الإمام ابن باديس: وشهد شاهد من أهلها
بقلم: الشيخ عبد الرحمن شيبان-
أهدتنا دار الأمة مشكورة، كتابا من مطبوعتها الهامة، تحت عنوان "تاريخ الجزائر المعاصرة" يتألف من مجلدين اثنين، أولهما: ترجمة لمصنف شارل أندري جوليان Charles André Julien الذي أصدره تحت عنوان:"تاريخ الجزائر المعاصرة"، أما الثاني: فهو ترجمة لكتاب شارل روبير أجرونCharles Robert Ageron الذي وضعه تحت نفس العنوان.
وقد استوقفني الفصل الثاني من المجلد الثاني، إذ وجدت فيه بسطة عن الإمام ابن باديس –رحمه الله- وحركته الإصلاحية بينت بصدق وموضوعية مدهشة ما كان يقصده الإمام ابن باديس من أهداف وغايات سياسية وطنية من الحركة الإصلاحية التي تزعمها، واعتراف صريح من الفرنسيين بذلك، في حين أن بعض الجزائريين ينكرونها ويجادلون فيها، فأحببت أن أشرك القراء فيها وفي غيرها حتى يتأكد لهم أن الغاية الأساسية الشاملة لتأسيس جمعية العلماء، والإصلاح الذي كان يدعو إليه ابن باديس ورفاقه من العلماء المصلحين، ما كان يستهدف انتزاع امتيازات شأن ما كان يطالب به الاندماجيون، وإنما استهدف إحياء مقومات الشخصية الوطنية.
حتى تبقى الجزائر متميزة عن فرنسا، فيفرض عليها تميزها ذلك التفكير والعمل على الاستقلال الفعلي والتام عن فرنسا، فتركيزها على الإصلاح الديني والإصلاح التعليمي، والإصلاح الاجتماعي، كل ذلك كان يصب في مشرع الغاية الكبرى التي هي حرية الجزائر واستقلالها، يؤكد هذا ما ذكره شارل روبير أجرون في الفصل الثاني في صفحة 526 عند حديثه عن "حركة العلماء الإصلاحيين" فهو يقول عن ابن باديس:
الشهادة الأولى
"كانت شخصيته من طراز الشخصيات النبوية، زاهدا وذا نظر ثاقب، كما كان يجد حلاوة في الصلاة وتلاوة القرآن إلى حد النشوة الحقيقية، وكان مصلحا دينيا وسياسيا، ونذر ابن باديس في سبيل عقيدته إخلاصا لا يضاهى، وحماس المعلم، وخصال الصحفي، ورجل الدعاية، إذ كان كاتبا بارعا، وكان له باع طويل في فن الخطابة، وكانت مزاياه الخلقية، وفضائله الفكرية، عاملا جعله بسرعة محط أنظار إخوانه في الدين واهتمامهم، حيث احتفى به "رائدا للأمة" في مسقط رأسه أولا، ثم ذاع صيته كقائد للعلماء المسلمين في ربوع الجزائر كافة، وصار إمام العصر لدى إخوانه المؤمنين".
ومما يثبت أن النضال السياسي للإمام ابن باديس كان نضالا وطنيا، هو ما ذكره أجرون عن هذا الإمام الفذ عند حديثه عن عمله الصحفي حيث قال:"لما شرع في يوليو 1925 في نشر "المنتقد" الجريدة المستقلة العاملة في سبيل سعادة الشعب الجزائري..لم يكن يخفي مبادئه وهي:"الحق فوق كل أحد والوطن قبل كل شيء"، وقام بتوجيه نقد لاذع باسم "الحفاظ على الجنسية الجزائرية" إلى الأخلاق والسلوكيات السياسية لدى الجزائريين والفرنسيين، وتعرضت المنتقد بسبب انتقاده الحاد للسياسة الفرنسية إلى المنع من الصدور في عددها الثامن عشر، غير أنه كان كما كتب ذلك هو بنفسه "قد لفت انتباه الجزائريين المسلمين إلى حقهم في تبوء مكانتهم ضمن الشعوب الأخرى، وبين لهم أنهم يكوّنون أمة لها لغتها ودينها وتاريخيها".
وليس شارل روبير أجرون هو وحده الذي انتبه إلى البعد السياسي فيما كان يتولاه ابن باديس ورفاقه من إصلاح ، فهاهي "البصائر" تطلع قراءها عما نشرته جريدة "صدى باريس"(L’écho de Paris ) فيما ترجمته:
الشهادة الثانية
"إن الحركة التي يقوم بها العلماء المسلمون في الجزائر أكثر خطرا من جميع الحركات التي قامت حتى الآن فيها، لأن العلماء المسلمين يرمون من وراء حركتهم هذه إلى هدفي كبيرين: الأول سياسية والثاني ديني".
"والعلماء المسلمون المثقفون هم العالمون بأمور الدين الإسلامي وفلسفته، والواقعون على أسرار معتقداته، فهم لا يسعون إلى إدماج الجزائر بفرنسا، بل يفتّشون في القرآن نفسه عن مبادئ استقلالهم السياسي..".
وهذا البعد السياسي في نضال ابن باديس وجمعية العلماء، هو الذي حدى بفرنسا على جعله في رأس قائمة أعدائها الخطرين، كما تأكد ذلك من شهادة "محمود عدون" التي وردت في كتابه الذي أصدرته "دار دحلب" تحت عنوان "شهادة مناضل من الحركة الوطنية" حيث جاء فيها:
الشهادة الثالثة
"انتقلنا إلى "عين تونين" جنوب "قابس"، قرب "مدنين" حيث يوجد خط مارث "Mareth" في الحدود التونسية الليبية...وكنا نقيم في مخابئ، بينما كانت المكاتب في مقطورات.
وفي الجيش تعرفت أيضا على الطريقة التي ينظر بها الفرنسيون إلى بعض الشخصيات الجزائرية، إذ كنت في حراسة المكاتب، فعن لي ذات يوم أن أنظر في وثائق الخازن، فوجدت وثيقة موسومة بالسرية تصنف الشخصيات السياسية الجزائرية الأكثر خطرا على السيادة الفرنسية، وقد فاجأني كثيرا أن ابن باديس كان على رأس القائمة متبوعا بمصالي الحاج من حزب الشعب...".
وهكذا يتبين لنا من خلال الشهادات هذه الفرنسية التي أوردناها، أن الإمام ابن باديس –رحمه الله- ورفاقه ما كانوا يقصرون عملهم على مجرد نشر الوعي الإسلامي الصحيح وتعليم العربية، كما روجت لذلك بعض الأوساط، بل كانوا يسعون إلى تحرير الجزائر واستعادتها لسيادتها كاملة غير منقوصة، وهذا هو الحق الذي يدمغ كل باطل روج له.
والله نسأل أن يعين جمعيتنا على الحفاظ على هذا الإرث العظيم، وأن يلهمنا أن نجعل الجزائر قبل كل شيء في اهتماماتنا حتى نكون خير خلف لخير سلف، ونتمكن من تجنيب الجزائر كيد الكائدين وطمع الطامعين.