مقومات الفكر الإصلاحي عند الإمام محمد البشير الإبراهيمي (الأمة العربية الإسلامية: ساحة وميدانا)
بقلم: د.يوسف القرضاوي -
كان الإمام الإبراهيمى يجاهد في معركة كبيرة، كَثُر فيها الخصوم والأعداء، وقل فيها الأعوان والنصراء، وشحذت فيها أسلحة كثيرة من قبل هؤلاء الأعداء، المجهّزين بكل ما تطلبه المعركة، فهم مجهزون بالعلم، ومجهزون بالمال، ومجهزون بالمكر، ومجهزون بالعدد والعدة، ومجهزون بالتكاتف والتعاضد. فهم يختلفون فيما بينهم على أمور شتى، ولكن إذا كان العدو هو الإسلام: اتفقت كلمتهم، والتأم شملهم، وتوحد صفهم، ونسوا ما بينهم من خلافات جانبية.
ومما ضاعف من صعوبة هذه المعركة وشدتها وخطرها: أن ساحتها واسعة جدا، مساحتها (الأمة الإسلامية) على امتداد أقطارها، واتساع مساحاتها، وتباعد أطرافها، وتنوع عروقها، وتعدد لغاتها.
الأمة المسلمة في مشارق الأرض ومغاربها كانت ميدان العمل والدعوة والجهاد للإبراهيمي.
قضية فلسطين في المقدمة:
ولذا كان اهتمامه بكل قضايا الأمة، وعلى رأسها قضيتها المحورية: قضية أرض الإسراء والمعراج والأقصى: فلسطين، التي خصّها بالمزيد من الاهتمام فهو يعيش فيها، وتعيش فيه، يذكر بمحنتها، ويحامي عن حقها، ويحرض العرب والمسلمين على الذود عن حياضها، ويدعو الجزائريين خاصة أن ينهضوا بواجبهم نحوها، ولا يتخاذلوا عن نصرتها بكل ما يستطيعون.
كان هذا موقفه قبل أن تقوم دولة الكيان الصهيوني، وبعد أن قامت.
استمع معي إلى ما كتبه في البصائر في العدد (5) سنة 1947م: (يا فلسطين ! إن في قلب كل مسلم جزائري من قضيتك جروحا دامية، وفي جفن كل مسلم جزائري من محنتك عبرات هامية، وعلى لسان كل مسلم جزائري في حقك كلمة مترددة هي: فلسطين قطعة من وطني الإسلامي الكبير قبل أن تكون قطعة من وطني العربي الصغير؛ وفي عنق كل مسلم جزائري لك – يا فلسطين – حق واجب الأداء، وذمام متأكد الرعاية، فإن فرّط في جنبك، أو ضاع بعض حقك، فما الذنب ذنبه، وإنما هو ذنب الاستعمار الذي يحول بين المرء وأخيه، والمرء وداره، والمسلم وقبيلته.
يا فلسطين ! إذا كان حب الأوطان من أثر الهواء والتراب، والمآرب التي يقضيها الشباب، فإن هوى المسلم لك أن فيك أولى القبلتين، وأن فيك المسجد الأقصى الذي بارك الله حوله، وإنك كنت نهاية المرحلة الأرضية، وبداية المرحلة السماوية، من تلك المرحلة الواصلة بين السماء والأرض صعودا، بعد رحلة آدم الواصلة بينهما هبوطا ؛ وإليك إليك ترامت هِمم الفاتحين، وترامت الأيْنُق الذللُ بالفاتحين، تحمل الهدى والسلام، وشرائع الإسلام، وتنقل النبوة العامة إلى أرض النبوات الخاصة، وثمار الوحي الجديد، إلى منابت الوحي القديم، وتكشف عن الحقيقة التي كانت وقفت عند تبوك بقيادة محمد بن عبد الله، ثم وقفت عند مؤتة بقيادة زيد بن حارثة، فكانت الغزوتان تحويما من الإسلام عليك، وكانت الثالثة وردا، وكانت النتيجة أن الإسلام طهّرك من رجس الرومان، كما طهر أطراف الجزيرة قبلك من رجس الأوثان) [1].
وفي هذه المقالة يقول: (أيظن الظانون أن الجزائر بعراقتها في الإسلام والعروبة تنسى فلسطين ؟! وتضعها في غير منزلتها التى وضعها الإسلام من نفسها ؟ لا والله: يأبى لها ذلك شرف الإسلام، ومجد العروبة ووشائج القربى.
ولكن الاستعمار الذي عقد العقدة لمصلحته، وأبى أن يحلها لمصلحته، وقايض بفلسطين لمصلحته: هو الذى يباعد بين أجزاء الإسلام لئلا تلتئم، ويقطع أوصال العروبة كيلا تلتحم، وهيهات).
ويستمر الشيخ على هذا النهج في التركيز بفلسطين، والتعريف بعدالة قضيتها، وجمع الأمة كلها حولها، في سبع مقالات مطولة، بأسلوب الشيخ الذي يُحرّك السواكن، ويثير الكوامن، ويفجر المكنون من الطاقات.
انظر ما كتبه عن (عيد الأضحى وفلسطين): النفوس حزينة، واليوم يوم الزينة، فماذا نصنع ؟
إخواننا مشردون، فهل نحن من الرحمة والعطف مجردون ؟
تتقاضانا العادة أن نفرح في العيد ونبتهج، وأن نتبادل التهاني، وأن نطرح الهموم، وأن نتهادى البشائر.
وتتقاضانا فلسطين أن نحزن لمحنتها ونغتم، ونُعْنَى بقضيتها ونهتم.
ويتقاضانا إخواننا المشردون في الفيافي، أبدانهم للسوافي، وأشلاؤهم للعوافى، أن لا ننعم حتى ينعموا، وأن لا نطعم حتى يطعموا.
ليت شعرى !. . . هل أتى عبّاد الفلس والطين، ما حل ببني أبيهم في فلسطين ؟
أيها العرب، لا عيد حتى تنفذوا في صهيون الوعيد، وتنجزوا لفلسطين المواعيد، ولا نحر حتى تقذفوا بصهيون في البحر.
ولا أضحى حتى يظمأ صهيون في أرض فلسطين ويضحى.
أيها العرب: حرام أن تنعموا وإخوانكم بؤساء، وحرام أن تطعموا وإخوانكم جياع، وحرام أن تطمئن بكم المضاجع وإخوانكم يفترشون الغبراء.
أيها المسلمون: افهموا ما في هذا العيد من رموز الفداء والتضحية والمعاناة لا ما فيه من معاني الزينة والدعة والمطاعم، ذلك حق الله على الروح، وهذا حق الجسد عليكم.
إن بين جنبي ألماً يتنزّى، وإن في جوانحي ناراً تتلظى، وإن بين أناملي قلماً سُمته أن يجري فجمح، وأن يسمح فما سمح، وإن في ذهني معاني أنحى عليها الهم فتهافتت، وإن على لساني كلمات حبسها الغم فتخافتت.
ولو أن قومي أنطقتنى رماحهم نطقت ولكن الرماح أجَرّت[2]
وكتب مرة أخرى بمرارة مقالاً يقول فيه: هل لمن أضاع فلسطين عيد ؟؟
ولنقرأ هذه الكلمات البليغة المعبرة التي ارتجلها الإبراهيمي في حفل إقامة جمعية الإخوة الإسلامية في العراق ونشرتها مجلتها: قال[3]:
إن معرفة كارثة فلسطين لا تعدو أن تكون أسئلة وأجوبة ؛ فإن استطعنا أن نعرف الداء، ثم نعالجه. .
أما السؤال الأول، فهو:
هل أضعنا فلسطين ؟
الجواب: نعم.
السؤال الثاني:
هل أعطيناها أم أخذوها منا ؟
الجواب: أعطيناها نحن !!
السؤال الثالث:
هل يمكن استرجاعها ؟
الجواب: يمكن استرجاعها. .
ثم قال: بماذا أضعنا فلسطين ؟
الجواب: أضعناها بالكلام.
فقد كان الشعراء ينظمون القصائد الطويلة العريضة في مديح العرب وتسفيل اليهود، والكُتّاب يكتبون، والسّاسة يصرحون، فبين النظم والتصريح والكتابة والخطابة ضاعت فلسطين !!
ثم قال:
الرجل البطل يعمل كثيرا، ولا يقول شيئا. ا.هـ
وفي مقام آخر ختم مقالة بهذه الكلمات المضيئة التي يكاد يحفظها الجزائريون كافة:
أيها العرب، أيها المسلمون !
إن فلسطين وديعة محمد عندنا، وأمانة عمر في ذمتنا، وعهد الإسلام في أعناقنا، فلئن أخذها اليهود منا ونحن عصبة إنا إذا لخاسرون !
مشاركة تونس في محنتها:
وإذا كان الشيخ يهتم بفلسطين - على بعد الدار – فلا غرو أن يهتم بالمغرب العربي أو بالشمال الأقصى، وهو أقرب دارا فهو يألم لألمه، ويبكي في أحزانه، ويشدو في أفراحه. وقد كتب تحت عنوان (كوارث الاستعمار) مواسيا لتونس يقول: فات " البصائر " بسبب عطلة المطبعة أسبوعين في آخر رمضان – أن تشارك الأمة التونسية العزيزة في إعلان الحزن على ما أصابها في العهد الأخير من كوارث الاستعمار التي تجلت في الحادثتين الداميتين، حادثة (جبل الجلود) وحادثة (صفاقس).
أما التألم والامتعاض من قتل الأبرياء المسالمين، وأما الحزن والأسى لإخواننا الذين ماتوا مظلومين، ولأطفالهم وزوجاتهم الذين بقوا بلا مال ولا عائل فإن حظنا منها لا يقل عن حظ إخواننا التونسيين، ومحال أن يتألم عضو من جسد ولا يتألم له سائر الأعضاء، وقد ألّفت هذه المصائب المتوالية، وهذه المصائب المتحدة المصدر، بين قلوبنا تأليفا جديدا محكم النسج، وأرهفت إحساسنا وصيرتنا كتلة من لحم مرضوض، في لجة من الدموع المرفضة، فلا يمتاز في مصائبنا معز من معزى.
عذرنا إلى إخواننا أننا لم نخسر في باب التعزية إلا سطورا سوداء في أوراق بيضاء تقرأ وتهجر. وعوضنا الغالي عنها إحساسات مضطربة في نفوس متألمة [4].
ويكتب المقالات في الصفحات المتعددة عن (المغرب) وقد كان يسمى في ذلك الوقت (مراكش). أو المغرب الأقصى، ويتحدث عن الملك محمد الخامس الذي وقف ضد فرنسا، وقامت بنفيه خارج البلاد، وأثنى عليه جميلا، على قلة ثنائه على الملوك والأمراء. بل كثيرا ما يصليهم نارا من كلمه، الذي نراه أحيانا أحدّ من السيف.
ولليبيا حق مؤكد:
كما تحدث الشيخ كثيراً عن تونس ومراكش – أو المغرب الأقصى كما كان يسمى – تحدث عن ليبيا فقال: ولإخواننا الليبيين – أو الطرابلسيين كما نسميهم - علينا حق الدين، وحق اللغة، وحق الجنس، وحق الجوار، وحق الاشتراك في الآلام والمحن، وفي الآمال المقترحة على الزمن، وهذه كلها أرحام يجب أن تبل ببلالها، وحقوق في ذمة المروءة والوفاء يجب أن تؤدى، وإن من حسن القضاء عند الكرام الأوفياء أن يكون في وقت الحاجة إليه، وإن هؤلاء الإخوان اليوم في طور امتحان عسير معقد، تتخلله الأهواء والمطامع، ويحيط به الكيد والتعنيت من كل جانب، وإن نجاحهم فيه يتوقف على جمع الكلمة، وتسوية الصف، وتوحيد الرأي، ومتانة الإيمان بالحق، والحذر الشديد من الأشراك المنصوبة والعُصَب الدخيلة، والنظر البعيد في العواقب المخبوءة والمكايد الخفية، والاحتفاظ بكلمة الفصل، يقولها الواحد فترددها الملايين، وإنهم في حالة انتقال، من حال إلى حال، من حال كانوا يواجهون فيه عدواً واحداً مكشوف النيات والسرائر، حيواني الشهوات والمنازع، إلى حال يواجهون فيه ثلاثة أعداء متشاكسي المصالح، متبايني المطامع، متظاهرين بالتقوى والعدل، والنصيحة الرشيدة للمستضعفين، ولكنهم متفقون على الاستغلال لا على الاستقلال، ومن ورائهم ذلك الثعلب القديم، وقصمت الحرب ظهره، جائعاً يتضور، وقابعاً يتحفز، وحانقاً يتلظى، وراجياً يتعلق، وطامعاً يتملق.
قاوم هؤلاء الإخوان الاستعمار الإيطالي، ووقفوا في وجهه وقفة المستميت، لم يثنهم التقتيل والتشريد، حتى إذا استيأسوا، وظنوا أن هذا الجار العنيد ختم عليهم بالعبودية المؤبدة جاءت الحرب الأخيرة، وعاد الرجاء، ونبض عرق البطولة، وهبّ المغاوير من سلائل العرب، يثأرون لعمر المختار، والشهداء الأبرار، حتى اشتفوا، وأوبقت إيطاليا جرائرها، فأبادها الله، وما كان إخواننا يدرون أنهم يعينون استعماراً على استعمار، وأنهم سينتقلون من شدق الأفعى، إلى ناب الأفعوان، ولكنهم لم يهنوا ولم يفشلوا في طلب استقلالهم، فصُمت الآذان عن سماع صوتهم حيناً ثم تصادمت المطامع، فكان لأصوات الدول الضعيفة في مجلس الأمم مجال في الآذان الصماء، ومنفذ إلى القلوب الغلف، فقضى ذلك المجلس باستقلال ليبيا طائعاً كمكره، ولكنه أرجأ الإنجاز إلى أول سنة 1952م.
جزيرة العرب في وجدان الإبراهيمي:
وهو يتابع بفكره وقلبه وأعصابه وإحساسه كل بلاد الإسلام. فاقرأه وهو يتحدث عن جزيرة العرب، ومصر وشمال أفريقيا وغيرها يقول: (وهذه الجزيرة العربية مَجْلى البيان والوحي، ومسرح الخيال والشعر، ومنبت حماة الحقائق من قطحان وعدنان – تنصب فيها أشراك الشركات ووراء كل شرك صائد ؛ وتتناطح فيها رؤوس الأموال ؛ ووراء كل رأس مال رؤوس حيوانية تفكر في الكيد، وأيد حريرية تحمل القيد ؛ وأرجل تسعى للاحتلال والاستغلال ؛ وقد فجعت صحراؤها في الدليل الذي كان يستاف أخلاف الطرق [5]، بالدليل الذي جاء يستشفّ [6] أطباق الأرض، ويشتفّ [7] ما فيها من سوائل ؛ وأصبح ما في الأرض من الكنوز السائلة والجامدة بلاء وشقاء لمن على ظهرها من أهل وسكان.
وهذه مصر كنانة السهام ؛ أرض العبقرية وسماء الإلهام، وقبلة العرب ومحراب الإسلام تدفع بقوة إيمانها ألوهية فرعون جديد. وتدفع بيقظتها كيد شيطان مريد، بعد أن أنقذها الإسلام من تعبد الفراعنة الأولين ؛ وإن فرعون الجديد لعال في الأرض – كأخيه – وإنه لمن المفسدين.
وهذا الشمال [8] قد أصبح أهله كأصحاب الشمال، في سموم من الاستعمار وحميم، وظل من يحموم، ، لا بارد ولا كريم ؛ أفسد الاستعمار أخلاقهم.
ولمصر مكانة خاصة:
ويتحدث في مقال خاص رائع يخاطب فيه مصر (يا مصر) فيقول وما أبدع ما يقول: (انثري كنانتك – يا كنانة الله – فإن لم تجدي فيها سلاح الحديد والنار فلا تراعي، واحرصي على أن تجدي فيها السلاح الذي يفل الحديد، وهو العزائم ؛ والمادة التي تطفئ النار، وهي اتحاد الصفوف ؛ والمِسن الذي يشحذ هذين، وهو العفة والصبر ؛ فلعمرك – يا مصر – إنهم لم يقاتلوك بالحديد والنار، إلا ساعة من نهار، ولكنهم قاتلوك في الزمن كله بالأستاذ الذي يفسد الفكر، وبالكتاب الذي يزرع الشك، وبالعلم الذي يمرض اليقين، وبالصحيفة التي تنشر الرذيلة، وبالفيلم الذي يزين الفاحشة، وبالبغي التي تخرب البيت ؛ وبالحشيش الذي يهدم الصحة ؛ وبالممثلة التي تمثل الفجور ؛ وبالراقصة التي تغري بالتخنث ؛ وبالمهازل التي تقتل الجد والشهامة ؛ وبالخمرة التي تذهب بالدين والبدن والعقل والمال ؛ وبالشهوات التي تفسد الرجولة، وبالكماليات التي تثقل الحياة ؛ وبالعادات التي تناقض فطرة الله ؛ وبالمعاني الكافرة التي تطرد معاني الله من القلوب ؛ فإن شئت أن تذيبي هذه الأسلحة كلها في أيدي أصحابها فما أمرك إلا واحدة، وهي أن تقولي: إني مسلمة. .. ثم تصومي عن هذه المطاعم كلها. .. إن القوم تجار سوء، فقاطعيهم تنتصري عليهم. .. وقابلي أسلحتهم كلها بسلاح واحد، وهو التعفف عن هذه الأسلحة كلها... فإذا أيقنوا أنك لا حاجة لك بهم، أيقنوا أنهم لا حاجة لهم فيك، وانصرفوا... وماذا يصنع " المرابي" في بلدة لا يجد فيها من يتعامل معـه بالربا؟)[9] انتهى.
قومي هم العرب والمسلمون:
ويتحدث الشيخ عن قومه وقضاياهم ومآسيهم التي تُؤرق عليه ليله، وتكدر عليه نهاره. وقومه هم العرب والمسلمون. يقول رحمه الله: (والحقيقة هي أني كلما أظلّني عيد من أعيادنا الدينية أو القومية – أظلّتني معه سحابة من الحزن لحال قومي، وما هم عليه من التخاذل والانحلال والبعد عن الصالحات، والقرب من الموبقات. ... وقومي هم العرب أولا، والمسلمون ثانيا، فهم شغل خواطري، وهم مجال سرائري وهم مالئو أرجاء نفسي، ومالكو أزمة تفكيري.
أفكِّر في قومي العرب فأجدُهم يتخبّطون في داجية لا صباح لها، ويُفتَنون في كل عام مرةً أو مرتين، ثم لا يتوبون ولا هم يذّكرون، وأراهم لا ينقلون قدما إلى أمام، إلا تأخروا خطوات إلى وراء، وقد أنزلوا أنفسهم من الأمم منزلة الأمة الوكعاء من الحرائر، عجزت أن تتسامى لعلاهن، أو تتحلى بحلاهن، فحصرت همها في إثارة غيرة حرة على حرة، وتسخير نفسها لضَرّة، نكاية في ضرة، وأفكر في علة هذا البلاء النازل بهم، وفي هذا التفرق المبيد لهم، فأجدها آتية من كبرائهم وملوكهم، ومن المعوقين منهم الذين أشربوا في قلوبهم الذل، فرئموا الضيم والمهانة، واستحبوا الحياة الدنيا فرضوا بسفافها، ونزل الشرف من نفوسهم بدار غريبة فلم يقيم، ونزل الهوان منها بدار إقامة فلم يَرِم ؛ وأصبحوا يتوهمون كل حركة من إسرائيل، أشباحا من عزرائيل.
وأفكّر في قومي المسلمين فأجدهم قد ورثوا من الدين قشورا بلا لباب، وألفاظا بلا معان ؛ ثم عمدوا إلى روحه فأزهقوها بالتعطيل، وإلى زواجره فأرهقوها بالتأويل، وإلى هدايته الخالصة فموّهوها بالتضليل، وإلى وحدته الجامعة فمزّقوها بالمذاهب والطرق والنحل والشيع ؛ قد نصبوا من الأموات هياكل يفتتنون بها ويقتتلون حولها، ويتعادون لأجلها ؛ وقد نسوا حاضرهم افتنانا بماضيهم، وذهلوا عن أنفسهم اعتمادا على أوليهم، ولم يحفلوا مستقبلهم لأنه – زعموا – غيب، والغيب لله، وصدق الله وكذبوا، فما كانت أعمال محمد وأصحابه إلا للمستقبل، وما غرس محمد شجرة الإسلام ليأكل هو وأصحابه من ثمارها، ولكن زرع الأولون، ليجني الآخرون.
وهم على ذلك إذ طوقتهم أوروبا بأطواق من حديد، وسامتهم العذاب الشديد، وأخرجتهم من زمرة الأحرار إلى حظيرة العبيد، وورثت بالقوة والكيد والصولة والأيد – أرضهم وديارهم، واحتجنت أموالهم وخيرات أوطانهم، وأصبحوا غرباء فيها، حظهم منها حظ الأوكس، وجزائهم منها جزاء الأبخس.
إن من يفكر في حال المسلمين، ويسترسل مع خواطره إلى الأعماق – يفضي به التفكير إلى إحدى نتيجتين: إما أن ييأس فيكفر، وإما أن يجن فيستريح!
وجاء هذا العيد. .. والهوى في مراكش يأمر وينهي، والطغيان في الجزائر بلغ المنتهى، والكيد في تونس يسلط الأخ على أخيه، وينام ملء عينيه، والأيدي العابثة في ليبيا تمزق الأوصال، وتداوي الجروح بالقروح، وفرعون في مصر يحاول المحال، ويطاول في الآجال ؛ ومشكلة فلسطين أكلة خبيثة في وجه الجزيرة العربية، تسري وتستشري ؛ والأردن قنطرة عبور، للويل والثبور، وسوريا ولبنان يتبادلان القطيعة، والحجاز مطمح وراث متعاكسين، ونهزة شركاء متشاكسين، وقد أصبحت حماية (بيته)، معلقة بحماية زيته، واليمن السعيدة شقية بأمرائها، مقتولة بسيوفها ؛ والعراق، أعيا داؤه الراق ؛ وتركيا لقمة في لهوات ضيغم، وهي تستدفع تيارا بتيار، وتستجير من الرمضاء بالنار، وفارس طريدة ليثين يتخاطران، وباكستان لم تزمع التشمير، حتى رهصت بكشمير؛ والأفغان تحاول الكمال، فيصدها الخوف من الشمال، وجاوة لم تزل تحبو، تنهض وتكبو، وتومض وتخبو.
هذه ممالك العروبة والإسلام، كثرت أسماؤها، وقل غناؤها ؛ وهذه أحوال العرب والمسلمين، الذين يقبل عليهم العيد فيقبل بعضهم على بعض، يتقارضون التهاني، ويتعللون بالأماني ؛ أفلا أعذر إذا لقيت الأعياد بوجه عابس، ولسان بكي، وقلم جاف، وقلب حزين ؟. ..
حركة الإسلام في أوربا:
ولا يكتفي الشيخ بحمل هموم الإسلام وأمته في العالم الإسلامي فقط، بل تمتد هممه إلى الأقليات الإسلامية التي تعيش في الغرب وفي غيره، فتراه يكتب عن حركة الإسلام في أوربا قائلا[10]: (الإسلام روح تجري ؛ ونفحة تسري، وحقيقة ليس بين قبولها إلا مواجهتها لها، وليس بين النفوس وبين الإذعان لها إلا إشراقها عليها من مجاليها الأولى.
لذلك نراه في جميع مراحل التاريخ يقطع الفيافي بلا دليل، ويقطع البحار بلا هاد، ويغزو مجاهل أفريقيا في الوسط والجنوب، ومنتبذات آسيا في الوسط والشرق، ثم يدخل شرق أوربا مع الفتوحات العثمانية. كما دخل غربها في الجنوب مع الفتوحات الأموية، وكما دخل جنوبها مع الفتوحات القيروانية. وهو في كل ذلك يقتحم الأذهان من غير استئذان.
وليست تلك الفتوحات الحربية هي التي غرسته أو مكنت له، لأن الفتح في الإسلام لم يكن في يوم ما إكراها على الدين. وإنما مكنت للإسلام: طبيعته ويسره ولطف مدخله على النفوس وملاءمته للفطر والأذواق والعقول. ولو بقي الإسلام على روحانيته القوية، ونورانيته المشرقة، ولو لم يفسده أهله بما أدخلوه عليه من بدع، وشانوه به من ضلال، لطبق الخافقين، ولجمع أبناءه على القوة والعزة والسيادة حتى يملكوا به الكون كله، ولكنهم أفسدوه واختلفوا فيه، وفرقوه شيعا ومذاهب، فضعف تأثيرهم به، فضعف تأثيره فيهم، فصاروا إلى ما نسمع.
لا يعود المسلم إلى العزة والسيادة حتى يغير ما به، فيرجع إلى حقائق القرآن يستلهما الرشد، ويستمد منها تشديد العزيمة، وتسديد الرأي، وإصابة الصواب، ومتانة الأخلاق، فيأخذ دينه بقوة، تهديه إلى أن يأخذ دنياه بقوة، ويقوده كل ذلك إلى أخذ السعادة بأسبابها.
ولو كان المسلم مسلما حقا لعرف نفسه، ولو عرف نفسه لعرف أخاه، ولو عرف أخاه لكان قويا به في المادة. ويوم نصل إلى هذه الدرجة نكون قد أعدنا تاريخ الإسلام من جديد. ونكون قد أضفنا إلى هذا العصر المادي العصري الفوار: عنصرا روحانيا فوارا يلطف من حدته، ويخفف من شدته، فيتكون منهما مزاج صالح، يصلح عليه الكون كله، لا المسلمون وحدهم.
إنك لترى للمسلمين وجودا في كل قطر، وتسمع عنهم نبأ في كل ناحية، ولكنهم متفرقون في زمن أصبح فيه التكتل شرطا للحياة، ومتباعدون في وقت أصبح فيه التقارب أساسا للقوة، ومتناكرون في عصر أصبح فيه التعارف أقوى وسائل التعاون. ومنصرفون عن الجامعة الإسلامية الواسعة إلى جوامع أخرى ضعيفة الآفاق، من جنسية وإقليمية، في هذا الزمن الذي يتداعى فيه أتباع الأديان القديمة، ومعتنقو النحل الحديثة – إلى التجمع حول المبادئ الروحية أو الفكرية.
وهناك في الأقاصي من شمالي أوربا طوائف من إخواننا المسلمين المنحدرين من السلائل التركية والصقلبية التي امتزجت في شبه جزيرة البلقان، ثم مدت مدها إلى النمسا وهنغاريا، ثم نزحت منها مجاميع إلى الشمال، فكان من بقاياها هذه المجموعة المتوطنة في (فنلندا).
ولا نشك أن إخواننا هؤلاء قد اصطبغوا بصبغة ذلك الوطن في حياتهم الدنيوية وطرق معايشهم، ولا نشك أنهم أخذوا فيها بنظام العصر وقوته وجده، ولكنهم في حياتهم الدينية – مستضعفون محتاجون إلى إمداد من إخوانهم المسلمين في جميع الأقطار، تقوي ضعفهم المادي، وتكمل نقصهم العلمي، وتشعرهم بالعزة والكرامة، وترفع رؤوسهم بين مواطنيهم.
ويظهر للقارئ من كلمة الأستاذ محمد فهمي عوض المنشورة في الماضي ومن الصور التي ننشرها اليوم، ومن الرسالة المفصلة التي كتبها إلينا الشيخ حبيب الرحمان شاكر إمام المسلمين في فنلندا – يظهر من ذلك كله ما هم في حاجة إليه، فليس لهم مسجد جامع يؤدون فيه الشعائر الدينية، وإنما يصلون الجمعة في قاعة سينما يكترونها لساعات، وليس عندهم من الكتب الدينية العربية شيء إلا المصاحف، وإنما يتمتعون بشيئين مهما تكن قيمتها غالية فإنهما لا تغنيان عن المفقود. وهما: العقيدة المتينة، والحرية التامة.
وجمعية العلماء تبتهج بهذه الصلة الجديدة بإخواننا مسلمي فنلندا، وتصل بهذه الكلمة وشائج القربى الدينية، وتحرك بها سواكن همم المسلمين في الشرق والغرب ليلتفتوا إلى هذه الناحية من جسمهم فيداووا علتها، ويسدوا خلتها، ويربحون بها ما يزيد في عددهم ؛ وإن هذا لأقل ما يوجبه الإسلام على المسلم) انتهى.
خاتمة
دعاء وابتهال
ونختم بحثنا هذا عن العلامة الإبراهيمي بدعاء جامع، اقتبسناه من كلام الشيخ رحمه الله، ذكره في مقدمة التقرير الأدبي. وهي خطبة أدبية رائعة من الأدب الديني صادرة عن قلب مؤمن، عبر عنها قلم بليغ [11]:
رَبَّنَا لاَ تُزِغْ قُلُوبَنَا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنَا وَهَبْ لَنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنتَ الْوَهَّابُ [آل عمران:8]
رَّبَّنَا إِنَّنَا سَمِعْنَا مُنَادِيًا يُنَادِي لِلإِيمَانِ أَنْ آمِنُواْ بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنَا فَاغْفِرْ لَنَا ذُنُوبَنَا وَكَفِّرْ عَنَّا سَيِّئَاتِنَا وَتَوَفَّنَا مَعَ الأبْرَارِ * رَبَّنَا وَآتِنَا مَا وَعَدتَّنَا عَلَى رُسُلِكَ وَلاَ تُخْزِنَا يَوْمَ الْقِيَامَةِ إِنَّكَ لاَ تُخْلِفُ الْمِيعَادَ [آل عمران:193-194].
اللهم هب لنا توفيقا ينير الطريق، وهداية تقي العثرات، وعناية تأخذ باليد إلى الحق، ويقينا يزيل اللبس في مواطن الشبهات، وتأييدا يثبت الأقدام في مواضع الزلل، وثباتا يعصم من الفرار في ميادين الصراع بين الخير والشر، وصبرا يزع عن النكوص على الأعقاب، وشجاعة تفل الحديد، وتنسخ آية هذا العصر الجديد، وبيانا يفحم الخصم في مواقف الجدل، وعفة تقهر الغرائز الجامحة، والشهوات العارمة، والمطامع المتعرضة بكل سبيل، وأفض علينا لطفا يصحب خفايا الأقدار عند حلول المصائب، وأصحبنا ولاية منك تخرجنا من الظلمات إلى النور،رَبَّنَا أَفْرِغْ عَلَيْنَا صَبْرًا وَثَبِّتْ أَقْدَامَنَا وَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:250].
اللهم جنبنا زلة الرأي، وزلزلة العقيدة، ودغل الضمير، ورين البصيرة، وخيبة الرجاء، وطيش السهام، وجنبنا الخوف من غيرك، والجحود لخيرك، والبخل عليك برزقك، والرهبة من عدوك، والضلال في معرفتك، والهجر لكتابك، والشك في وعدك، والاستخفاف بوعيدك، والدخل في الانتساب إليك، واجنبنا وقومنا أن نعبد هذه الأصنام التي أضلت كثيرا من الناس.
اللهم ارزق أمة محمد التفاتا صادقا إليك، والتفاتا محكما حول كتابك، واتباعا كاملا لنبيك، وعرفانا شاملا بأنفسهم فقد جهلوها، وتعارفا نافعا بين أجزائهم فإنهم أنكروها، وبصيرة نافذة في حقائق الحياة فقد اشتبهت عليهم سبلها الواضحة، وهب لهم من لدنك نفحة تصحح الأخوة السقيمة وتصل الرحم المجفوة، وتمكن للثقة بينهم، واتحاد يجمع الشمل الممزق ويعيد المجد الضائع، ويرهب عدوك وعدوهم، ورجوعا إلى هديك يقربهم من رضاك، ويسبب لهم رحمتك ويزحزحهم عن عذاب الخزي، فإنه لا يذل من واليت، ولا يعز من عاديت.
اللهم واحفظ هذه العصابة الذائدة عن حماك، والمعظمة لحرماتك الواقفة بالمرصاد لكل معتد عليها، الناصرة لدينك، والمدافعة – ولا منة – عن بيوتك، القائدة لرعيل الحق في سبيلك، فإنها كثيرة بك، معتزة بعزتك، قوية بتوفيقك، وإنها إن هلكت لم تعبد في هذه الأرض).
أيها الإخوان الكرام، أيها الأبناء الأعزاء !
مرحباً بالوفود غير خزايا ولا ندامى، وسلام لكم من أصحاب اليمين، وسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
الهوامش:
[1] - نشرت في العدد (5) من جريدة البصائر سنة 1947.
[2] - نشرت في العدد (53) من جريدة البصائر سنة 1948.
[3] - مجلة الأخوة الإسلامية العدد الرابع، بغداد، الجمعة 20 جمادى الأولى 1372هـ الموافق 5 فيفري 1954م، السنة الثانية.
[4] - البصائر – العدد (5) – السنة الأولى من السلسة الثانية – 5 سبتمبر 1947 م. (بدون إمضاء).
[5] - الاستياف: شم الدليل لتراب الأرض ليعرف أين موقعه عند الضلال، ومن هذا الفعل أخذت كلمة المسافة.
[6] - استشف الشيئ صيره شفافا أو وجده كذلك بعد الاختيار.
[7] - اشتف ما في الإناء إذا أتى على آخره فلم يترك منه شيئا.
[11] - البصائر: العدد172 – 173- السنة الرابعة من السلسلة الثانية – 15 أكتوبر1951 م.