التربية عند محمد البشير الإبراهيمي

بقلم: مخلوف مصطفى -

إن الحديث عن الشيخ محمد البشير الإبراهيمي هو حديث عن الجزائر أصالة وحضارة وصموداً ونـهضة وتحرراً، فقد جسّد الجزائر في شخصيته نشأة وتكويناً وإشعاعاً وقولاً وكتابة وسلوكاً.
"ومَثَلُ العلماء المصلحين كمثل الماء المعين، هذا يسوقه الله إلى الأرض الجرز فتهتز بعد همود وتربو بعد جمود فتنبت ما تشتهيه الأنفس وتلذ الأعين، وأولئك يبعثهم الله في أمته فيؤذّنون فيها فتستيقظ بعد رقود، وتتحرك بعد ركود، وتنهض بعد قعود، وتنشط بعد خمود، وترشد بعد غواية، وتتآلف بعد تخالف، وتتعارف بعد تناكر، وتتصالح بعد تدابر، وتنسجم بعد تنافر، وتتوحد بعد تفرق، وتلتئم بعد تمزق، وتتخلق بعد انحلال، وتنتظم بعد اختلال، وتصح بعد اعتلال، وتـهتدي بعد ضلال، وتتذكر بعد نسيان، وتتآخى بعد عدوان " [محمد الهادي الحسني].

ولعله من العسير على الدارس أن يتمكن من جمع آثار الشيخ البشير كلها وكتاباته المختلفة المتعددة، ولا سيما وأنه قد قضى حياته كلها في التنقل والترحال في مواطن كثيرة من العالم، يخطب ويقيم المحاضرات ويحرر الرسائل السياسية والإخوانية، ويحضر المؤتمرات والندوات، فيتكلم بارتجال حول قضايا متنوعة ومشكلات سياسية واجتماعية وأدبية وغيرها .

ولهذا فإن للشيخ إنتاجاً غزيراً مازال لم يجمع وبالتالي لم يطبع .

ومن خلال هذه المداخلة المتواضعة سنحاول التركيز على تحليل بسيط لفكر الشيخ الإبراهيمي من خلال كتاباته حول الجانب التربوي أو اهتماماته في مجال تربية وتعليم النشء والنهوض به لقيادة الأمة، وتحمل مسؤوليته في العمل لدينه ووطنه.

يقول الإمام الشيخ محمد بشير الإبراهيمي في (عيون البصائر):" غاية الغايات من التربية– هي توحيدُ النشء الجديد في أفكاره ومشاربه، وضبط نوازعه المضطربة، وتصحيح نظراته إلى الحياة، ونقلُهُ من ذلك المُضْطَرَبْ الفكري الضيّق الذي وضعه فيه مجتمعه- إلى مضطرب أوسَعَ منه دائرةً، وأرْحَبَ أُفُقًا، وأصحَّ أساَسًا، فإذا تمّ ذلك وانتهى إلى مدَاهُ طَمِعْنَا أن تُخْرِجَ لنا المدرسة جيلاً متلاَئِمَ الأذواق، متَّحِدَ المشارب، مضبوطَ النزعاَت، يَنْظُرُ إلى الحياة- كما هي- نظرةً واحدةً، ويَسْعَى في طلبها بإرادة متحدة، ويعملُ لمصلحة الدين والوطن بقوة واحدة، في اتجاهٍ واحدٍ".

- "غاية التعليم هي تفقيهه في دينه ولغته، وتعريفه بنفسه لمعرفة تاريخه، تلك الأصول التي جَهِلَهَا آبَاؤُهُ فشَقُوا بجهلها، وأصبحوا غُربَاءَ في العالم، مقطوعين عنه، لم يعرفوا أنفسهم فلم يعرفهم أحدٌ.."

إن الإبراهيمي ليس مجرد مصلح اجتماعي أو أديب متميز كما تظهره كتاباته أو رجل سياسة غيور على دينه ووطنه كما تظهره خطاباته الجريئة، ولكنه مع ذلك معلم كبير، ومرب عظيم، وموجه للمعلمين والمربين، أي أنه أستاذ من أساتذة التربية العظماء له آراء ونظرات صائبة ومتميزة حول التربية والتعليم.

عناية الإبراهيمي بالمقومات الأساسية للتربية

تبرز أستاذية الإبراهيمي التربوية في عنايته بكل الأركان أو المقومات الأساسية لعملية التربية:

1- فقد اعتنى بالمادة العلمية التي تعلم وتلقن للطالب.

2- وعنى بالأستاذ أو المعلم الذي يقوم بعملية التربية والتعليم.

3- كما عنى بالطريقة التي يوصل بها المعلم المادة إلى الطالب.

4- كما عنى بالطالب الذي يتلقى العلم.

1- المادة العلمية:

اهتم الإبراهيمي بالمادة العلمية التي تتضمنها الكتب والمصنفات ويسعى إلى تحصيلها طلاب العلم، كما يسعى إلى بثها المعلمون.

ففي نصيحة إلى طلاب العلم يبين الإبراهيمي صفات ومضمون المادة العلمية التي يجب ان يتلقاها طالب العلم والمتمثلة في :

- أصالة المادة العلمية. بالاعتماد على ما صح وثبت بالدليل والابتعاد عن القشور ومما لا فائدة من ورائه.

- الاعتماد على اللغة العربية كأساس في التربية والتعليم، ولا ينافي تعلم اللغات الأخرى.

- مسايرة العصر في التعليم من حيث النظام والقوة والفعالية.

- حفظ القرآن الكريم لأنه أساس العلوم كلها.

- الكتب السهلة المبسوطة.

- تنوع المادة العلمية من المعارف العامة كالتاريخ والأدب والحكمة والخلاق والتربية و الرياضيات والطبيعيات.

2- المعلم:

اهتم الشيخ بالمعلم وأولاه عناية خاصة على المستوى النظري والعملي كيف لا وهو الواسطة الضرورية لنقل العلم إلى عقل الطالب وقلبه، وهو الرائد الأصيل والموجه الحكيم في تربية الأجيال وصناعة الرجال وتخريج القادة، والدفاع عن الهوية، والضود عن حياض الأمة.
ففي لقاء جمع الشيخ بمعلمي جمعية العلماء المسلمين يخاطبهم قائلا:« أي أبنائي المعلمين، إنكم في زمن كراسي المعلمين فيه أجدى على الأمم من عروش الملوك، وأعود عليها بالخير والمنفعة، وكراسي المعلمين فيه امنع جانبا واعز قبيلا من عروش الملوك، فكم عصفت العواصف الفكرية بالعروش، ولكنها لم تعصف يوما بكراسي المعلم» (آثار محمد البشير الإبراهيمي ج3).

وينبه الإبراهيمي إلى المسؤولية الخطيرة التي يتحملها المعلمون، فهم مسؤولون عن على النمو الفكري والتهذيب النفسي للناشئة وهم مسؤولون من جهة أخرى عما يصيب أبناء الأمة من زيغ فكري وعقائدي، فموقعهم في المجتمع خطير لا يجوز فيه التقصير أو الخطأ، ويشبه وظيفة المعلم بوظيفة الطبيب بل إن مسؤولية المعلم أشد وأقوى، لأن الخطأ الذي قد يقع فيه الطبيب لا يتعدى فردا أو فردين، أما الخطأ الذي يقع فيه المعلم فإن أثره يتعدى جيلا بأكمله.
يقول الإبراهيمي:« إن التقصير في الواجب يعد جريمة من جميع الناس، ولكنا في حقنا يضاعف مرتين، فيعد جريمتين، لأن المقصر في غيرنا لا يعدم جابرا أو عاذرا، فقد يغطي تقصيره عمل قومه، أو حكومته.. أما نحن فحالنا حال اليتيم الضائع الجائع، إذا لم يسع بنفسه مات، فإذا قصرنا في العمل لأنفسنا ولما ينفع أمتنا ويرفعا فمن ذا يعمل لها؟..»( آثار محمد البشير الإبراهيمي ج2) .

علامات المعلم الحق:

وللمعلم المتحقق بالعلم عند الإبراهيمي شروط وعلامات تؤهله للتدريس وأداء مسؤوليته على أكمل وجه، من هذه الشروط ما يتعلق بذاته، ومنها ما يتعلق بطلبته وتلاميذه.

أولا: الشروط والعلامات الذاتية:

- التحلي بالتقوى وإخلاص العمل لله .فهي « العدة في الشدائد والعون في الملمات وهي مهبط الروح والطمانينة وهي متنزل الصبر والسكينة وهي مبعث القوة واليقين، وهي معراج السمو إلى السماء وهي التي تثبت القدام في المزالق، وتربط على القلوب في الفتن».

- الإيمان العميق بشرف العلم والتعلم والتعليم.

- العمل بما علم: حتى يكون قوله مطابقا لفعله، فإن كان مخالفا له فليس بأهل لأن يؤخذ منه ولا أن يقتدى به في علم. «لأن المعلم –كما يقول الإبراهيمي- لا يستطيع أن يربي تلاميذه على الفضائل إلا إذا كان هو فاضلا، ولا يستطيع إصلاحهم إلا إذا كان صالحا، فهم يأخذون عنه بالقدوة أكثر مما يأخذون عنه بالتلقين».( آثار محمد البشير الإبراهيمي ج3).

- ضرورة الاستزادة من العلم: بإكثار القراءة والمطالعة والبحث والتقصي والاستفادة من الجديد فمن النصائح التي كان يوجهها للطلبة والمعلمين« .. وإن التعليم لأحدى طرق العلم للمعلم قبل المتعلم، إذا عرف كيف يصرف مواهبه، وكيف يستزيد وكيف يستفيد، وكيف ينفذ من قضية إلى قضية، وكيف يخرج من باب إلى باب، فاعرِفوا كيف تدخلون من باب التعليم إلى العلم، ومن مدخل القراءة إلى الفهم، وتوسعوا في المطالعة يتسع الاطلاع.»( آثار محمد البشير الإبراهيمي ج2).

- الصبر على المكاره، والثبات في الشدائد والأزمات.

ثانيا : شروطه مع تلاميذه:

- الشفقة على المتعلمين والتحبب إليهم، ورعاية الأطفال وسياستهم بالرفق والإحسان، باللين والتواضع، ومساعدتهم على قضاء حوائجهم إن كان ذلك باستطاعته، فهم بالنسبة إليه كالأولاد مع آبائهم. حيث يقول:« فواجب المربي الحاذق المخلص إذا أراد أن يصل إلى نفوسهم من أقرب طريق، وأن يصلح نزعاتهم بأيسر كلفة، وان يحملهم على طاعته وامتثال أمره بأسهل وسيلة، هو أن: يتحبب إليهم ويقابلهم بوجه متهلل، ويبادلهم التحية بأحسن منها، ويسائلهم عن أحوالهم باهتمام، ويضاحكهم ويحادثهم بلطف وبشاشة، ويبسط لهم الآمال ويظهر لهم العطف، ما يحملهم على محبته»( آثار محمد البشير الإبراهيمي ج3).

- دراسة ميول الأطفال ونفسياتهم ويكون المعلم بينهم كأخ كبير لهم يفيض عليهم عطفه، ويوزع عليهم بشاشته، ويزرع بينهم نصائحه.

- اتخاذ أسلوب الترغيب في سياسة الأطفال ورعايتهم بدل أسلوب الترهيب ، لأن الأول إيجابي وأثره باق، والثاني سلبي وأثره موقوت، لأنه يعتمد على الخوف ويربي الجبن خاصة في المراحل الأولى للطفولة، يقول الإبراهيمي:« ليحذر المعلمون الكرام من سلوك تلك الطريقة العنيفة التي كانت شائعة بين معلمي القرآن، وهي أخذ الأطفال بالقسوة والترهيب في حفظ القرآن، فإن تلك الطريقة هي التي أفسدت الجيل وغرست فيه رذائل مهلكة.»( آثار محمد البشير الإبراهيمي ج3)

3- الطريقة:

من المقرر المعروف عند التربويين انه لا يكفي ان تكون المادة العلمية مادة أصيلة نافعة، ولا ان يكون المعلم من أهل العلم المتحققين به المتخصصين فيه، لا يكفي ذلك حتى يكون لديه طريقة صحيحة لتوصيل العلم لمن يطلبه وهذا ما عنيت به التربية أبلغ عناية.

وهذا ما التفت إليه الشيخ الإبراهيمي واهتم به ونبه إليه المعلمين، فهو يرى أن الطريقة الناجحة لتربية النشء ليست في الزخم الهائل من المعلومات بل التي تستند إلى المنهج الصحيح القائم على مبدأ الربط بين الهدف والسلوك، والمزج بين المبادئ والنظرية والممارسات العملية، وتكوين الاتجاه السلوكي الأخلاقي قبل الفهم واستيعاب المعلومات.

وقد عبر عن ذلك في غير ما موضع منها ما أشار إليه حينما التقى في المدينة المنورة مع الشيخ ابن باديس حيث اتفقا على جملة المبادئ في العملية التربوية والتعليمية « كانت الطريقة التي اتفقنا عليها أنا وابن باديس بالمدينة المنورة في تربية النشء، ألا نتوسع له في التعليم، وإنما نربيه على فكرة صحيحة ولو مع علم قليل، فتمت لنا هذه التجربة في الجيش الذي أعددناه من تلامذتنا...»( آثار محمد البشير الإبراهيمي ج3).

والفكرة أو المنهج الصحيح الفعال يبنى عند الإبراهيمي على:

- استخدام العقل والفكر في الاستنتاج.

- بناء النتائج على مقدمات وأسباب.

- الاعتماد على التمثيل في القواعد والأصول.

- الاهتمام بالجانب التطبيقي والعملي للنظريات والقواعد العلمية. وعدم التركيز فقط على الجانب النظري.( آثار محمد البشير الإبراهيمي ج3 ص272).

- اتخاذ أسلوب التدرج في التربية والتعليم من مرحلة إلى مرحلة أكمل.

- مراعاة الفروق الفردية بين المتعلمين، وإمكاناتهم الذاتية ، وتلقينهم العلوم على قدر فهمهم.

- الحرص على ان تكون التربية قبل التعليم، والتخلية قبل الحلية.

4- الطالب أو المتعلم:

إذا كان من اركان التربية ومقوماتها المادة العلمية التي تطلب وتدرس والمعلم الذي يوصلها، والطريقة التي يوصلها بها، فإن الطالب الذي يتلقاها ويحصلها هو الركن الرابع، وهو المقصود بعملية التربية والتعليم كلها.

وقد عني به إمامنا الإبراهيمي كما عني بسائر أركان التربية.بل عنايته به أبلغ وأعمق.
وعناية الإبراهيمي بالمتعلم تبدأ من المراحل الأولى أي من الطفولة، فقد أدرك الإبراهيمي أنه لا تضيّع امة من الأمم حظوظ الطفولة والناشئة من الرعاية والعناية إلا ويفوتها حظ الاستفادة من الرجولة، لأن هذه الأخيرة في صلاحها ونجاحها وفعاليتها متوقفة إلى حد كبير على نوعية الرعاية والتربية التي تقدم إلى الناشئة.

وتحقيق ذلك يعتمد على الطريقة التربوية السليمة التي أشار إليها، كمعرفة نفسياتهم وفطرتهم وميولهم وقدراتهم النفسية والبدنية، العقلية والروحية.

كما أولى الإبراهيمي عناية كبيرة بالشباب واهتماما متزايدا ورعاية مكثفة، فالشباب طاقة من الطاقات الأساسية في الأمة ومكسب من مكاسبها التي يجب أن تحفظ وتصان. حيث يقول:« شباب الأمة هم عمادها، وهم مادة حياتها، وهم سر بقائها، وخير شباب الأمة المتعلمون المثقفون البانون لحياتهم وحياة أمتهم على العلم، وصفوة الشباب المتعلم المثقف هم المتشبعون بالثقافة الإسلامية العربية والمقدمون لها، لأنهم هم الحافظون لمقوماتها، والمحافظون على مواريثها وهم المثبتون لوجودها، وهم المصححون لتاريخها، وهم الواصلون لمستقبلها بماضيها».

ويقدم الإبراهيمي لطلبة العلم جملة من المبادئ التربوية والخصائص التعليمية التي بها يحصل العلم وترسخ المعرفة، يمكن إجمالها في ما يلي:

- الانقطاع للعلم والتبتل إليه، وإنفاق الوقت الكثير في تحصيله والاجتهاد في تلقيه.

- الاستزادة من تحصيل العلم بالبحث والمطالعة وكثرة المناظرة والمراجعة، بتقسيم الأوقات قي ذلك.

- العكوف على آخذه من أفواه الرجال وبطون الكتب. والرحلة في سبيله للقاء العلماء والمشائخ.

- وجوب تقييد العلم ونسخ الأصول، لأن تقييد العلم وتدوينه أحفظ وأبقى.

- وجوب التعرف على الجديد من العلم الواسع، والآراء المفيدة من الكنب.

- الإخلاص في طلب العلم.

- الاستعداد القوي والهمة البعيدة، والنفس الكبيرة، في طلب العلم والإيمان به.

- عدم الاعتماد على حلق الدروس وحدها، والاعتماد معها على حلق المذاكرة الفردية والجماعية.

- عدم الاعتماد على الكتب المقررة لوحدها، والاعتماد على غيرها من الكتب المبسوطة الميسرة.

- الانقطاع عن الشواغل الفكرية والجسمية التي تحول دون التحصيل وتعيق الفهم، وتذهب التركيز.

- الابتعاد عند طلب العلم عن المناقشات الحزبية والخلافات السياسية.

خاتمة:

إن اهتمام الشيخ الإبراهيمي بهذه الأصول والأسس المنهجية للعملية التربوية: من المعلم إلى المادة العلمية إلى الطريقة والمنهج إلى المتلقي أي التلميذ والطالب، ليدل على مدى النظرة السديدة والفكر الصائب الذي يتمتع به الشيخ والذي جعله يضع اللبنة الصلبة لبناء العقلية المتحررة لدى التلاميذ والطلبة الجزائريين، فتمكن -طبعا مع أصدقائه في الحركة الإصلاحية - من تخريج جيل ونشء يؤمن بالحرية والاستقلال كان هو الجيل الذي قاد الجهاد المسلح ضد الاستعمار الفرنسي، وحرر الوطن.

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.