الثقة بالنفس
بقلم: الشيخ إبراهيم أبو اليقظان-
بين الغرور والإعجاب بالنفس وبين استصغارها وعدم الاعتداد بها، توجد الثقة بالنفس، و الشعور بذاتيتها واستعدادها للكمال الإنساني، وعلى حسب هذه الثقة بالنفس قوة و ضعفا، يكون عزم الإنسان في العمل أو كسله عنه، فإذا كان ذا ثقة تامة بنفسه شاعرا بكرامتها، فإنه لا يزال يزداد بها طموحا إلى المعالي وعزوفا عن الرذائل و النقائص، وإذا ضعفت ثقته بنفسه و لم يقدر قيمتها حق قدرها هان عليه أمرها ورضي لها بكل صغار واحتقار، ولا يبالي أصفعه زيد أم داسه بكر؟ وعاش بها معيشة الحشرات في مستنقعات الخسة و المهانة.
إن الثقة بالنفس كما تكون في الفرد تكون في الأمة، فإن الأمة إذا كانت واثقة بنفسها شاعرة، بوضعيتها. ومنزلتها في الوجود، تكون دائما خواضة في العظائم وجلائل الأعمال، طماحة إلى المعالي تواقة إلى إحراز مكانتها في قمم المجد والسؤدد، غير هيابة ولا راهبة ولا قانعة، ولا تقدر بحال أن تقيم على هضيمة أو تنام عن ضيم، ولأن تبذل ما لديها من نفس ونفيس، وتضحي كل مرتخص وغال، خير لها من أن تصبر على القذى، وكل فرد من أبنائها يرى نفسه أنه الأمة وحده لما تنطوي عليه ضلوعه من الشعور بذاته والثقة بنفسه.
و إذا لم تكن لها ثقة بنفسها ولا شاعرة بما لها من القوة و النبوغ والاستعداد الكامنة فيها، فإنها تتضاءل وتتصاغر وتنكمش و تنزوي، فتحيى وهنة وكلة قانعة، وهي إلى العدم أقرب منها إلى الوجود، لا أمل لها ولا رجاء ولا غاية، فتنتزع الثقة بالنفس من كل فرد من أبنائها، فيعيش كذلك غير شاعر من نفسه بذرة من الكمال، ظانا أنه كالخرقة الملقاة لا يصلح لشيء، وإن بقية إخوانه مثله لا يليقون لشيء، سالبا عنهم كل فضيلة، ملصقا بهم كل رذيلة، قياسا على ما يشعر في نفسه من النقص و الحطة، واستنادا على مايرى من بعض الأفراد من العجز والضعف و الوهن.
و من هذا فشا سوء الظن بالأفراد و الجماعات، وساد التشاؤم بينهم، و سارت كلمة (دع عنك المسلم ) مسرى الأمثال. فإذا هب أحدهم لمشروع خيري وأراد مشاركة إخوانه فيه و التعاون معهم عليه، قيل له ( دع عنك المسلم ولا تأمنه ولا تثق به وفر منه فرار الشاة من الذئب ) وأنشد لسان حاله قول الشاعر :
عوى الذئب فاستأنست للذئب إذ عوى وصوَّت إنـــسان فكـدت أطير
وإذا حدثت بالأمة بلية واستدعاه إخوانه لمشاطرتهم في أمرها، فر هاربا وانزوى في قعر بيته، لا جبنا ولا شحا، ولكن لسوء ظنه بهم وعدم وثوقه بأعمالهم واتهامه لهم بأنهم سيخونونه ويوقعـونه في ورطة لا مخلص له منها، و يا ليته لو اقتصر على هذا، ولكنه ينفث سمومه في كل من يثق في كلامه ويختلق له وسائط التأبيط والانفصال عن بقية الجماعة لإضعافها، وإحباط مساعيها وإظهار أنه هو المدبر الحكيم، فإذا أصغى هذا المسكين إلى كلامه، وأثر في نفسه، اتهم الجماعة فانعزل عنها وعاش فريداً مستوحشا، في عزلة تامة مسجونا عن بقية العائلة الملية مدى حياته، وهو لا خيرا جلب له أو لأمته ولا ضيرا دفع، وإذ لم يصغ إلى كلامه بل سار في سبيله واستعان بإخوانه فظهرت من أحدهم خيانة أو ضعف أو سوء تصرف -و تلك طبيعة البشر- أو اعترضه عائق في طريقه فكابد المشاق و قارع الخطوب، فعوض أن يسليه ويدله إلى مكامن الضعف حتى يتدارك ما فات يجابهه قائلا: ألم أقل لك دع عنك المسلم؟ وألم أحذرك من كل ذي برنوص؟ فذق جزاءك واعتبر بمغبة عنادك و إصرارك.
يريد بهذا أن يظهر له أن نظريته هي الصحيحة و أنه إنما أخفق لمخالفته لها واعتداده بأخيه المسلم، لا لعوائق أخرى كالجهل بالوسائل، وعدم إعداد معداته اللازمة، وكأمور طبيعية خارجة عن مقدوره.
فإذا تمكن من سلب ثقته بأخيه، هش وبش إذ حال بينه وبين عضده وتركه في حالة سيئة، لا ملجأ له منها إلا به، وتلك هي غايته ومرامه، وإذ لم يتمكن من ذلك حرمه كل انتفاع منه، وأغلق بابه دونه، بل تتبع سقطاته وتقصى أثره، فإذا عثر استلقى على ظهره ضحكا و سخرية، كأنه يتوهم لغروره أن معترك الحياة فراش ليس فيه إلا الراحة و السكون، و كأنه لم يتل قوله: } ألم أحسب الناس أن يتركوا أن يقولوا آمنا و هم لا يفتنون{ العنكبوت /1
و قوله: } أم حسبتم أن تدخلوا الجنة ولما يعلم الله الذين جاهدوا منكم و يعلم الصابرين{ آل عمران / 142.
و أدهى من ذلك و أمر أن فشا في بعض الأوساط ذلك وبلغ بها إلى أن صارت تتمثل فيما بينها بدون خجل بذلك المثل الذي سار ضدها من أعداء الإسلام و المسلمين من قولهم ( ترافايْ أراب)[2] في كل عمل لم يتقنه صاحبه، ينتحل أخصام المسلمين معائب ونقائص، فيعطون لها حقها من الإذاعة والتشهير، تنقيصا للإسلام وسخرية بالمسلمين، ولا يشعر المسلم الضعيف الغبي، إلا وقد جرت على لسانه مجرى المثل وإن كانت كخنجر غمده في صدره من غير أن يشعر تلك طبيعة ضعيف النفس مع القوي يقلده حتى في أضر شيء لنفسه ودينه و جنسه و بلاده.
نعم لئن كان الشائع في كثير من الأوساط الإسلامية الجهل و الخيانة و الفساد و الانحطاط حتى صارت وبالا عليها وعلى بقية المسلمين، وحجة لأخصام الإسلام عليه، فهل من المروءة فصل المسلم عن أخيه وإبعاده عنه وتحذيره منه وإضعاف ثقته به و إيئاسه من معالجته؟
و هل من الغيرة و الوطنية تنقيص المسلم بما ينقصه به ضده وإفساد سمعته وتشويهها و إعانة خصمه عليه؟
أو ليس من الواجب السعي الحثيث في إزاحة تلك الأوصاف الذميمة، والسهر على إصلاح تلك الحالة الأسيفة؟
أو ليس من المفروض تنزيه اللسان عن تنقيص المسلم وتلويثه بما يلوثه به خصمه، والذود عن عرضه والدفاع عن كرامته؟
أو ليس من الفضيلة نصحه بكل وسيلة وإرشاده لإتقان عمله وضبط عمله، وضبط أموره وتنسيق شؤونه قدر المستطاع؟؟؟
و لكن قاتل الله الجهل و سوء التربية فإنهما تجعلان الإنسان عدو نفسه وقوميته، وتترك في نفسه على الدوام آثارا سيئة لا تحصى ولا يزيحها إلا التربية الصحيحة والتعليم الصحيح.
وهنالك أمور تربي في الإنسان الثقة بنفسه يجب عليها مراعاتها إن أراد لنفسه خيرا وسعادة في الدنيا والآخرة.
منها الثقة بالله تعالى، و إفعام القلب إيمانا به سبحانه فإن يقينه بالله وإيمانه بأنه لا يخلف الميعاد، يملأ قلبه راحة وطمأنينة، وأنه لا محالة فائز بمطلوبه }والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا{ العنكبوت /69
و منها الشعور التام بأنه إنما خلقه الله، و كرمه و فضله على كثير من خلقه وسخر له ما في السماوات وما في الأرض جميعا منه، لا ليعيش ذليلا مهانا ولكن ليعيش حرا كريما وسيدا شريفا وقويا عزيزا إذا استقام على الطريقة.
ومنها أن يعلم أن الفوز و النجاح ثمرة السعي و الكد، و أن الخيبة والإخفاق نتيجة الكسل وعاقبة التفريط وتضييع الفرص، وأن العامل لا محالة ظافر بأحد الربحين إما العاجل أو الآجل فلا يذهب جده و جهاده سدى.
و منها مخالطة العاملين المخلصين ذوي العزائم الصادقة الواثقين بنفوسهم، و مجانبة الوكلين الوهنين المتشائمين، ودراسة حوادث وتراجم العظماء المفعمة بالجلال و العظائم، المتكونة من الثقة بالنفس.
و منها تمزيق أغشية الجهل بالتعليم الصحيح، فإن الجاهل بطرق الحياة كالمتخبط في الظلام، لا يكون واثقا بنفسه ولا بأعماله مادام غير عالم بموارد الأمور ومصادرها، بخلاف المتعلم تعلما صحيحا فإنه يكون دائما على بينة من أمره لا تذبذب يعوقه ولا تزلزل يعرقله.
ومنها الثروة العائلية المادية و المعنوية، فإن هذه تنمي في القلب الثقة بالنفس و الشعور بذاتيتها، وبعكس ذلك الضعف العائلي المادي و المعنوي، فإن هذا يبري من قوة القلب ويذيب منه الثقة بالنفس، أيدنا الله و أيد قلوبنا ونفوسنا بروح منه.