شاهد على ميلاد الحركة الإصلاحية لجمعية العلماء في الأوراس
بقلم: سعدي بزيان –
شاءت لي الظروف أن أكون واحدا من ثمار الحركة الإصلاحية لجمعية العلماء في الأوراس، وبالضبط في قرية غوفي بلدية غسيرة، التي أنجبت علماء تركوا بصماتهم في هذه القرية والقرى المجاورة، ومن هؤلاء الشيخ محمد الغسيري، والشيخ سي عمار بن سي الجودي الرائد الأول للحركة الإصلاحية في غوفي، والشيخ سي أحمد بن السعدي الميموني الغسيري، والشيخ بلقاسم الميموني هؤلاء جميعا درسوا على رائد النهضة الجزائرية الشيخ عبد الحميد بن باديس -قدس الله ثراه-، بل إن الشيخ محمد الغسيري كان واحدا من أعوان ابن باديس في قموش والجامع الأخضر وغدا بعد وفاة ابن باديس مفتشا عاما لمدارس جمعية العلماء على مستوى القطر الجزائري.
وعند اندلاع ثورة نوفمبر 1954 أوفدته جبهة التحرير لتمثيلها في دمشق فكان ممثلا لها، وبعد الاستقلال غدا سفيرا للجمهورية الجزائرية، وهو رابع شخصيات جمعية العلماء الذين اعتمدتهم جبهة التحرير كممثلين لها في الوطن العربي، فالشيخ محمد خير الدين في المغرب، والشيخ عباس في السعودية، والشيخ أحمد توفيق المدني ومعه الشيخ عمر دردور في القاهرة، وتشاء لي الأقدار أن أكون واحدا من تلامذة كل من الشيخين سي عمار بن سي الجودي وسي أحمد بن السعدي الذي سعى سعيا مشكورا لإرسالي في بعثة بمعية المرحوم الأستاذ بن زروال زيادي إلى معهد عبد الحميد ابن باديس بقسنطينة ضمن العديد من تلامذة غسيرة “أوراس” الذين استقبلهم المعهد فتخرج البعض منهم من عدة جامعات في المشرق العربي وقدوم أساتذة إلى الجزائر المستقلة، والحركة الإصلاحية لجمعية العلماء في الأوراس ظهرت بذورها الأولى في باتنة عاصمة الأوراس ومن روّادها الأوائل الشيخان مسعودان الطاهر الحركاتي الذي حضر اجتماع تأسيس جمعية العلماء في الجزائر العاصمة في 5 مايو 1931 والإمام للمسجد العتيق في باتنة مدة تزيد عن نصف قرن، والشيخ عمر دردور نبراس الأوراس، أو باديس الأوراس كما يلقب وهو الذي شاءت له الظروف أن يعيش عمرا مديدا ومن الذين طال عمرهم وحسنت أعمالهم، فكانت حياته كلها كفاحا، وجهادا، فقد سجنه الاستعمار في سجن باتنة جزاء وفاقا له على نشاطه السياسي، وخصص له ابن باديس محاميين دفاعا عنه، كما حضر ابن باديس من قسنطينة إلى باتنة لحضور محاكمته بتهمة سبّ وشتم حاكم آريس وهو فعلا لا يستحق إلا الشتم، والشيخ عمر دردور من الشخصيات الأوراسية التي مازجت بين الإصلاح والجهاد، فهو من العاملين في سبيل الإعداد للثورة في الداخل ومن المدافعين عنها في المشرق العربي، وبعد الاستقلال بدأ جهادا آخر تمثل في إنشاء المعاهد الإسلامية التي عمت القطر الجزائري وخاصة في الأوراس والصحراء وعندما قام المرحوم هواري بومدين بتعيين مصطفى الأشرف على رأس وزارة التربية والتعليم استطاع أن يقنع الرئيس هواري بومدين بضرورة توحيد التعليم، وإلغاء المعاهد الإسلامية وكان قرار مصطفى الأشرف وهو المعروف بعدائه للتعريب واللغة العربية ضربة قاضية أصابت التعليم الديني في الجزائر في الصميم، وشعر الشيخ عمر دردور رحمه الله، وهو الذي جاهد في الله حق الجهاد أُسوة بشيخه ابن باديس واعتبر ذلك تراجعا خطيرا في سياسة الجزائر في مجال نشر المعاهد الإسلامية لصيانة وحفظ الهوية الثقافية والدينية للشعب الجزائري المسلم، ولم يدر في ذهنه أبدا أن بومدين ذو الثقافة العربية الإسلامية يخضع لتوجيه مصطفى الأشرف ويسايره في سياسته هذه أبدا، وقد قال لي صديقي عبد القادر حجار وهو الرئيس للجنة التعريب أنه ما أن سمع بتعيين مصطفى الأشرف حتى طلب مقابلة الرئيس بومدين ليستفسر منه سبب تعيين هذا الرجل الذي شنّ حملة حاقدة على المعربين والدول العربية التي كانت تمنح شهادات لهؤلاء، خالية من المعايير العلمية، وكان جواب بومدين “اخترت الأشرف وما عليكم إلا أن تحاوروه، وتساءلنا نحن يومئذ ماذا وراء تعيين هذا الرجل في منصب تربوي حساس من طرف رئيس الدولة الذي تبنى مبدأ التعريب ولا تراجع عن هذا المبدأ كما كان يردد رحمه الله باستمرار “وعشْ رجبا تر عجبا”.
شخصيات أوراسية كانت وراء الحركة الإصلاحية في غسيرة ومشونش
يمكن القول بدون مبالغة أن الحركة الإصلاحية لجمعية العلماء في الأوراس انتشرت واشتعلت بقوة، في كل من غسيرة وبالضبط قرية غوفي ويعود السبب في ذلك إلى ظهور شخصيات درست على رائد النهضة الجزائرية الشيخ سي عمار بن سي الجودي المولود في حدود 1901 ولا نعرف بالضبط تاريخ وفاته، وإلى شيخنا عمار المولود في قرية غوفي والذي قرأ القرآن على والده سي الجودي والذي درس على ابن باديس، وإلى سي عمار بن سي الجودي يعود الفضل في غرس الحركة الإصلاحية لجمعية العلماء في غوفي وعليه درستُ علم القراءات والتجويد وكان بن باديس يقدمه في المناسبات لترتيل ما تيسر من القرآن الكريم لما يتمتع به من صوت وقراءة علمية وفق علم القراءات الذي تفوق فيه شيخنا وقد خلف شيخنا سي عمار بن سي الجودي الشيخ أحمد بن السعدي الميموني الغسيري الذي درس عليه كل من بن حركات محمد بن سعاد الذي كان أول من التحق بمعهد عبد الحميد بن باديس سنة 1947 من قرية غوفي والذي قام بالتدريس في غوفي بعد تخرجه من الزيتونة، وعندما اندلعت ثورة نوفمبر 1954 التحق بها وكان واحدا من شهداء تلامذة معهد بن باديس من غسيرة مع الشهداء محمد زعروري أول طالب من غسيرة يلتحق بجامعة القاهرة ويتلقى تدريبا عسكريا حيث التحق بالثورة في الجزائر واستشهد وهو يؤدي واجبه الوطني ومن تلامذة غسيرة الذين درسوا في معهد ابن باديس واستشهدوا محمد بن العروسي بخوش وهو ثاني طالب من غسيرة يدرس في معهد بن باديس ويلتحق بجامعة القاهرة وكان رفيقي في الدراسة في معهد بن باديس هو وشقيقه سي بلقاسم خريج كلية الشرطة بالقاهرة، التحق بالجزائر ليغدو بعد الاستقلال ضابطا تحت قيادة العقيد محمد شعباني رحمه الله والشهيد الرابع من طلبة معهد بن باديس من غسيرة الشهيد بلقاسم بن المبروك وهو من قرية تاحمامت التابعة لبلدية الغسيرة ومن مشائخ بن باديس في غسيرة الذين أسسوا وأذاعوا الفكر الإصلاحي في غسيرة وغوفي بالضبط.
نذكر المرحوم الشيخ محمد بن الصغير الميموني 1922-1998 الذي ساهم بتدريس الأناشيد الوطنية وأشاع وسطنا جوا من الحماس وخاصة تلك الأناشيد عن فلسطين التي كان يشدوها الشهيد الربيع بوشامة وعبد الكريم العقون من مشايخ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وقد ظل الشيخ ميموني محمد بن الصغير على درب الوطنية –فقد التقيته في مدينة Pompey بفرنسا وهو يعمل في إحدى مصانعها وكان يتولى جمع الاشتراكات لفائدة دعم المجهود الحربي لثورة نوفمبر 1954 في الجزائر وكان رحمه الله يتمتع بسمعة طيبة لدى علماء من الأوراس العاملين معه في مصنع الحديد في بوني ونحن في غمار الحديث عن الإصلاح والمصلحين في الأوراس وبالضبط في غوفي هذه القرية التي ولدت فيها والتي تعلمت فيها أبجدية الكلمة المكتوبة ونصيبا من علوم النحو والفقه على شيخنا سي أحمد بن السعدي الميموني الغسيري الذي عاش إماما ومرشدا ومفتيا وحاملا للسلاح في جيش التحرير والذي عمل تحت قيادة العقيد سي الحواس كما كان يحظى بتقدير كبير من طرف بطل الأوراس الشهيد مصطفى بن بولعيد رحمه الله ورحم جميع شهداء ثورة التحرير.
ولا يمكن لنا أن نهمل الدور الذي اضطلع به الشيخ سي إبراهيم بن المختار بن زروال 1918-1962 فكان شعلة من النشاط ويتمتع بذوق أدبي قل نظيره في تلك الظروف فقد اخرج لنا مسرحية بلال بن رباح التي كتبها أمير الشعراء الجزائر محمد العيد آل خليفة وقام بتمثيلها عدد من أعضاء الجمعية الدينية في قرية غوفي منهم سي العروسي بخوش وسي العروسي بن حركات شقيق الشيخ سي عمار بن سي الجودي ويمكن اعتبار تقديم مسرحية بلال بن رباح في مسجد غوفي التاريخي أول نشاط ثقافي عرفه غوفي في تاريخه والشيخ سي إبراهيم بن مختار بن زروال درس على الشيخ بن باديس ومع الأسف الشديد لا أملك أي معلومات وافية عن الشيخ سي الصالح بن مدور وهو من قرية أولاد منصور التي ولد فيها الشيخ محمد الغسيري مفتش مدارس جمعية العلماء وممثل جبهة التحرير في دمشق، ثم سفيرا بعد الاستقلال في السعودية واليمن والإمارات وأخيرا الكويت فالشيخ سي الصالح بن مدور درس على بن باديس وقام بالتدريس في الحمامات حيث درس عليه الشهيد سي بلقاسم بن المبروك والونيس سي مسعود وهو صهر الشيخ أحمد بن السعدي الميموني الغسيري وضابط سابق في جيش التحرير وقبل ذلك كان معنا طالبا في معهد بن باديس وبعد الاستقلال أصبح نائبا في البرلمان عن الأوراس، وبعد ذلك عمل في سلك وزارة الشؤون الدينية على مستوى عاصمة الأوراس بباتنة .
وها هو شيخنا المرحوم والمصلح والضابط في جيش التحرير سي محمود الواعي 1919-1998 يصدر كراسا بتاريخ عن الحركة الإصلاحية في الأوراس يرصد فيه مراحل وتطور انتشار الفكر الإصلاحي لجمعية العلماء في الأوراس ورغم وجود العديد من الزوايا في منطقة الأوراس فهذه الزوايا لم تحارب الفكر الإصلاحي بل إن الزاوية الدردورية تحولت إلى مركز إيواء لجيش التحرير والشيخ عمر دردور 1913-1993 درس على بن باديس وكان من مساعديه هو والغسيري والورتيلاني كما عينه بن باديس مسؤولا على طلبة الأوراس، والذين وصفوه بـ ابن باديس الأوراس لم يكونوا على خطأ فقد ظل على خطى بن باديس في الدعوة والإصلاح وعلى خطى بن بولعيد وبن مهيدي في الجهاد فقد مثل الجزائر في المشرق العربي وخاصة القاهرة خير تمثيل وكان أمين مال جبهة التحرير والصديق الحميم للمجاهد الدكتور الأمين دباغين رحمهما الله معا، ولم ينس الشيخ سي محمود الواعي وهو يتحدث عن الفكر الإصلاحي لجمعية العلماء في الأوراس أن يشيد بالزوايا الأربعة التي تنشط في الأوراس وهي: الرحمانية والقادرية والشادلية والدردورية التي تعتبر فرعا من الرحمانية وقد اضطلعت هذه الزوايا بدور هام في المحافظة على الدين الإسلامي وتعليم القرآن وكانت هذه الزوايا على رأس كل الانتفاضات الشعبية ضد الوجود الاستعماري على الجزائر ومواجهة الفكر التبشيري الذي يقوده الآباء البيض الذين نزلوا بأريس وضواحيها بعد أن استولى الجيش الفرنسي على الأوراس.
تأسيس شعب جمعية العلماء في الأوراس وتنامي الفكر الإصلاحي في المنطقة يزعج السلطات الاستعمارية
لم يقتصر الفكر الإصلاحي لجمعية العلماء على باتنة عاصمة الأوراس وحدها بل امتد ليشمل المداشر والقرى التابعة لعاصمة الولاية فقد رأينا كيف تنافست عدة قرى ومداشر وتسابقت على إنشاء شُعب جمعية العلماء وفي ظل هذه الأجواء ولدت في شهر أوت 1937 : الشعبة الأوراسية الإصلاحية باسم جمعية العلماء بحيدوس بدوار وادي عبدي من طرف بعض خريجي جامع الأخضر في قسنطينة وهم من المنطقة ومن أبناء الزوايا الذين أتموا تعليمهم لدى رائد الحركة الإصلاحية لجمعية العلماء الشيخ عبد الحميد بن باديس قدس الله ثراه، وجعل الله الجنة مثواه،يتصدرهم الشيخ عمر دردور المعتمد من طرف جمعية العلماء التي تأسست في 5ماي 1931 وقد كلفته الجمعية بالقيام بالنشاط الإصلاحي باسم جمعية العلماء وممثلا لمنطقة الأوراس يساعده كل من الشيخ الأمير صالحي والشيخ محمد ييكن المنصوري الغسيري والشيخ أحمد السرحاني وعبد الواحد واحدي ورشيد صالحي وأحمد بهلولي .
ومن تأسيس الشعب إلى تأسيس الجمعيات والنوادي والمدارس
يقول المرحوم سي محمود الواعي إن الجمعيات التي تأسست بقوانينها وهيآتها وباشرت أعمالها عشرة كما يلي:
الجمعية الدينية الإسلامية بوادي عبدي ومقرها حيدوس.
الجمعية الإصلاحية بدوار بوزينة مقرها أم الرخاء
الجمعية الإسلامية ببلدية غسيرة ومقرها غوفي معقل الشيخ سي عمار بن سي الجودي وسي أحمد بن السعدي وهما من رواد الحركة الإصلاحية لجمعية العلماء في قرية غوفي، بلدية غسيرة .
الجمعية الإسلامية بدوار زالاطو مقرها إينوغيسن ، قبيلة بن بوسليمان التي أنجبت العقيد سي الحواس والصادق بوكريشة وحمودة عاشور رحمهم الله ضباط جيش التحرير .
الجمعية الإصلاحية بدوار مادي الأبيض مقرها آريس مسقط رأس الشهيد مصطفى بن بولعيد.
الجمعية الإصلاحية ومقرها منعة
الجمعية الإسلامية بدوار شير مقرها مدرونة
الجمعية الإصلاحية مقرها قرية مشونش.
مدارس تابعة لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين في الأوراس
مدرسة تكوت: قبيلة بني بوسليمان أول من تولى التعليم فيها هو الشيخ أحمد بن السعدي الميموني الغسيري قبل أن يتولى التعليم في مدرسة غوفي، تحت إشراف الجمعية الدينية كما ذكرت ذلك سابقا.
مدرسة إينوغيسن: التي تولى التدريس فيها الشيخ ميهوبي محمد المبارك المعروف باسم محمد الدراجي، وفي هذه المدرسة قرأ الشهيد والضابط في جيش التحرير المرحوم سي الصادق بوكريشة الذي درس معا في معهد ابن باديس.
مدرسة كيحل: وتقع في منطقة السراحنة وقد تولى التدريس فيها الشيخ سي أحمد السرحاني وهو تلميذ سابق في جامع قموش والجامع الأخضر بقسنطينة للشيخ ابن باديس، وقد تعرض الشيخ أحمد السرحاني للاضطهاد والملاحقة من طرف الاستعمار الفرنسي، وانتقل إلى الولجة بخنشلة، وقد درس على يد الشيخ السرجاني كل من محمود الأغواطي وعبد الحميد تغليسان وهلايلية محمد الصغير الضابط سابقا في جيش التحرير، وصاحب كتاب شاهد على الثورة في الأوراس، وغداة اندلاع ثورة التحرير التحق كأستاذ في معهد ابن باديس بقسنطينة وهو من مواليد 1912م، درس في زاوية الشيخ الصادق بن الحاج في تيبرماسن، كما درس على ابن باديس سنة 1936م إلى غاية وفاة ابن باديس في 16أفريل1940م.
الحركة الإصلاحية لجمعية العلماء في مشونش الأوراسية
قامت جمعية العلماء سنة 1943م بتعيين الشيخ أحمد السرحاني كمعلم تابع لجمعية العلماء في مشونش القرية الكبيرة القريبة من بسكرة، وذلك بعد أن أطلق سراحه من طرف الإدارة الاستعمارية التي ألقت القبض عليه سنة 1941م بسبب نشاطه الثقافي والسياسي، وقد أحدث حركة إصلاحية في هذه المنطقة، وتتلمذ عليه كل من الأستاذين محمد مهدي خريج جامعة دمشق ومحامي في المدية، وإطار سابق في وزارة الشؤون الدينية منصبا ساميا في وزارة الشؤون الدينية في عهد الوزيرين السابقين: توفيق المدني والتيجاني هدام، واستقالا معا في عهد العربي سعدوني، وفي المدة الأخيرة أصدر الأستاذ موساوي زروق المحامي سابقا في باتنة وأحد تلامذة الشيخ أحمد السرحاني أحد أقطاب الفكر الإصلاحي لجمعية العلماء في الأوراس كتابا قيما عبارة عن مذكراته.
وهو عبارة عن مذكراته وهو بعنوان: "مسيرة مقاوم من جمعية العلماء المسلمين الجزائريين" بمنشورات الشهاب –الجزائر 2015م" وهو أول كتاب يؤرخ للحركة الإصلاحية لجمعية العلماء في أحد قرى أوراس المشهورة مشونش القريبة من بسكرة عاصمة الزيبان، وكان صديقا محمد مهدي هو الآخر تعرض باقتضاب شديد لهذه الحركة رغم أنه كان واحدا من طلبة الشيخ السرحاني.
يقول الأستاذ موساوي زروق"إذا تحدثنا عن الحركة الإصلاحية لجمعية العلماء في الأوراس يمكن لنا القول إن قرية مشونش من القرى التي يضرب بها المثل وذلك للوعي الذي انتشر فيها والإخلاص الذي اشتهر به رجالها في ذلك وكانت الحركة الإصلاحية لجمعية العلماء هي الأولى التي دخلت مشونش سنة 1934م. ويقول الأستاذ موساوي زروق المحامي سابقا والطالب في معهد ابن باديس وأحد أفراد بعثة جمعية العلماء إلى شرق العراق، وذلك في كتاب له بعنوان "مسيرة مقاوم من جمعية العلماء المسلمين الجزائريين" منشورات الشهاب-الجزائر 2015م -أن الشيخ عبد الحميد بن باديس لما جاء إلى بسكرة ذهب وفد من مشونش1 لمقابلته، وبعدما تمت المقابلة جاء الشيخ الإمام عبد الواحد واحدي وهو من ثنية العابد إلى مشونش لنشر الفكر الإصلاحي في القرية، ولكن القائد الأشهل من أسرة آل بن شنوف ومعه الحاكم أدركا أن هذا الرجل كان يقوم بنشاط سياسي وديني لذلك لم يتركوه ليبقى في مشونش، بحيث لم يبق إلا سنة واحدة فقط ثم أخرجوه من هذه القرية ومع ذلك أخذت الحركة الإصلاحية لجمعية العلماء في قرية مشونش تترسخ في فكر الشباب من أمثال أحمد بن سي أحمد عباس والد الشهيد عبد الكريم عباس الذي درس في القاهرة وتلقى فيها تدريبا عسكريا ليلتحق بعد ذلك بالثورة ومات رحمه الله شهيدا-.
وقد أدرك الأستاذ قائمة بأسماء شخصيات من مشونش كانت وراء انتشار الفكر الإصلاحي لجمعية العلماء مما جعل والد الشيخ زكريا حمودة يرسل ابنيه حمودة زكريا وحمودة عبد الله سنة 1934م-1935م إلى قسنطينة ليدرسا على رائد النهضة الإصلاحية في الجزائر الشيخ ابن باديس إذن كما يؤكد الأستاذ موساوي زروق "أن الحركة الإصلاحية هي الأولى التي دخلت مشونش ثم تلتها أحزاب أخرى "البيان- حزب الشعب- وغيرها.
الشهيد عبد الرحمن البركاني ودوره في الإصلاح والثورة التحريرية
وقد تبوأ زروق موساوي المكانة التي يستحقها، فكان له دور هام في الفكر الإصلاحي في بسكرة، وامتد شعاع نشاطه إلى مشونش التي كان يملك فيها الشيخ عبد الرحمن البركاني أملاكا، وكان جده عبد القادر البركاني مدفونا في مشونش، وكانت جماعة مشونش طلبوا من المصلح البركاني تزويدهم بمعلم يعلم أولادهم، وهم حاليا في وضع في حاجة إلى من يتعهد أتباعهم بالتربية والتعليم، وكان يومئذ في مشونش الشيخ عمار بن الحسين والد المجاهد محمد الشريف عباس وزير المجاهد سابقا.
فقد قام الشيخ عمار بن الحسين بدور هام في نشر الفكر الإصلاحي في مشونش غير أن المرض الذي ألم به وأصابه في العين جعله يتردد باستمرار على طبيب مختص في بسكرة، وفي الأخير استقر نهائيا في بسكرة. وقد فقد بصره رحمه الله وأصدر عنه ابنه محمد الشريف عباس كتابا بعنوان "سيرة ومسيرة" وقد أشاد به الأستاذ موساوي زروق حيث قال عنه الشيخ عمار عباس تخرج من جامع الزيتونة وكان رجلا مصلحا وعالما، وها هو الشيخ عبد الرحمن البركاني الذي مات شهيدا في المغرب وهو يسعى للقيام بصلح بين عمر بن بولعيد وجبهة التحرير، وقد ذهب ضحية خطأ رحمه الله، وكان من رواد الفكر الإصلاحي في بسكرة، وقد اقترح على جماعة مشونش اسم الشيخ أحمد السرحاني تلميذ ابن باديس. وتعتبره الدوائر الاستعمارية في الأوراس مشوشا مما جعل حاكم آريس يصدر أمرا بنفيه، واستقر به المقام في خنقة سيدي ناجي. وفعلا تم الاتفاق معه وجاء مشونش وبقي فيها، وكان في ضيافة سعيد موساوي وحمودة زكريا، وعباس محمد بن سي أحمد ثم استقر بأسرته في مسكن تابع لحبوس المسجد.
وقد أشاد الأستاذ موساوي زروق المحامي بأستاذه الشيخ أحمد السرحاني، فقد نعته بقوله "الشيخ السرحاني رحمه الله كان رجلا من الرعيل الأول ومن تلامذة الإمام عبد الحميد بن باديس وكان وطنيا مخلصا، ومتقنا لعمله إذ كان يدرس 8ساعات في اليوم زيادة على صلاة الصبح ودرس بعدها، ودرس بعد صلاة العشاء وكان يدرس ورفاقي جميع العلوم العربية والدينية والرياضيات حسب استطاعته في ذلك الوقت، وقد استطاع الشيخ أحمد السرحاني بالتعاون مع الشيخ زكريا حمودة اللذين درسا عند الشيخ ابن باديس من جعل التكوين علميا وعقليا ووطنيا صافيا، وشيئا فشيئا استطاعت مدرسة مشونش أن تكون رمز الأوراس في ذلك الوقت رغم أن الظروف كانت صعبة من ناحية المعيشة إلا أن جميع من جاء يدرس بمشونش عند المصلحين كانوا يأكلون عندهم، ويتعلمون عند الشيخ السرحاني والشيخ زكريا". وكان هؤلاء التلاميذ يأتون من جميع الجهات حتى من بن ملول، وأولاد سليمان والتوابة والغواسير نسبة إلى غسيرة، وبن ملكم وحتى من منعة قرية مشونش استطاعت أن تستقطب عددا من أبناء الأوراس من مختلف القرى والمداشر وتتكفل بإيوائهم وإطعامهم، وهذا ما لم تقم به أي قرية من قرى الأوراس، ولعل ذلك راجع إلى الوضع الاقتصادي الذي تتمتع به مشونش على سائر المناطق في الأوراس. فقد وهبها الله النخيل وأجود أنواع التمور دقلة نور وما تدره هذه التمور من مداخيل مالية للسكان، وبذلك يعتبر الوضع الاقتصادي والاجتماعي لسكان قرية مشونش التي تحولت في السنوات الأخيرة إلى مدينة إلى وضع متميز ومتفوق على باقي سكان قرى الأوراس ولا تكاد تنافسها اقتصاديا سوى قرية منعة التابعة لولاية باتنة، والتي وهبها الله مياها جارية وحدائق مثمرة بفواكه ممتازة جعلت سكان منعة ينعمون بدخل اقتصادي يفوق مداخيل باقي قرى ومداشر الأوراس الأخرى وحق لصديقنا الأستاذ موساوي زروق أن يثني على جهود الشيخ سي عبد الرحمن البركاني المصلح والشهيد الذي ذهب خطأ ودفع ثمن الصراعات داخل جبهة التحرير وهو يعمل على رأب الصدع بين الفرقاء المتصارعين، والأستاذ موساوي زروق هو وحده الذي روى قصة استشهاد عبد الرحمن البركاني في المغرب في كتابه "مسيرة مقاوم من جمعية العلماء المسلمين" وشاءت لي الظروف أن أتعرف على الشهيد الشيخ سي عبد الرحمن البركاني في مدينة سان دوني الواقعة شمال باريس وأن نعيش سويا أكثر من شهر وأن أرافقه إلى الطبيب حيث كان ضعيف البصر ولا يعرف الفرنسية واستمتعت بجلساته الحميمية، وأذكر أننا ذات يوم ونحن نتجول سويا في حديقة لوكسومبورغ في الدائرة السادسة من باريس وإذا بنا نلتقي شيخنا عبد المجيد حيرش الذي كان أستاذي في معهد ابن باديس فأخذنا صورة تذكارية معا، وأذكر أن عشية سفر الشيخ سي عبد الرحمن البركاني إلى المغرب حيث ينتظره الشيخ خير الدين والمصلح حليمي الهاشمي صاحب حافلة النقل من بكسرة إلى آريس والعكس وهو من الشخصيات الإصلاحية المعروفة في عاصمة الزيبان بسكرة.
والذي شاء له القدر أن يموت تحت أنقاض مدينة أغادير التي هزها الزلزال.
أما سي عبد الرحمن البركاني فقد التحق بالمغرب، وكان رحمه الله قد ألح علي كثيرا لأن أرافقه في السفر إلى المغرب غير أن تسجيلي في جامع الزيتونة فضلت الالتحاق بتونس وبقينا نتراسل سويا. وفجأة توقفت المراسلات من طرفه، ولا أعرف سببا لذلك. وذات يوم التقيت بالأستاذ خليفة عبد العزيز خريج بغداد والذي كان يتولى التدريس في المغرب وسألته إن كان يعرف الشيخ عبد الرحمن البركاني والتقى به في المغرب فأكد لي أنه يعرفه جيدا، وأنه توفي مؤخرا دون أن يذكر لي كيف مات وأين مات؟ رحمه الله، وسوف أعود للكتابة عن هذه الشخصية المجاهدة والمصلحة والمعمورة وإن بقي في العمر بقية.
وهو من رواد الحركة الإصلاحية في باريس ولعب دورا في حرب التحرير، وذهب ضحية صراعات، كان يسعى ما وسعه جهده لرأب الصدع والحفاظ على وحدة الثورة والثوار، وهو رجل حقا جدير بأن يخصص له كتاب كامل عن سيرته ومسيرته، وجهاده بالمال والفكر رحمه الله.
رحم الله شهداء ثورتنا التحريرية، وشهداء الانتفاضات التي شهدها وطننا منذ الاحتلال إلى الاستقلال.
الهوامش:
1 "مشونش" لها شهرة في جودة تمورها، وخاصة "دقلة نور" وهي مسقط رأس الشهيد سي الحواس وأغنى قرى الأوراس.