رؤية مشرقية لبعض إنجازات الإبراهيمي وإبداعاته
بقلم: أ.د.عز الدين إبراهيم-
جئتكم من بلاد بعيدة مكانا، ولكن يُقربّها منكم أنها محبَّةٌ لكم. هذه البلاد هي دولة الإمارات العربية المتحدة، دولة الشيخ زايد – رحمه الله - . ومن منطلق هذه المحبة التي تحملها دولة الإمارات لكم، كما يحملها شيُوخها لكم، من كان منهم أفضى إلى ربه وحَدثَّنا عن محبته للجزائر حين زارها؛ وهو الشيخ زايد نفسه؛ أو كان ذلك من أبنائه الذين طلبوا مني أن أوجه التحية بأسمائهم.
فلكم التحية من وَلَدَي الشيخ زايد، وهما الشيخ خليفة، رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة، والشيخ محمد بن زايد ولي عهد أبي ظبي.
ومن هذا المنطلق – أيضا – اسمحوا لي أن أقتطع دقائق لأوجه الشكر لمن يستحقون الشكر في هذه الأمسية. أوجه الشكر لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ولرئيسها الشيخ عبد الرحمن شيبان. كما أوجه الشكر لفخامة رئيس الجمهورية، لرعايته هذه المناسبة، وحقيق به أن يرعاها، وهو رجل ذو نضال ثوري وسياسي طويل ومعروف، يُقدِرُه على تمييز الرواد الأوائل وتكريمهم.
أحب – أيضا – أن أوجه التحية والشكر للدكتورين أحمد طالب الإبراهيمي، وعمار طالبي لنشرهما آثار الإمامين المترافقين عبد الحميد بن باديس، ومحمد البشير الإبراهيمي – رحمهما الله –. آثار الشيخ عبد الحميد بن باديس جمعها الدكتور طالبي، وظهرت في أربعة مجلدات؛ وآثار الشيخ محمد البشير الإبراهيمي جمعها الدكتور أحمد طالب الإبراهيمي، وظهر منها – حتى الآن – خمسة مجلدات. وبفضل هذه الكتب التي لا يَتِمُّ وفاؤنا للرجلين إلا بقراءتها بمجلداتها، هذه الكتب التي أعَدَّها العاَلِمان اللذان ذكَرتُهما بفضلها قد تيسَّر البحث، وعُرفت الحقائق.فشكرًا للدكتور أحمد طالب الإبراهيمي وللدكتور عمار، وشكرا بطبيعة الحال للأستاذ الحبيب اللمسي الذي نشر هذه الكتب.
بعد هذا أحب أن أقول : إن لمشاركتي المختصرة ذريعتين:
الذريعة الأولى : هي أنني مشرقي، وأثر الإمام الإبراهيمي لم يقتصر على المغرب، لأن الرجل قد شرّق وغرّب، وأصحر وأبحر، وقرأ وأقْرَأ، ووصل تأثره وتأثيره إلى الشرق ؛ أقربه، وأوسطه وأقصاه. وعلينا – نحن المشرقيين – أن نعرض رؤيتنا لبعض ما عرفناه من إنجازات الرجل وإبداعاته. وقد أكرر وقائع ذُكرَت في أحاديث قُدِّمَت إليكم، ولكنني سوف أقولها من وجهة نظري كمشرقي.
والذريعة الثانية:هي أنني سعدت بلقائه في مصر، حينما عاش فترة من عمره المبارك في أرض الكنانة، واستمعت إلى قدر من أحاديثه، وافتُتِنتُ ببلاغته وفصاحته، فوجب علي أن أذكر ما عرفته عنه عيانا وسماعا مباشرا، فذلك أوثق مما قد يُعرف بقراءة الآثار وحدها.
وقد كان الأولون يفرقون بين العلم الذي يؤخذ بالمواجهة والمداركة وبين العلم الذي يؤخذ بالوجادة والرواية. وهذا ما يدفعني إلى الإشارة إلى مقابلتي له في مصر، وقد وقعت في المركز العام للإخوان المسلمين، حيث كان يحاضر مجموعة محدودة العدد من الشباب، وكنت واحدًا منهم، وكنت إذ ذاك طالبا في كلية الآداب بجامعة القاهرة.
تحدث، وأفاض ،وأثَّر، فقمت بعد المحاضرة وقلت: باسم الشباب الذين حَرصتَ على أن توجههم ؛ أوجه إليك التحية أيها الرائد، أيها العملاق ، أيها الكبير، وسوف نكون لك ولكبار علمائنا دائما من الأوفياء.
لقد حصل هذا منذ خمسين عاما، وها أنذا – وبعد خمسين عاما- أردت أن أكون وفيا فحضرتُ. وحينما قال لي الشيخ عبد الرحمن شيبان في دبي : عليك أن تحضر إلى الجزائر، قلت له: ولكنني في اليوم نفسه سوف أفتتح – وبأموال الشيخ زايد رحمه الله – مركزًا لتدريس الإسلام واللغة العربية في جامعة بريطانيا العتيدة، جامعة أوكسفورد، التي أُسّست منذ القرن الثاني عشر، ولا أحب أن أغيب عن هذه المناسبة، فقد اجتهدت ست سنوات لافتتاح هذا المركز.
ولكنني تذكرت ما قلته للإمام الإبراهيمي قبل خمسين عاما، وهو: سوف نظل أوفياء لك ولأمثالك، فأعدتُ ترتيب الأمور حتى أستطيع الحضور.
مشاركتي ستكون محصورة في ملحوظات عن أربعة أدوار من حياة الشيخ الإبراهيمي، له في كلّ منها إنجازات، وإبداعات، وهي : الدور الحضاري، والدور السياسي، والدور اللغوي، والدور الأدبي. وهي بطبيعة الحال أدوار متداخلة، أحاول أن أبين مَلامِحها الكبرى، وكم كنت أود أن أوَشِّحَ حديثي ببعض الاستشهادات ، ليس من قبيل الاستشهاد التاريخي ؛ ولكن من قبيل الإبداع. ولكن الوقت لن يتسع إلا لبعض المقتطفات من سطر أو سطرين، أورِدُهما من حين إلى حين، ناصحا بالعودة إلى آثار الإمام الإبراهيمي كلَّ من أراد أن يمتع نفسه بالأدب الذي وصفه الشيخ السَّلامي منذ قليل بأنه أدب يُذكِّر بالجاحظ، وابن العميد، والقاضي الفاضل من القدامى ؛ ويذكّر بأحمد حسن الزيات، وأحمد أمين ، وطه حسين، ومصطفى صادق الرافعي من المحدثين. وأنا أقول إن الإبراهيمي مختلف عنهم جميعا، كما سأبين فيما بعد ؛ وبعض هؤلاء قد درَّسني، فأنا أتكلم – كما قلت – عن اتصال مباشر، وليس عن علم رُويَ لي.
الدور الحضاري:
منذ بَدْءِ الاستعمار الفرنسي للجزائر في سنة 1830، لم تتوقف جهود الجزائريين عن رفضه، ودفعه، وعدم الاستسلام له حتى حققوا الاستقلال التام سنة 1962، بعد أن سجل منهم أكثر من مليون شهيد، هم أحياء عند ربهم يرزقون.وفيما بين بدء الاستعمار وبين استعادة الاستقلال بُذِلت أربعة أنواع من الجهود.
أولها: الجهد العسكري بقيادة الأمير عبد القادر، الذي استمر خمس عشرة سنة ؛ وثانيها: الانتفاضات الثورية العسكرية العديدة كانتفاضة المقراني ؛ وثالثها: جهود السياسة والمفاوضة، والإدماج، والفصل، والتمرد المدني، ونذكر من رجالها – نحن المشارقة – عددا من الأسماء ؛ ورابعها وأنجحها: الثورة العسكرية الأخيرة، ونذكر من رجالها أحمد بن بلة، ومحمد خيضر – رحمه الله – وغيرهما.
كل هذه الجهود الأربعة مباركة عند الله والناس، لأنها محاولات جادة وفقا للظروف والإمكانات، ولكنها جميعا ما كان لها أن تنجح لولا الدور الحضاري الذي غذاها ونماها، وزودها بالروحانية والفكر، ثم بالفدائيين من رجالها ونسائها.
وهذا الجهد – أيضا – متوزع بين جمهرة من العاملين الواعين المخلصين، أظهرهم – في نظرنا، نحن المشارقة ، وأظن في نظر التاريخ – مجموعتان:
المجموعة الأولى: رجال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وعلى رأسها الإمَامان ابن باديس، الأمازيغي الأصل، وكثير منا قد لا يعرفون هذا الأصل، وقلت: سبحان الله ، هذا الفتى الصنهاجي قال:
شعب الجزائر مسلم وإلى العروبة ينتسب
وقد قصد بالعروبة الوصف الذي ذكره الشيخ يوسف القرضاوي صباحا، هذه العروبة التي تجمع العرب والأمازيغيين جميعا بلا تفريق؛ والإبراهيمي، العربي القح أصلا وعمومة وخؤولة.
والمجموعة الثانية: المسؤولة عن هذا الدور الحضاري، وهي أحيانا مغفلة ومنسية، وهي الأمهات في البيوتات، والكتاتيب في المدن والقرى، فالأمهات أرضعن أولادهن حب الإسلام والعروبة والوطن؛ والكتاتيب وصلتهم بالقرآن والحديث والحرف العربي.
وإذا قلنا الدور الحضاري فإنما نعني به زرع الهوية، وتثبيت الانتماء ، وتأكيد فريضة الجهاد، والتعريف بحضارتنا التليدة التي تشمخ بذكراها الرؤوس، والتمسك باللسان العربي المبين . وقد أدت جمعية العلماء، ومن ورائها كل علماء الجزائر، من انضم منهم إلى تنظيم الجمعية ومن لم ينضم، أدت الجمعية هذه المهمة من خلال مدارسها العديدة، وبعثاتها المتتابعة إلى الزيتونة ، والقرويين، والأزهر، وكل مكان فيه استنارة وعلم نافع ، كما أدته من خلال الكتابات في الشهاب وفي البصائر، ومن خلال الخطب والمحاضرات التي برع فيها الفتى الصنهاجي (ابن باديس) وأمير الخطابة العربي الإبراهيمي، والفتى القبائلي (الفضيل الورتلاني)، وقد عرفنا الأخِيرَين في مصر، ولا أظننا مبالغين إذا أظهرنا أهمية الدور الحضاري، لأنه في الواقع هو جوهر الثورات وروحها.
وقد كان دور الإبراهيمي الحضاري متميزا لنشاطه الطويل العريض، وجهده الشامل، حتى أنه يكتب، ويطبع، ويصحح المطبوعات بيده، غير ضانٍّ عن ذلك العمل بوقت أو جهد، أو ترفع. وقد كان له – رحمه لله – طموح ببدء التعليم العام المنظم في الجزائر، وكم كرَّر في أحاديثه الأهمية التاريخية لوجود الزيتونة والقرويين والأزهر، وكان يريد أن ينشئ مؤسسة للتعليم العالي في الجزائر. وقد وُفِّق إلى إنشاء نواة وهي معهد ابن باديس، الذي جرى الحديث عنه طوال هذا النهار، ثم بعد ذلك شاء الله أن تتحقق رغبته على يد الشيخ محمد الغزالي، وعلى يد الشيخ يوسف القرضاوي، حينما أسست جامعة الأمير عبد القادر للعلوم الإسلامية في قسنطينة، وكلية العلوم الإسلامية في مدينة الجزائر.
وأحب بهذه المناسبة أن أقول ،وأنتم أبناء القيروان بالمعنى القديم حيث كانت سرة المغرب الأوسط، وبطبيعة الحال فهي الآن موجودة في تونس، ولكنني أتكلم عن القيروان الأولى التي نشأت فيها أول جامعة في القرون الوسطى قبل أن تنشأ أول جامعة في أوربا بأربعة قرون.فأول جامعة أنشئت في أوربا كانت في القرن الثاني عشر، ، وكانت في أوكسفورد، وفي باريس، وفي بولونيا، وفي سالرنو، ولكن جامعة القيروان كانت في القرن الثامن، وبعد القيروان حينما هاجر القيروانيون إلى الغرب ونزلوا في فاس، وسُمِّي مقامهم حينئذ القرويين أخذًا من القيروانيين؛ كانت الجامعة الإسلامية الثانية القرويين في القرن التاسع، ثم نُقِل النموذج القيرواني إلى قرطبة، ثم أخذت أوربا هذا النموذج من قرطبة، ونشأت الجامعات الأربع التي ذكرتها لكم. نحن كنا السابقين، وهم كانوا المقلدين، وهذا الكلام ليس من عندي ؛ ولكنه من عند المؤرخ التعليمي الأمريكي شارل هاسكنز في كتابه عن تاريخ الجامعات.آه! لو كان الإبراهيمي قد مُنحَ الفرصة من عمر واستقرار لرأيناه يحيي قيروان الجزائر.
الدور السياسي:
منذ أسابيع، كانت هناك مقابلة في محطة الجزيرة مع السيد أحمد بن بلة – متعه الله بالصحة وطول العمر – وتكلم فيها عن بواكير أيام الثورة، وقال : كنا نريد من العلماء شيئا واحدا وهو الفتوى بأن النضال العسكري هو جهاد في سبيل الله، فهذه الفتوى وحدها كفيلة بأن تطلق الجزائر من عقالها، ويأتي إلينا الناس عالمين أن الجهاد فرض عين عليهم جميعا. ولكن البرنامج لم يتوسع، ولم يذكر ما قام به العلماء، وما قامت به جمعية العلماء، وما قام به الإبراهيمي فيما يتعلق بهذه الرغبة وهي الفتوى.
أقول – أيها السادة - : لقد أصدر الإبراهيمي ثلاث فتاوى مسجلة.
الفتوى الأولى: صدرت بتاريخ 15 نوفمبر 1954، أي في الأيام الأولى لبدء العمليات العسكرية. فالثورة بدأت في أول نوفمبر، وهذا البيان صدر في القاهرة في 15 نوفمبر، ووقعه الإبراهيمي والفضيل الورتلاني، ومما جاء فيه : « أيها المسلمون الجزائريون، حياكم الله وأحياكم، وأحيا بكم الجزائر، وجعل منكم نورا يمشي من بين يديها ومن خلفها. هذا هو الصوت (يقصد صوت البندقية) الذي يُسمع الآذان الصُّمَّ،وهذا هو الدواء الذي يفتح الأعين المُغمَضة، وهذه هي اللغة التي تنفذ معانيها إلى الأذهان البليدة.... فهلموا إلى الكفاح ».
ولكي يكون النداء فتوى، قال بعد ذلك : « واذكروا قبل ذلك كله قول الله:{وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله} وقول الله : {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله ، والله مع الصابرين}.
الفتوى الثانية: وهي تحريم الفرار والتراجع عن القتال، وقد ضُمّنت في البيان السابق نفسه بعبارة «نعيذكم بالله أن تتراجعوا»، وفيها قول الإبراهيمي ورفيقه، مخاطبا الجزائريين : «وقد قمتم الآن قومة المسلم الحر الأبي، فنعيذكم بالله وبالإسلام أن تتراجعوا أو تنكصوا على أعقابكم. إن التراجع معناه الفناء الأبدي والذل السرمدي». وفي هذا القول ما فيه من تأكيد الحكم الشرعي الوارد في سورة الأنفال:« يا أيها الذين آمنوا إذا لقيتم الذين كفروا زحفا فلا توَلُوهم الأدبار»، كما أنه يذكر بقول النبي صلى الله عليه وسلم في غزوة أحد:«ما كان لنبي إذا لبس لأمته للقتال أن يضعها حتى يحكم الله بينه وبينهم»، أو كما قال عليه الصلاة والسلام.
الفتوى الثالثة: وهي لا تقل أهمية، نظرا لأن المناورات والمحاورات السياسية ونظريات الإدماج والفَرنسة إلخ، كانت موجودة، ولهذا فالفتوى الثالثة كانت مطلوبة، لأن الجهاد بدأ.
قبل ذلك كان كل واحد يحاور ويجتهد، وهو معذور، ولكن بعد بدء الجهاد ورفع السلاح كان لا بد من فتوى بتحريم موالاة العدو الكافر، وقد جاءت هذه الفتوى في كلمة أذيعت من إذاعة «صوت العرب» في القاهرة، في سنة 1955، بعنوان:«موالاة المستعمر خروج عن الإسلام». وهذا هو مفهوم الآيات القرآنية (1و9) من سورة الممتحنة، و (5و7) من سورة المائدة، وفي ذلك البيان من كلام الإبراهيمي قوله:«لا توالوا الاستعمار فإن موالاته عداوة لله، وخروج عن دينه...ولا تعاهدوه فإنه لا عهد له، ولا تأمنوه فإنه لا أمان له ولا إيمان...ولا تحالفوه فإن من طبعه الحيواني أن يأكل حليفه قبل عدوه».
أتمنى، وأنا لا أعرف أين يوجد السيد أحمد بن بلة ؛ أتمنى أن أكتب إليه وأقول له: كنتَ تسأل عن الفتاوى، فقد لقيتها، وعرفت مواعيد إلقائها وتواريخها.
وبالإضافة إلى هذا الزخم الروحي والشرعي، فقد أسهم الشيخ في إصدار ميثاق جبهة تحرير الجزائر، الذي وقِّع في القاهرة في 17/2/1955، وحمل توقيع الإبراهيمي، والورتلاني مع توقيع ابن بله، ومحمد خيضر، وممثلي حزب الشعب. ورحم الله محمد خيضر، وأتمنى أن يأتي يوم لأخبركم ماذا فعل محمَّد خيضر لقضية فلسطين قبل أن يُغْتَالَ بأسبوعين، وقد اغتيل – في نظري أنا – بسبب قضية فلسطين. لكن ذلك يتطلب محاضرة كاملة.
الدور الثالث، وهو الدور اللغوي:
وأعني بالدور اللغوي للإمام الإبراهيمي، إدراكه العميق لأهمية اللغة العربية، وأنها عنوان الهوية، ووعاء الفكر، وأداة التواصل، ولسان الدين الحنيف، بقرآنه، وسنته، وتراثه، وحضارته. وقد بيَّن مرارا أن المستعمر يحرص على محو هذه اللغة تعلما واستعمالا، وأشار مرة إلى قرارين عجيبين لأحد رؤساء الحكومة الفرنسية ؛ القرار الأول يعتبر اللغة العربية في الجزائر لغة أجنبية (المُسنون ومتوسطو الأعمار يعرفون أن هذا القرار صدر، ولكنني أوجه كلامي إلى الشبان والشابات). أصدرت فرنسا قرارا بأن اللغة العربية لغة أجنبية في الجزائر ؛ وأن اللغة الرسمية هي الفرنسية ؛ وبالتالي يجب أن تلغى جريدة البصائر، لأنها بلغة أجنبية. ليس في الدنيا أعجب من هذا ؛ و كان هذا هو موقف الطاليان أيضا حينما حكموا ليبيا. فقد فرضوا على تلاميذ المدارس أن ينشدوا كل صباح نشيد الفاشية ؛ الأولاد الطاليان باللغة الإيطالية ؛ والأولاد العرب بلغة ممزوجة بين الإيطالية والعربية، ومن شدة تأثري حفظت ما سمعتهم ينشدون:
يا شبابا يا شبابا، يا ربيعا مستطابا العنا والبأس غاب أنَا لَك الله الخلود
إننا أبناء روما، جندها نحن القدامى، قد سعينا ألف عام، ثم عدنا للعهود
لا رجوع، لا هُوينا في طريق قد بنينا بحجار ودمانا والورى قرى شهود
هل يوجد شيء أذل من هذا أن يقول ليبي قسرا: إننا أبناء روما، فالدول تذل بمحو لغاتها، ولذلك قلت: يجب علينا أن نقدر دور الأمهات في البيوت، الأم أرضعت ابنها اللغة العربية، ثم المدارس والكتاتيب، . وقد اجتهدت الجمعية في تعليم العربية، وإعدادها أيما اجتهاد لهذا السبب.
يتجلى الدور اللغوي للإمام – كما رصدناه في المشرق –في ثلاثة مجالات، أذكر عناوينها، لأن زملاء آخرين ألمُّوا بها.
أ- المجال الأول : ويتمثّل في دعمه لسياسة التعريب في الشمال الإفريقي، وكان هذا في بيان كتبه، وأقرأ عليكم سطرين منه. كان مريضا، وأملى أسطرا، ثم أحسّ بالنشاط فكتب برنامجا للتعريب أرسله إلى مؤتمر التعريب الذي عقد في الرباط.ومما جاء فيه:« هلا، واللسان بليل، والقلم له صليل، والجسم لا واهن ولا كليل، وقلت لنفسي: وما حاجتنا إلى التعريب ونحن عرب؟ فقالت لي: ما أحوجكم إلى من يطبعكم طبعا عربيا مُنقّحا مصحَّحا، بعد أن طبعكم الاستعمار هذه الطبعة المشوّهة الزائفة، ولكنني تحاملتُ وكتبتُ هذه الكلمات المتهافتة، تتضمن ما أبقته الأيام في ذهني من معان متخافتة».ثم قال:«التعريب نوعان، نوع جزئيٌ ونوع كُليٌّ، فالتعريب الجزئي هو تعريب الألسنة والأقلام وآثارهما من خطابة وكتابة، ويدخل فيه تعريب الدروس التعليمية، والثاني يشمل هذا، ويشمل التخلق بأخلاق العرب، والتحلي بكل ما اشتهر عنهم من محامد وفضائل».
ب - المجال الثاني : الانضمام إلى المجامع اللغوية، والعمل من داخلها.
ج- المجال الثالث: هو الريادة وضرب المثل، كأن يكتب ويقول هكذا تكون الكتابة، أو يقرض الشعر ويقول هكذا يكون الشعر. ومن يقرأ آثار الإبراهيمي سوف يجد كَمًّا من الأشعار، لكنني أشير إلى عمل معين وهو رواية شعرية في ثلاث وأربعين صفحة من بحر الرجز، ومن لزوم ما لا يلزم، وعنوانها «رواية الثلاثة»، ويقصد بالثلاثة ثلاثة أشخاص، كان هو أستاذهم، وختمها بهذه السطر:«وبعد:فقد داعبنا بهذه الرواية ثلاثة أساتذة، هم لنا أبناء، وهم فيما بينهم إخوة، كلهم أدباء، فعسى أن تكون حافزة لِهِمَمِهم في التدريب على هذا النوع الراقي من الأدب الهزلي».
الدور الرابع والأخير، وهو الدور الأدبي في حياة الإبراهيمي: وهو دور رئيس وأساسي، وهو متداخل مع أدواره الأخرى. وإذا تحسسنا جذور نبوغه الأدبي تبرز لنا منها ثلاثة:
أولها:الطبع والفطرة والموهبة.
وثانيها: الجو العائلي الذي أحاط به.
وثالثها: الدربة الطويلة، وفرص الممارسة المتعددة، التي أتيحت له، أو فرضت عليه.
لن أتكلم عن هذه المجالات، ولكن أصل إلى الإبداع الأدبي للإبراهيمي فأقول بأنه موزع بين الخطابة والمحاضرة وكتابة المقالات، وأخيرا، وليس آخرا، الشعر ، لولا أنه لم يتفرغ له.
أما الخطب فقد استمعت إليه مرتين: مرة في محاضرة لم يكن الجو مهيأً للخطابة، ولكن تستطيع أن تتحسس مهارات الخطيب، حتى ولو كان محاضرا، في صوته، في إشاراته، في تعبيراته، وهو يتدفق حينما يتكلم. وقد وصفه الشيخ القرضاوي في خطبة.
أنا حضرت له محاضرة ، وأحسست بأنه يملك زمام القول محاضرا أو خطيبًا، لكن العبرة بالمناسبة، والعبرة بالمعاني التي توجب الحديث الهادئ، أو توجب الحديث الثوري.
ولكن الذي استوقفني حينما استمعت إليه هو اقتداره العجيب على استخدام البديع ارتجالا ودون تعسف، ودون افتعال، وخاصة الجِناس، السجع والجناس بدون افتعال، لأنه كان مرتجلا وأنا بجانبه.
العجيب – يا إخواني – واسمحوا لي أن أضع نفسي في هذه القصة – هو أنه قيل لي : ستلقي كلمة بعد الإبراهيمي، لم أكُن سمعته من قبل، وكنتُ قادمًا من نفي، إذ كنتُ منفيا أربع سنوات، وفي تلك الليلة أراد الاخوة أن يجبروا خاطري، فقالوا لي: تتكلم، ولكن عندنا الإبراهيمي. ولم أكن أعرف من هو الإبراهيمي، فلما تكلم وضعت رأسي بين كَفّي، وأصابتني مهابة لا حد لها، أبعد هذا الرجل أحاضر وأتكلم؟
كنت في الرابعة والعشرين، يعني بالإضافة إلى كوني صغيرا، كنت أمامه قزما. ولكن العجيب أنه أصابني مع المهابة شعور بالاستهواء، والاستهواء عند علماء النفس هو أن تقلد مَن هو أمامك.فتكلمت، وكنت أتكلم بحكم كوني مصريا بالولادة، ولكنني إماراتي بعد ذلك بكرم الشيخ زايد ؛ فقلت في ذلك الوقت عن علاقة مصر بالسودان: هذه القضية حُوِّلت إلى لجان فدُرست، ثم دُرست، ثُم دُرست، حتى دَرِسَتْ ولم أكن أعرف أنني سوف أقول جِنَاسًا ناقصا. ولكن بعد الإبراهيمي جاء الاستهواء. وقد طَرِبت في نفسي، فرجل يستحوذ عليك بمهابته، ويؤثر فيك حتى تستهوي وتحاول أن تقلده.
هذا أول عهدي به، ولذلك أنا لا أستغرب أن الناس الذين قرأوا ما كتب أصابهم ليس الاستهواء ؛ لكن الإعجاب غير العادي. قال لي الشيخ عبد الرحمن شيبان: إن نعيم النعيمي كان يحفظ مقالات الإبراهيمي عن ظهر قلب.
شيئ عجيب أن تكون موهوبا مثل الإبراهيمي في البصائر، خاصة ما جمعه الإمام – رحمة الله عليه – في الجزء الذي سماه «عيون البصائر».
وقد وجدت في كلمة «عيون البصائر»لمحتين : إحداهما ادبية ، والثانية صوفية.
أما الأدبية فلأن القدامى كانوا يميزون الشيئ المتميز، فيقولون هذا البيت هو بيت عين، وكان البحتري يقول : القصيدة التي تخلو من بيت عين هي قصيدة مغسولة. فالبيت العين هو البيت المفرد أو البيت المقلد، ويقولون عنه أحيانا البيت المجتلب.فهو – الإبراهيمي – أخذ هذه العيون.
وأما اللمحة الصوفية فكأنه ربط بين نفسيات النفس وبين التعبير، الذي هو تعبير بليغ، وكأنه يشير إلى قول الصوفية :«قلوب العارفين لها عيون، ترى ما لا يراه المبصرون».
أما الشعر فله الإخوانيات، وله رواية الثلاثة، وله قصيدة مفقودة مكونة من ستة وثلاثين ألف بيت، قال عنها هو نفسه:« ولكن أعظم ما دونت ملحمة رجزية، نظمتها في السنين التي كنت فيها مبعدا في الصحراء الوهرانية، وهي تبلغ ستة وثلاثين ألف بيت من الرجز السلس اللزومي...».
وقد كان الإمام معجبا بملحمة مشابهة لابن الخطيب، وملحمة أخرى كتبها أحمد شوقي عن العظماء، وعن الدول. والمؤسف هو أن هذه الأرجوزة غير موجودة.
وبعد، أيها السادة، فقد ألممت باختصار بأدوار أربعة من حياة الإمام الإبراهيمي، وما لها من دلالات على بعض إنجازات الإمام الحضارية، والسياسية، واللغوية، وبعض إبداعاته الأدبية. ولكن الإحاطة الأمينة بهذه الأدوار والإنجازات والإبداعات تتطلب وقتا أكثر، وتأملا أدق، وتفوقا أرقى، ولعلي أوفق في شيء من ذلك في مستقبل الأيام، إنْ بالحديث وإن بالكتابة. وحسبي الآن أن أنضم إلى الشيخ مختار السلاّمي، فأختم بشهادة خير في ذلك الرجل، سائلا المولى عز وجل أن يتغمده برحمته، وداعيا جميع الحاضرين والحاضرات إلى المداومة على إحياء ذكراه بالترحم، والدراسة ، والاتباع.
* المستشار الثقافي بديوان رئيس دولة الإمارات العربية المتحدة