صلتي بالإمام الإبراهيمي
بقلم: الشيخ محمد المختار السلامي-
فإني أرفع في فاتحة كلمتي هذه أخلص ابتهالاتي وأرقاها, وأسماها وأنقاها, إلى ساحة الفضل الإلهي الذي لا يحد عطاؤه ولا ينتهي مدده , وأرغب منكم إخواني أن تشاركوني , في هذا الموكب الخاشع الطاهر الآمل , التوجه إلى الله العلي الأعلى أن يرحم الإمام الشيخ محمد البشير الإبراهيمي رحمة تميزه عنده بمنزلة العز والقرب , ومستقر الكرامة والرضا , ومقعد الصدق والفوز العظيم, كما ميزه في حياته الدنيا برتبة الإمامة في العلم, والبصر في القيادة , والشجاعة في الحق, وصائب النظر الذي يخترق ظلام المشاكل فتتجلى له الحقائق الكامنة والغايات البعيدة بنور الإيمان ومدد الإخلاص.
نحن اليوم في ذكرى كوكب من المجرة النيرة للرجال الأفذاذ الذين أثروا في الحضارة الإسلامية, وتركوا بصماتهم في الفكر الإسلامي الخالص من الشوائب , فالشيخ العلامة الإمام هو عالم سني قاوم البدعة بعد أن اقتنع الاقتناع اليقيني بأن الانحراف بالزيد أو النقص أو التبديل والتحريف لميراث النبوة هو العلة التي تبعتها سائر الأسقام التي أصابت جسم الأمة الإسلامية بالوهن, وفكرها بالجمود والضياع , وعزيمتها بالخور والضعف , وأصابت جامعتها بالتفكك والتلاشي , ومزقت أديم أخوتها الجامعة فحولته إلى قطع متناثرة بددا.
إن افتتاح كلمتي بالدعاء بالرحمة هو تطبيق لصحيح الحديث الذي روته أم المؤمنين عائشة -رضي الله عنها- أن النبي -صلى الله عليه وسلم- خرج إلى البقيع وترحم على أهله , وأنه أمر صحابته ومن تبعهم بالترحم والسلام على أصحاب الدار من المؤمنين, فاتباع السنة في ذكرى أحد أئمة السنة وفاء له وتقدير, ومن حقه علينا أن نوالي الدعاء له بالرحمة والمغفرة.
وإذ أتبع ترحمي بإبراز مزاياه مثنيا فإن سندي الحديث الصحيح الذي أخرجه الإمام مسلم عن السيدين الصحابيين الجليلين أمير المؤمنين عمر الفاروق والمختص بشرف الخدمة أنس بن مالك -رضي الله عنهم- أنه مر على رسول الله -صلى الله عليه وسلم- بجنازة فأثنوا عليها خيرا, فقال -صلى الله عليه وسلم-:" وجبت له الجنة أنتم شهداء الله".
أيها السادة : إن عددا غير قليل من بينكم سعد بمجالسكم الشيخ محمد البشير فكلما ذكر حييت مشاهد يتملاها فينعم بها بمقدار ما يتحسر على انطفاء المصباح الساري أنواره في البصائر والعقول والذوق والمشاعر، هو المعنى الذي عبر عنه أنس بن مالك –رضي الله عنه- والذي أخرجه الترمذي وغيره بإسناد صحيح قال: لما كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله –صلى الله عليه وسلم- المدينة أضاء كل شيء فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء وما نفضنا عن رسول الله –صلى الله عليه وسلم- الأيدي، وإنا لفي دفنه، حتى أنكرنا قلوبنا(3618).
وعدد آخر عرفه دون أن يراه، وأكبره إكبار الإعجاب دون أن يحضر مجالسه، وتأثر به ولم يحظ بمحاورته طلبا للمزيد والتدقيق، وارتسمت في مداركه صورته صورة متألقة مشعة نافذة.
لم يقدر الله لي أن ألتقي به وأرتوي من علمه وأدبه مباشرة، تعرفت عليه عن طريق البصائر، وكنت مع أترابي وقتها في مقتبل العمر وبواكير الشباب نتبادل بيننا ما يصلنا متقطعا من مجلة الرسالة، التي ربطتنا بالحياة في تدفقاتها وبالأدب في معالجته لكثير من قضايا الفكر، وكنا نقدر الدور الأدبي والعقلي الذي تقوم به، ونرى فيها الخيط الجامع بين أطراف الأمة الإسلامية، وبين أعضاء جسم الأمة العربية، ونعتز بالمفكر الهادئ أحمد أمين، والأديب المترسل أحمد حسن الزيات، والمؤمن الغيور مصطفى صادق الرافعي، والأديب الكبير طه حسين، وبقية أئمة البيان رحمهم الله جميعا، الذين أثروا فينا تأثيرا داخل تكويننا الفكري واللساني والعاطفي، بما قدمته أقلامهم من نماذج رفيعة المستوى طورت الأدب العربي في النصف الأول من القرن العشرين، وحركت العقول والمشاعر وعملت على تقريب الأجيال من منابع المعرفة.
ولما وصلتنا الأعداد الأولى من البصائر، التي كان قد اختص بتوزيعها الشيخ الثميني –رحمه الله- فتحت أعيننا على نوع آخر من البيان، يجمع بين كتابها جامعة الإخلاص، وأكرم بها جامعة نافذة إلى الهدف محركة للمشاعر، وإنه لا سلطان أقدر على التأثير من الإخلاص، ويتألق من بينها كالعلم الفرد في سلسلة الجبال الراسيات من المجاهدين المحركين لمشاعر العزة، يتألق لسان الشيخ الإمام محمد البشير الإبراهيمي، وجدنا فيه نمطا هو امتداد لنفس الجاحظ وعبد الحميد الكاتب وابن العميد وبديع الزمان وأضرابهم، وقولا فصلا كتوقيعات الملهمين من أولي الأمر وكبار الكتاب في العصور الإسلامية الزاهرة، ومع ذلك هو يتناول فيما يتناول على تلكم الطريقة قضايا العالم الإسلامي بصفة عامة والقضية الكبرى التي نعيش آلامها وتفاعلاتها قضية هدم طاغوت الاستعمار الفرنسي المستكبر العاتي العنيد، فإذا كان الكتاب الملهمون من مفكري العصور الإسلامية المتعاقبة قد أصلوا فينا المنطق الصائب والفكر المستقيم، وفن التعبير الرائق البديع، فإن الشيخ الإمام طوع الأدب بكل تلكم المزايا للقضية الكبرى قضية المكر الاستعماري لمسخ الهوية، وسلخ الشخصية، وقطع الصلة بالماضي الماجد.
وجدنا في لوحات مقالاته، وفي ثاقب نظراته، وفي نسيج تحليلاته، اعتزازا بالعروبة والإسلام، وتمسكا بالمنهج السلفي الواضح المعالم، ونسقا أدبيا وفكريا استولى على القلوب والمشاعر فسرنا معه في ركبه، ركب الاعتماد على حقائق المنقول والمعقول، وإبراز ما بينهما من الارتباط والتكامل في الإسلام والتربية على العزم والمتوثب والإرادة الخيرة التي لا تغالب، والنظر في سنن الله في الخليقة التي لا تتخلف نتائجها.
ثم قدم لي يوما الشيخ الثميني -رحمة الله عليه- عيون البصائر، اشتريته وكنت سعيدا جدا أن تجمع عندي ما غاب عني من بديع آثاره وروائع إنتاجه، ثم اخترت له في مكتبتي المكان الذي جعله لا يفارق ناظري، أعود إليه ألتهم مقالاته، ويلتهم هو وقتي فيمضي سريعا دون أن أشعر أني قد عشت معه ساعات طويلة، وأخذت صورة الشيخ الإمام تزداد وضوحا وتألقا وإشعاعا في نفسي، ونما إعجابي بنبوغه وتميزه، وأفدت منه ما يسره الله لي.
ثم طبعت المجلدات الخمس من آثار الشيخ الإمام فاكتمل البناء، وتبين الحق أبلج كفلق الصبح يفري الظلام، ويحرك النيام، ويوقظ الأنام.
بدت لي معالم شخصيته، واقتنعت بأنه تعاونت على نضجه وبلوغه ما بلغ من المقام السامي عوامل هي من نسج القدر المساعد، وقيض من ألطاف إلهية كريمة حفت به ، إذ رزقه الله حافظة قوية مساعدة، كان ما يمر على سمعه وبصره كأنما تناوله إزميل النحات فينتقش واضحا لا يختلط بغيره، ولا تكاد عوامل الزمن تعفي منه شيئا، ورزقه الله ذكاء حادا كأنما تنشق له حجب المستقبل فينكشف له حاضرا مجلوا ، وتنقشع غمامات الظواهر عن الأسرار البعيدة فيدركها حاضرة بين يديه ، ورزقه الله همة علمية وصبرا على التعلم، ويسر الله له أسرة اعتنت به منذ بواكير صباه، يقول عن نفسه: إن الله وهبني حافظة خارقة للعادة، وقريحة نيرة، وذهنا صيودا للمعاني وإن كانت بعيدة، فهذه كلها من عطاء الله يختص بفضله من يشاء والله ذو الفضل العظيم.
والناحية التالية هي جانب الاكتساب والسعي الذي هو غاية الاستخلاف في الأرض كما قال تعالى:[ وَيَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ].
إذ رحل الشيخ الإمام بعد أن تهيأ لمقام التلقي العالي، وبعد أن استقام له الميزان الذي يدرك به منازل العلماء، رحل إلى مصر رحلة قصيرة، ثم إلى المدينة المنورة، وفي الحرم المدني في جوار المصطفى –صلى الله عليه وسلم-، تخرج على كثير من علماء المدينة، وكان العالمان الجليلان المحققان الشيخ العزيز الوزير التونسي والشيخ حسين أحمد القبض أبادي الهندي هما عمدته ومطمح نظره، لزمهما وارتوى من فيضهما، فالتقى بهما في تكوينه العلمي نهر سند العلم الزيتوني في الجناح المغربي من العالم الإسلامي في شيخه حسين أحمد الفيض أبادي رحمهما الله، وإني وإن كنت لم أطلع على ما تميز به كل واحد منهما، إلا أني أرجح أن الشيخ الوزير كان معنيا بالتحقيق، كما هو شأن كبار علماء عصره من شيوخ الزيتونة، وكما هي سنتهم في التدريس، وأن الشيخ حسين كان المقدم في علوم السنة النبوية رواية ودراية، كما هو شأن علماء الهند في ذلكم العصر أيضا، وهو ما يشير إليه كلام الشيخ الإمام محمد البشير الذي نوه بشيخيه تنويها يدل على كمال أدبه وعلو خلقه يقول: لازمتهما ملازمة الظل، وأخذت عن الأول الموطأ دراية، ثم أدهشني تحقيقه في بقية العلوم الإسلامية، فلازمت درسه في فقه الإمام مالك، ودرسه في التوضيح لابن هشام، ولازمت الثاني في درسه لصحيح مسلم، وأشهد أني لم أر لهذين الشيخين نظيرا من علماء الإسلام إلى الآن، وقد علا سني واستحكمت التجربة وتكاملت الملكة في بعض العلوم، ولقيت من المشائخ ما شاء الله أن ألقى، ولكنني لم أر مثل الشيخين في فصاحة التعبير، ودقة الملاحظة، والغوص على المعاني، واستنارة الفكر، والتوضيح للغوامض، والتقريب للمعاني القصية، ولقد كنت لكثرة مطالعاتي لكتب التراجم والطبقات قد كونت صورة للعالم المبرز في العلوم الإسلامية منتزعة مما يصف به كتاب التراجم بعض مترجميهم، وكنت أعتقد أن تلك الصورة الذهنية لم تتحقق في الوجود الخارجي منذ أزمان، ولكنني وجدتها محققة في هذين العالمين الجليلين.
جاء هذا في كلمته التي ألقاها بمناسبة انتخابه عضوا عاملا في مجمع اللغة العربية عام 1961، والتزم رحمة الله عليه هذا الثناء والتقدير لشيخيه حتى أواخر حياته, شأنه شأن العلماء المحققين مع الرجال الذين فتحوا بصائرهم على حقائق المعرفة, ورووهم سلسبيل العلم, من الاعتراف بالفضل, والتشرف بإظهار آيات الإكبار والتقدير , وموالاة الترحم ونشر الذكر, كما جاء في ذلك إجازته للشيخ محمد الفاسي سنة 1964, وعجبت من بعض الكتاب الذين كتبوا عنه مستغربين كيف بلغ هذا المبلغ وقد تخرج على أيدي علماء تقليديين. وقد قال -صلى الله عليه وسلم- فيما رواه الإمام البخاري بسنده إلى أبي موسى الأشعري -رضي الله عنه- قال: قال النبي -صلى الله عليه وسلم -:" مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل الغيث الكثير أصاب أرضا, فكان منها نقية قبلت الماء فأنبتت الكلأ والعشب الكثير, وكان منها أجادب أمسكت الماء فنفع الله بها الناس فشربوا وسقوا ورعوا , وأصابت منها طائفة أخرى إنما هي قيعان لا تمسك ماء ولا تنبت كلأ ". وأذكر قول شوقي -رحمة الله عليه- وهو يتحدث عن هؤلاء العلماء الذين ظلمهم بعض معاصرينا ممن جهلوا مقاماتهم العلمية وآثارهم العلية .
قال شوقي:
كانوا أجل من الملوك جلالة
وأعز سلطانا وأفخم مظهرا
لا تحذ حذو عصابة مفتونة
يجدون كل قديم شيء منكرا
ولو استطاعوا في المجامع أنكروا
من كان من آبائهم أو عمرا
وبهذا السند الزيتوني من شيخه العزيز الوزير التقى مع أخيه ورفيقه في النضال الشيخ عبد الحميد بن باديس -رحمة الله عليه- فإنه أيضا قد تخرج على علماء جلة منهم شيخه محمد النخلي الذي نوه بعلمه وبريق ذهنه وصفائه , وسجل أنه أخذ بيده إلى الآفاق التي حررته من ربقة التقليد, وفتحت له منافذ كشفت له ما كان محجوبا عنه من الحق, يقول الشيخ عبد الحميد: اذكر للشيخ النخلي أنني كنت متبرما بأساليب المفسرين وإدخالهم تأويلاتهم الجدلية واصطلاحاتهم المذهبية في كلام الله , ضيق الصدر من اختلافاتهم فيما لا اختلاف فيه من القرآن . وكانت على ذهني بقية غشاوة من التقليد واحترام آراء الرجال , حتى في دين الله وكتاب الله , فذكرت الشيخ النخلي فيما أجده في نفسي من التبرم والقلق, فقال: اجعل ذهنك مصفاة لهذه الأساليب المعقدة , وهذه الأقوال المختلفة , وهذه الآراء المضطربة , يسقط الساقط ويبقى الصحيح, فو الله لقد فتح بهذه الكلمة القليلة على ذهني آفاقا واسعة لا عهد لي بها. (جريدة الشهاب يونيو 1938 – آثار محمد النخلي – ص 340).
وكانت هذه المدرسة الإصلاحية في الزيتونة يشتد عودها ويقوى أثرها وتكتسب امتدادا ونفاذا متطورة من عهد المشير أحمد باي الأول, وقد كان لها أن تقلب الأوضاع الجامدة , وتحرك عوامل النهضة في كل ميدان , لولا فساد جرثومة الاستبداد في الحكم الذي مهد للمرض العضال الاستعمار الذي عطل كل سبيل للإصلاح, وأقام سدودا منيعة في كل ميدان تخنق أنفاس الحرية والمبادرة والتغيير.فتحولت قوى البناء والخير إلى النضال لهدم أركانه حتى طردوه , فقطع دابر القوم الذين ظلموا والحمد لله رب العالمين.
وليس المقام مقام إسهاب في هذا الموضوع الهام, تكفي فيه الإشارة لأمثالكم من الألباء, وبها يبرز أحد أهم أركان بناء الوحدة الإسلامية كما أسسها النبي -صلى الله عليه وسلم-, في أخوة الجوار.
والعامل الكبير الذي أبرز شخصيته وأثر فيه أبلغ التأثير وأنفعه هو ما كانت تنشره مجلة المنار من آراء الحكيم جمال الدين الأفغاني , والشيخ الألمعي محمد عبده الثائرين على أوضاع الأمة الإسلامية, العاملين على استنهاض همتها للأخذ بأسباب الرقي والنهوض بالأمانة, وقد توفر لمنهجهما العقل البصير, والقصد العالي , والأسلوب العربي البديع الغازي, فكان ما ينشره الشيخ محمد رشيد رضا يحرك المجتمعات الإسلامية بين مقبل على المنهج الإصلاحي , وبين رافض له يخشى على ميراث النبوة , ولا يحرك بصيرته ليتحقق أن الغاية واحدة, وأن ما يضن به ويخشى عليه هو ما يُخشى منه على ذلكم الإرث العظيم وعلى أهله وحملته, وبين هؤلاء وهؤلاء ينتشر الفكر الإصلاحي للشيخين, فيستهوي العالم والأديب والمفكر والفيلسوف والمسلم وغير المسلم والمثقف والمحدود منها, وتتوسع العصابة التي تؤيده وتؤمن به منقذا من الدرك الذي وصل إليه العالم الإسلامي, فتحقق بذلكم التفرق بين الأخذ والرد الصورة التي صورها أبو الطيب.
وتركك في الدنيا دويا كأنما
تَداول سمعَ المرء أنمله العشر
كانت آراء الإصلاح هذه إحدى ركائز شخصية الشيخ الإمام, وجد فيها صدى نفسه , ومتنفس آرائه, وصورة أمينة لما بلغته مداركه , فامتزج بها ودافع عنها وجعلها إحدى ركائزه في الجهاد, يقول: لا نزاع في أن أول صيحة ارتفعت في العلم الإسلامي بلزوم الإصلاح الديني والعلمي في الجيل السابق لجيلنا هي صيحة إمام المصلحين الأستاذ الإمام الشيخ محمد عبده -رضي الله عنه- وأنه أندى الأئمة المصلحين صوتا, وأبعدهم صيتا في عالم الإصلاح..كانت تلك الصيحة الداوية في فم ذلك المصلح العظيم صاخة لآذان المتربصين بالإسلام ولآذان المبطلين من تجار الولاية والكرامة وعبدة الأجداث والأنصاب, ولآذان الجامدين من العلماء.
تكاملت شخصية الإمام محمد البشير الفكرية والعلمية بكل ما قدمناه, وقد بدأ يخرج من محيط التلقي إلى يفاع الإفادة منذ بواكير شبابه في الجزائر قبل أن يرحل إلى المدينة, وكذلك في المدينة المنورة, فقد كان يجلس إلى الشيوخ للأخذ عنهم, ويقوم بالتدريس ويأخذ عنه طلبة العلم.
وقد تتبعت كثيرا مما جاد به قلمه وجرى على لسانه , فتبين لي أنه رحمه الله يصدر عن ثوابت لا تكاد تخفى في ما كتبه ونشره وحاضر به وقرره.
تتمثل هذه الثوابت في:
أولا: القرآن الكريم, لقد ألف القرآن وألفه القرآن, وامتزجت روحه ومداركه بحقائقه , وصقل ذوقه وفكره بأسلوبه وبيانه, وأثرت لغة القرآن زاده اللغوي , فالكلمات القرآنية المشحونة المدوية المزلزلة تتأتى له أنيسة طبعه وكلامه, والحجج القرآنية تسرع إليه تتنزل في منزلتها غير نابية ولا مفتعلة , فإذا هي قوته المؤيدة في الدعوة والبيان, وسلاحه الماضي في إفحام خصومه, وسريان سلطان الحق الداحض للأباطيل والشبه والظلم والتعسف , والقرآن يحلي بيانه بما يقتبسه من كلام رب العزة فيدخله في النسيج العام بقوي إشعاعه وبديع جماله.
ثانيا: التمسك بالدين مصفى مما امتزج به من البدع عبر العصور, فهو ملتزم بالمنهج السلفي يدافع عنه ويعلنه إعلانا واضحا, ويرجع دوما إلى تلكم الطريقة في فهم الدين والدعوة إليه.
ثالثا: إيمانه بالعربية لغة وجامعة وحمالة لدقيق المعاني وأعمق ما يجري في باطن الإنسان من مشاعر وأحاسيس وتفكير.
رابعا: إيمانه بالأخوة الإسلامية, مع تجذره في المنبت الجزائري , فقد كانت قضية الجزائر ومقاومة الظلم الاستعماري وافتكاك الحق الجزائري من براثن التسلط الفرنسي, وعمله على أن تبقى الجزائر حرة مسلمة عربية , قد استقر ذلك في نفسه استقرارا لازمه ولا يكاد يغفل عنه , ودافع عنه دفاعا هو هالة من شرف الجهاد يبقى حيا وإن تقلبت الظروف وتحولت الأحوال.
خامسا: إيمانه بأنه يتحمل مسؤولية إصلاح أوضاع العالم الإسلامي بصفة عامة والجزائري بصفة خاصة, فهو لا يرقب الأحداث من الخارج وإنما يقدر دوره أنه أحد عمد التأثير فيها.
سادسا: إيمانه بأن سنن الكون هي سنن ثابتة تقتضي ممن يتحمل المسؤولية أن يتأمل في الطريقة التي تجري عليها الأحداث, فلا يخدع بما يضلل الناظر من الفقاقيع التي تتعجل بالبروز إلى السطح.
إن هذه الثوابت لتعمر خصب إنتاجه الذي قسّمه إلى وحدات كبرى ثلاث:
الأولى: هي مقالاته التي كان ينشرها في البصائر وغيرها, وقد تعددت أغراضها , ومع تنوعها تكاد تعرف من طريقة ترتيبها وحبك نسجها أنها بقلم الشيخ الإمام.
الثانية: خطبه التي كان يصحب ما فيها من براعة وإبداع , نفس الخطاب المباشر وما يحويه من تدفق الحياة وما يسعفه به سرعة الخاطر من إلهام يحس به القارئ لتلكم الخطب ويتفاعل معها كما أحس الحاضر المشاهد وتفاعل.
وقد قمت بالمقارنة بين خطبته بجامع كتشاوة في اليوم المشهود وبين خطبة الشيخ محيي الدين بن زكي الدين البديعة التي خطب بها في أول جمعة صليت بالقدس بعد الفتح (وفيات الأعيان ابن خلكان ج 4 ص 230 وما بعدها) واستمتعت بالخطبتين وما صحب الخطيبين من التوفيق وما سجلاه في تاريخ الأمة الإسلامية.
الثالثة: رسائله التي كانت مجلى لسعة مداركه , وغزير معارفه , وواسع علمه, والتي تكشف عن منهجه في غربلة ما يرويه الرواة, وما يستشهد به النحاة, وبروزه علما يدقق ويحقق, كرسالة الضب التي أعتقد جازما أنه لو وجه أحد العلماء جهده لشرحها والتعليق عليها مرتبطا في جميع خطواته بنصها لحبر كتابا مفيدا جدا.
هذا هو الشيخ الإمام محمد البشير كما اتصلت به, وإن أكن وفقت في تجلية نبوغه وإمامته فالحمد لله الذي أعان وسدد, وإن كانت الأخرى فإنه لا ينتقص من مقام الشيخ الإمام شيء.
ولقد زدت يقينا طيلة مخالطتي لآثاره أن مساوئ الاستعمار وسيئاته , ظلمت الشيخ ظلما كبيرا , إذ أجبرته على محض قلمه وفكره وجهاده للإجهاز عليه ونجح , والحق أنه معلم أجيال , ومنشء أبطال, وأن مكانه الذي هو أهل له هو أن يتصدر للتدريس وصياغة العقول والمدارك , وهو ما أحس به هو من نفسه إذ يقول عن توليه خطة أستاذ الآداب العربية وتاريخ اللغة وأطوارها وفلسفتها بالمدرسة السلطانية, يقول "واطمأنت بي الدار إذ وقعت على وظيفتي الطبيعية" (آثار الإمام ج5 ص166).
وفي خاتمة كلمتي أريد أن أسجل في هذه المناسبة شكري وتقديري لجمعية العلماء التي أقامت له هذه الذكرى ونظمت أمرها , فقد أنهض رجالها السائرين على الدرب, خُلق الوفاء, وما أكرمه وأعزه وفاء بحقوقه على الأجيال.
وإن من آكد حقوق الشيخ الإمام أن ينتخب رجال التربية من كتابته نصوصا تدرس في جميع مراحل التعليم من الابتدائي إلى الثانوي إلى العالي, وأن يوجه طلبة الجامعة إلى القيام برسائل متخصصة في كل ناحية من نواحي نبوغه العام, ويبقى فضله أكبر من ذلك.
فالله نسأل أن يجزل مثوبته, وأن يسكنه فسيح جنته, وأن يرفعه عنده مقاما عليا , مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.