانيه وتذوّق بيانه، فانتقل ذلك الأثر بهذه الكثافة إلى شعره الأخير فظهر فيما اصطنع فيه من طرائق التعبير وضروب التصوير.
6- يلحظ المرء بوضوح في هذه القصائد ظاهرة وفاء الشاعر لجمعية العلماء ويحسن في هذا المجال، أن نميز بين أمرين اثنين: بين الوفاء للشيء، وبين فرط التحمس له.
أما الوفاء فيبدو أن الشاعر لم يعتره الاحساس في يوم من الأيام بالجفاء لهذه الجمعية، كما رأيناه هو نفسه يؤكد ذلك في أقواله، ويشهد عليه شعره في جميع مراحله، ويمكن للدارس أن يلمس ما نذهب إليه، ليس في شعر الشاعر الذي قاله في هذه الجمعية، في الفترة التي كانت تشهد فيها، أوج نشاطها فحسب، وإنما في شعره الذى نظمه بعد ذلك إلى أواخر حياته. لقد استمر الشاعر يلهج بذكر هذه الجمعية ويشيد بمآثرها من أول قصيدة قالها في اجتماعها التأسيسي الأول (تحية العلماء)15. إلى ما قبل آخر قصيدة نشرت من شعره (مشاعل حكمة)، تلك التي ألمع فيها إلى خلافة الإبراهيمي لابن باديس على رأس هذه الجمعية، وأشاد فيها بجهودهما، وجهود غيرهما من الأعلام على طريق النهضة والثورة، وقد ظهر ذلك الوفاء في أشكال مختلفة ومظاهر شتّى، فبدا طورا في معرض حديثه عن مظاهر النهضة ومساهمة هذه الجمعية في مختلف وجوهها في الفترة التي سبقت الثورة ومهدت لها، كما يتجلى ذلك في أعماله هذه (إلى العلم)16 (بشرى للجزائر)17 (في يوم باتنة العظيم)18.
كما ظهر ذلك ثانيا في مجموعة قصائده التي نظمها في أعلام هذه الجمعية وأشاد فيها بمواقفهم ومآثرهم في سبيل الأمة.
7- وإن آخر ما يمكن استخلاصه من شعر الشاعر في هؤلاء المصلحين أنه كان يحس بقوة أن حركة هؤلاء، إنما هي امتداد لحركة من سبقهم على هذا الطريق في العالم العربي الإسلامي. ويؤمن أن الصلة حميمة بين ما كان قد دعا اليه أولئك هناك، وبين ما كان ينادي به هؤلاء هنا.
وتتضح هذه الرابطة بوجه خاص في حديثه عن الإمام ابن باديس الذى يرى في جهاده وأعماله صورة لجهاد وأعمال بعض المصلحين الرواد في العصر الحديث كالأفغاني، ومحمد عبده، وقد يذهب في هذه المقارنة إلى أبعد من هذا التاريخ، فيعمد في بعض شعره إلى تشبيه بعض مواقف الإمام عبد الحميد في شجاعته وتحديه للظلم بمواقف مماثلة كان قد وقفها بعض الأئمة وبعض المصلحين الأولين، من أمثال (أبي حنيفة) و(مالك) من الأئمة، و(عز الدين بن عبد السلام)، (اين تيمية) من المصلحين. إلا أن الذي يلفت الانتباه إليه في حديث الشاعر عن هذه الصلة بين المصلحين في الجزائر وفي غيرها، هذان الملحظان: أما أولهما فيتمثل في انعدام أي ذكر في هذا الشعر للمصلح الكبير(محمد رشيد رضا)، وهو تلميذ محمد عبده، ومن أبرز من تمثل اتجاهه وسار عليه في الوطن العربي الإسلامي من بعده. وقد رأينا أن المصلحين الجزائريين كانوا منذ أواخر القرن التاسع عشر الميلادى واقعين تحت تأثير حركته، وكانوا يصرحون بذلك ويعتزون به، كما مرّ معنا أن مجلته (المنار) كانت تأتي إلى الجزائر وكان المثقفون الجزائريون ينهلون بحماس من عطائها ويرقبونها في تطلع شديد.
وقد حدث أن توفي هذا المصطلح سنة 1935، فلم ينظم الشاعر في رثائه شيئا، بينما قد فعل ذلك بعض المصلحين، فكتب ابن باديس16، وكتب أبو اليقضان17 في الموضوع.
وقد مر معنا أن الشاعر نفسه قد رثى الأمير (شكيب إرسلان) المتوفي سنة 1946، وقد كان مقلا في هذه الفترة، ولم يفعل مثل ذلك في الفقيد (رضا) في فترة الثلاثينات وهي من أخصب مراحل حياته انتاجا.
ونحسب أن يكون وراء هذا السلوك ما وراءه من الأسباب. ونبادر إلى القول بأن نتاج الشاعر ليس فيه ما يعين على تعليل ذلك.
وعلى أية حال يمكن أن يكون الشاعر قد وقف ذلك الموقف بدافع تعاطفه مع التيجانية التي كان لهذا المصلح معها مواقف جزيئة19.
وأما الملاحظ الثاني فذاك الذي يتبدى في اغفال الشاعر الحديث عن (الحركة الوهابية) وعن مؤسسها الشيخ محمد بن عبد الوهـاب، وهو يتحدث عن الصلة بين المصلحين الجزائريين وغيرهم، مع تعرضه في ذلك الحديث لبعض الذين سبقوا هذا العالم على هذا الطريق، وكان هو امتداد لهم، ولبعض الذين جاؤوا من بعده، وكانت حركاتهم امتدادا لحركته.
ونحسب أن هذا السلوك من الشاعر إنما هو دليل واضح، يضاف إلى ما سبقه من أدلة على معايشته لأحداث وطنه ووعيه لما كان يدبر المحتل الأجنبي من مكايد لضرب الحركة الاصلاحية والنيل منها بشتى الوسائل، وكان من بين ذلك محاولته الحاق تهمة (الوهابية) بها لما عرفت به هذه الحركة من انتاجها منهج الصرامة في مواقفها، ومن تحفظها من الاقبال الشديد على المدينة العربية، وهو يهدف بذلك إلى تصوير هذه الحركة ورجالها بصورة من يميل إلى التعصب والعنف ومعاداة الحضارة الحديثة، عله بذلك يمكن أن يشوه سمعتهم واضعاف أثرهم في الأمة.
ويمكن أن يكون الشاعر قد تحاشا ما تحشاه من عدم الالماع إلى الحركة الوهابية وصاحبها بدافع ادراكه لهذه المحاولات، فسكت عن ذلك حتى يفوت الفرصة على أصحابها، ويقف بذلك الموقف في صميم حركة الفعل المضادة التي يقوم بها الجزائريون تفنيدا لتلك الدعاوى، وإحباطا للأغراض المستهدفة منها20.
ونصل بهذا إلى نهاية هذا الفصل الذي حاولنا أن نعرض فيه بالدراسة والتحليل لشعر محمد العيد الذي أوقفه على الاشادة بالحركة الإصلاحية حامية الإسلام، والتنويه بجهود قادتها الذائدين عنه.
ويحسن أن نذكر أن العقيدة الإسلامية، إنما هي شجرة ثمارها القيم السامية والأخلاق الفاضلة، ولذلك كان من الأهداف الأساسية للدين الإسلامي تكوين مجتمع إنساني صالح، تنتشر بين أفراده الخلال الحميدة، وتتحكم في العلاقات القائمة بينهم قيم الحق والخير والعدل.
ولا نشك أن إدراك الشاعر لهذه الحقيقة هو الذي دفعه بأن يولي عناية فائقة بالجانب السلوكي في حياة الناس، ويحرض على أن يكون لشعره امتدادات وظلال في مسار حياتهم الاجتماعية والوطنية.
وإن الذي يستقرئ شعره في هذا المجال يجده قد أوقف جانبا كبيرا منه على التمكين للسلوك القويم، في حياة الأفراد في مجتمعه، بنشر الفضيلة ومحاربة الرذيلة، والتأصيل في نفوسهم لعوامل التآزر والوحدة بينهم، وحثهم على الأخذ بأسباب العلم، والعمل، والاقبال على الحياة، بما يكون من شأنه أن يساعدهم على النهوض بمجتمعهم، وتحرير وطنهم.
الهوامش :
[1]- جاء ذلك في فقرة من رسالته المنشورة بالمصدر السابق، ص: 6.
2- الديوان، ص: 541.
3- ينظر الشيخ أحمد حماني (مجلة الثقافة) العدد: 138 – أفريل 1977، ص: 105.
4- عيون البصائر، ص: 12.
5- ديوانه، ج2، ص: 130.
6- الديوان، ص: 79، ألقاها في حفل تدشين (دار الحديث) يوم 27 سبتمبر 1937.
7- الديوان، ص: 396، نظمها الشاعر على إثر حادث سيارة وقع للإبراهيمي، ونشرت بالشهاب ج2، م13، شعبان 1356هـ / أكتوبر 1937م، ص: 378.
8- الديوان، ص: 206، ونشرت بالبصائر العدد: 208- 17 نوفمبر سنة 1952م.
9- الديوان، ص: 181، وهي بالمخطوطة، ج1: 92. وتذكر كلمة التقديم بها أن الشاعر قالها حوالي 1947. وتنص تقديمها بالنسخة المطبوعة أنها نشرت في مجلة (العبقرية) العدد: 1 – 1366هـ (تلمسان).
10- الديوان، ص: 533، ثلاثة أبيات بذلك العنوان، يذكر تقديمها بالديوان، أن الشاعر ارتجل أولها ابان تهيئة لوداع صديقه الابراهيمي على اثر زيارته له في مرض وفاته، ثم أكمل لها البيتين الأخيرين من بعد ذلك.
11- الديوان، ص: 12
12- ينظر (عيون البصائر) ،ص: 11- الإبراهيمي.
13- الديوان، ص: 247.
14- الديوان ص: 202، نشرت بالبصائر العدد: 140-5 فيفري 1951.
15- الديوان ص:: 211، نشرت بالبصائر العدد: 249-4 ديسمبر 1953.
16- الديوان، ص: 216، ألقاها الشاعر في الاحتفال بتدشين مدرسة باتنة يوم 5 سبتمبر 1954.
17- ينظر (الشهاب)ج7 م11- رجب 1354هـ/اكتوبر 1935.
18- ينظر د. محمد ناصر (أبو اليقضان والقضايا الاسلامية العربية) الثقافة العدد: 22-أوت سبتمبر 1974.
19- ينظر الشيخ محمد الحافظ التيجاني (الإنصاف) الحلقة: 3، ص: 13 وما بعدها.
20- ينظر صفحات في إسهامات جمعية العلماء المسلمين للمؤلف مصدر سابق.