نشاط جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في فرنسا 1936-1954م
بقلم: د.مولود عويمر -
اهتم المؤرخون بدراسة تاريخ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين لكن دون إلمام كبير بأعمالها خارج القطر الجزائري. فتركيز العلماء جهودهم في الداخل لم يمنعهم من الاهتمام أيضاً بالجزائريين المغتربين في فرنسا والذي كان يزداد عددهم من عام إلى آخر. وفي الالتفات إلى المهاجرين دلالة واضحة على إدراك جمعية العلماء للوزن السياسي والاجتماعي والثقافي الذي يمكن أن يمثله هؤلاء في المستقبل. وجود العلماء في فرنسا يفسره أكثر خوفهم من انسلاخ المهاجرين وذوبانهم في الثقافة الغربية التي يعيشون في وسطها. لقد شعر العلماء بضرورة توجيه المغتربين ودعوتهم إلى الحفاظ على أصالتهم وقيمهم وحثهم على ممارسة شعائرهم الدينية. فما ردود فعل الأحزاب الجزائرية ذات التوجه العلماني من نشاط العلماء؟ وما موقف السلطات الفرنسية تجاه النوادي الإصلاحية؟
نحاول في هذا المقال الإجابة عن هذه الأسئلة معتمدين بالدرجة الأولى على التقارير الأمنية والصحف الجزائرية الصادرة بين 1936 و1954م.
في فرنسا :
في يوليو 1936م وصل وفد المؤتمر الإسلامي الجزائري إلى باريس لتقديم المطالب الوطنية للجزائريين مباشرة إلى الحكومة الفرنسية بعد أن فشلت كل المحاولات السابقة مع ممثليها في الجزائر. وقد ضم هذا الوفد مجموعة من السياسيين مثل الدكتور محمد بن جلول وفرحات عباس والعربي تاهرات والعلماء عبد الحميد بن باديس ومحمد البشير الإبراهيمي والطيب العقبي والأمين العمودي.
دامت هذه الزيارة من 17 إلى 29 يوليو. واستُقبل الوفد من طرف رئيس الحكومة ليون بلوم وبعض وزرائه والنواب والأحزاب السياسية اليسارية والصحافة الفرنسية. واغتنم أنصار الإصلاحيين في فرنسا كمالك بن نبي وحمودة بن الساعي وعلي بن محمد هذه الزيارة للقاء مع العلماء. وكذلك فعل مصالي الحاج رئيس الحزب الوطني "نجم شمال إفريقيا" الذي عبر للوفد عن اعتراضاته على مشروع بلوم ـ فيوليت ومطالب المؤتمر الجزائري خاصة البند الثاني المتعلق بالاعتراف بالسيادة الفرنسية على الجزائر والبند الخاص بالتمثيل الجزائري في البرلمان الفرنسي. فهذه المطالب تتناقض مع سياسة حزب نجم شمال إفريقيا الذي يسعى للاستقلال السياسي ويعتبر الوجود الفرنسي احتلالاً استعمارياً ودخول البرلمان الفرنسي ربطاً صريحـاً للجزائر بفرنسا(2).
كيف نفسر مساهمة جمعية العلماء في المؤتمر الإسلامي الجزائري ومساندتها لمشروع بلوم فيوليت الذي منح الجنسية الفرنسية للنخبة الجزائرية وقدامى المحاربين؟
يتفق كثير من المؤرخين على اعتبار موقف جمعية العلماء تحايل سياسي ووسيلة لتحقيق مشاريعها التربوية والإصلاحية دون صدام مع السلطة الاستعمارية التي حاربت العلماء وأصدرت في عامي 1934 و1935 قرارات تعسفية لحجم نشاطهم(3).
وفي نهاية يوليو عاد ابن باديس ورفقاؤه إلى الجزائر ولم يبق من العلماء إلا الشيخ الأمين العمودي الذي مثل جمعيته في التجمع الجماهيري الذي أقيم في 30 يوليو في قاعة متيالتي. وقد شعر ابن باديس خلال زيارته لفرنسا بضرورة الاهتمام بالجزائريين المقيمين في فرنسا وأدرك مدى حاجتهم إلى تعلم دينهم. وتبلورت في ذهنه فكرة إرسال أحد تلاميذه المخلصين إلى فرنسا، فكلف الفضيل الورتلاني(4) بهذه المهمة.
نشاط النوادي الإصلاحية :
أسس الفضيل الورتلاني بمساعدة سعيد صالحي عشرات النوادي التهذيبية في باريس وضواحيها. في رسالة إلى صديقه الشيخ باعزيز عمر، تحدث الورتلاني عن التوزيع الجغرافي لهذه النوادي في العاصمة الفرنسية على هذا الشكل: كليشي، سان لويس، ميلي مونطان، بلون، بيير لشيز وبلاس دي طالي. ويقع مركزها الرئيس في حي بيسون في المقاطعة العشرين لباريس.
في يناير 1938 قام الفضيل الورتلاني بجولة عبر الجزائر، التقى المشرفين على جمعية العلماء وشرح لهم مدى حاجة النوادي إلى المدرسين خاصة بعد امتداد نشاطها إلى المدن الفرنسية الكبرى، فوافقت الجمعية على إرسال محمد صالح بن عتيق، ومحمد الزاهي، وسعيد البيباني، والهادي السنوسي إلى باريس، وحمزة بوكوشة إلى ليون، وفرحات الدراجي إلى مرسيليا ومحمد واعلي إلى سان تتيان(5).
صراع النوادي الإصلاحية وحزب نجم شمال إفريقيا :
تأسست حركة نجم شمال إفريقيا في باريس في عام 1926م للدفاع عن حقوق العمال المغاربة. ولكن سرعان ما تحولت إلى حزب سياسي بريادة مصالي الحاج الذي طالب باستقلال الجزائر. ركز الحزب نشاطه في فرنسا ولم يتأصل في الجزائر إلا بعد عام 1936م.
رحب الحزب بالعلماء واستدعى زعماؤه خاصة راجف بلقاسم وسي جيلاني الشيخ الفضيل الورتلاني لإلقاء الدروس والمحاضرات في خلايا الحزب وفي المقاهي المعروفة بميولها الوطنية وخطب في كثير من تجمعاتها الجماهيرية. وساهم سي جيلاني في تأسيس النوادي والإشراف عليها.
أحس بعض زعماء الحزب وخاصة مصالي الحاج بخطورة نشاط النوادي وتحولها إلى مراكز سياسية منافسة خاصة بعد حل حزب نجم شمال إفريقيا في يناير 1937م، فتسرب بعض زعماء النجم إلى مراكز القيادة في النوادي مثل آيت علي، وعكنون سعيد، وبلغول رابح، وبوشافة صالح. واضطر حزب الشعب الجزائري الذي أسسه مصالي في مارس من العام نفسه للاهتمام بالمسألة الدينية ومنافسة نوادي التهذيب فقرر إنشاء "مجمع روحي لترسيخ القناعات الدينية للمغاربة المقيمين في فرنسا".
وقد استمر الصراع بين هذه الأطراف إلى أن زار الأمير شكيب أرسلان باريس فتوسط للإصلاح بين الفضيل الورتلاني ومصالي الحاج. وكان من علامات هذا الصلح، اشتراك كل من الزعيمين مع شكيب أرسلان في الحفل الذي أقامه نادي طلبة شمال إفريقيا بمناسبة عيد الأضحى، ولكن التنافس على تأطير الجالية الجزائرية ظل قائماً بين النوادي والحزب المصالي حتى نهاية عام 1938م أي بعد هجرة الورتلاني إلى مصر.
لابد أن نشير هنا إلى بعض الاختلافات الجوهرية بين الحركتين. فحزب نجم شمال إفريقية أو حزب الشعب الجزائري فيما بعد كان علماني التوجه كباقي الأحزاب القومية العربية الحديثة لا يرى في الدين إلا محركاً وحافزاً لتعبئة الجماهير وليس مشروعاً يصلح لتسيير شؤون الدولة المنشودة. وفي اتجاه معاكس، ركزت نوادي التهذيب على الجانب الأخلاقي والمحافظة على الممارسات الدينية التي بدونها يفقد المسلم شخصيته ويكون بالتالي شبيهاً بالأوروبي الذي يزعم أنه مختلف عنه ويسعى للتحرر من سيطرته.
والنقطة الثانية التي قد تكون ربما هي أساس الصراع تتمثل في إلحاح الحزب الوطني الجزائري على الاستقلال الكامل عن الدولة الفرنسية في الوقت الذي ركز العلماء الجزائريون على التربية والتكوين كمرحلة ضرورية قبل المطالبة بالاستقلال السياسي. ففي تجمع كبير نظمه نادي التهذيب في باريس في 31 يوليو 1936م، صرح الفضيل الورتلاني: "قبل الحديث عن الاستقلال السياسي، لا بد أن نبدأ بالاستقلال الأخلاقي والعقائدي، وذلك بالسماح للجزائريين بتعلم دينهم بكل حرية".
فخلاصة القول إن العلماء يعتبرون المناضلين السياسيين متسرعين ومتهورين في حين يتهم هؤلاء الإصلاحيين بالتثبيط واحتكار الدين وابتزاز أموال العمال الجزائريين وصرفها في نشاطات تافهة.
تضرر أصحاب النفوذ الاقتصادي من ممارسة المغتربين للتعاليم الدينية التي تحرم عليهم الخمور والقمار فقدم أصحاب المقاهي العربية شكاوى إلى الإدارة الفرنسية لمنع النوادي من بيع المشروبات والحلويات الشرقية لتقليص مواردها المالية واتفقوا مع مناضلي حزب نجم شمال إفريقيا على محاربة الورتلاني وأنصاره.
السلطة الاستعمارية في مواجهة نوادي التهذيب :
كانت السلطة الاستعمارية تراقب من بعيد نشاط العلماء لكن سرعان ما شعرت بخطرهم الذي يهدد مصالحها في عقر دارها خاصة بعد حديث الصحافة الفرنسية عن النوادي ونشاطاتها المختلفة وتأثيرها المتزايد على المهاجرين الجزائريين. بدأت السلطة الاستعمارية تضع لها العراقيل وتستغل الخلافات الفكرية بين الإصلاحيين والسياسيين الجزائريين لضرب الحركة الوطنية الجزائرية. ففي ديسمبر 1937م أصدر محافظ باريس قراراً يمنع العلماء الجزائريين من إحياء ذكرى المولد النبوي المقرر في غابة فانسان الشهيرة(6). فقام أنصار الحركة الإصلاحية بمظاهرة كبيرة تضم أكثر من 1000 مشارك تنديداً بهذا القرار التعسفي. وفي 9 أبريل 1938م نظمت نوادي التهذيب الباريسية اجتماعاً عاماً في حي بيسون للتعبير عن استيائها من السياسة الاستعمارية المتغطرسة التي تنتهجها فرنسا مع الجزائريين خاصة بعد إصدار وزير الداخلية شوطون قانون 20 يناير 1938م القاضي بعدم السماح ببيع المشروبات العادية في النوادي، وقانون 8 مارس 1938م الذي يعتبر اللغة العربية لغة أجنبية في الجزائر ويمنع تأسيس المدارس الحرة بدون رخصة (7).
دفعت مؤامرات السلطة الاستعمارية ومضايقات الحزب الجزائري (نجم شمال إفريقيا) وتهديدات أصحاب النفوذ الاقتصادي الشيخ الفضيل الورتلاني إلى مغادرة فرنسا في نهاية عام 1938 والهجرة إلى مصر.
نشاط جمعية العلماء في فرنسا 1939 ـ 1954م: لم يتوقف نشاط النوادي برحيل الورتلاني، فواصل العلماء نشاطهم بريادة الشيخ سعيد صالحي إلى أن احتل الجيش الألماني فرنسا في 1940م وصار من الصعب القيام بأي نشاط سياسي واجتماعي خلال فترة الحرب العالمية الثانية.
عاد أغلب العلماء إلى الجزائر وسافر بعضهم إلى المشرق العربي. وفي بداية الخمسينيات كلفت جمعية العلماء ربيع بوشامة وسعيد البيباني بإعادة تنشيط النوادي الإصلاحية. وفي ديسمبر 1952م تأسس رسمياً نادي التهذيب في باريس وعين على رأسه ربيع بوشامة(8).
13 نهج أغسطس بولان : وفي بداية 1954م تحول المقر الرئيس للنوادي إلى "13 نهج أغسطس بولان" الواقع في مدينة سان دونيس في ضواحي باريس. وفي العام نفسه تأسست نوادٍ أخر في المدن الفرنسية التي يوجد فيها بكثرة المهاجرون العرب ( فيتري، ليل، روبي، مرسيليا، موتيرو، بليجارد،...) وأصبح الشيخ سعيد البيباني مشرفاً عاماً على النوادي الإصلاحية وممثلاً رسمياً لجمعية العلماء المسلمين في فرنسا(9).
كانت النوادي تقوم بتدريس العربية وتنظيم المحاضرات والإشراف على زواج المسلمين واستقبال الفرنسيين الذين اعتنقوا الإسلام وإحياء المواسم الدينية وتمثيل المسلمين في النشاطات الاجتماعية الفرنسية والمراسم العامة(10)، ولا تكتفي بهذه الأعمال فتقدم أيضاً الخدمات للمهاجرين ومساعدة بعض اللاجئين السياسيين مثل الزعيم السياسي التونسي صالح بن يوسف الذي أقام سراً عند العلماء قبل أن يساعدوه على الهرب إلى المشرق العربي(11).
توفي كثير من رواد الحركة الإصلاحية في فرنسا خلال ثورة التحرير مثل الفضيل الورتلاني ومحمد الزاهي وربيع بوشامة. ومات الشيخ فرحات الدراجي في مايو 1951م إثر مرض عضال. وبعد الاستقلال اشتغل الشيخ سعيد صالحي والشيخ حمزة بوكوشة والشيخ محمد الصالح بن عتيق وباقي العلماء بالتربية والتعليم وصار أغلبهم أعضاء في المجلس الإسلامي الأعلى.
الخلاصة :
لم تقتصر جمعية العلماء في مشروعها الإصلاحي على الجزائر فقط بل اهتمت بالجالية الجزائرية المقيمة في فرنسا نظراً لتزايد عدد المهاجرين وقلة أماكن التوجيه والتعليم في ديار الغربة. لكن اهتمامات الإصلاحيين بالجانب السياسي خاصة في الفترة التي أشرف فيها الورتلاني على النوادي أثارت غضب السلطات الاستعمارية والحزب الوطني نجم شمال إفريقيا. فإذا كانت الأولى رأت في نشاط النوادي خطراً على سياستها ومصالحها في الجزائر، فإن زعماء الحزب قد رأوا في أعمال النوادي منافساً سياسياً قوياً لهم.
استطاع العلماء من خلال نشاطهم في فرنسا إيصال الأفكار الإصلاحية إلى المهاجرين الجزائريين وتوجيههم توجيهاً دينياً وقومياً وتعريف النخبة العربية المقيمة في فرنسا بكفاح الشعب الجزائري من أجل التحرر من سلطة الاحتلال وبتاريخ الجزائر الذي كان مجهولاً في المشرق العربي بسبب سياسة المراقبة والتعتيم والتشويه التي روجتها فرنسا في العالم العربي. والسؤال الذي يتبادر إلى الذهن في ختام هذا المقال: هل استفادت الجمعيات الإسلامية القائمة في أوروبا من هذا الرصيد الدعوي وهذه التجربة الأولى في التعامل مع الأنظمة ومراكز القوى الغربية القائمة على عزل الدين عن حياة الناس؟
الهوامش:
(1) تأسس المؤتمر الإسلامي الجزائري في يونيو 1936م في الجزائر. وضم معظم الحركات السياسية والجمعيات الدينية الجزائرية باستثناء حزب نجم شمال إفريقيا.
(2) Ahmed Messali Hadj, Mmoires. 1898 - 1938. Paris, Editions Jean - Claude Letts, 1982, p. 219 - 220.
(3) عن الصراع بين جمعية العلماء الجزائريين والسلطة الفرنسية، انظر د. تركي رابح. الصراع بين جمعية العلماء وحكومة الاحتلال. مجلة التاريخ، الجزائر، العدد 11، السداسي الثاني 1981، ص58 ـ 74.
(4) عن حياة الفضيل الورتلاني، انظر د.مولود عويمر. المصلح الجزائري الفضيل الورتلاني. المجتمع، الكويت، العدد 1410، 25 يوليو 2000، ص 44 ـ 46.
(5) La Dfense, 2 fvrier 1938, 6 avril 1938, 18 mai 1938.
(6) LEntent, 9 dcember 1937
(7) La Dfense, 20 avril 1938
(8) Le Jeune Musulman, n 17, 13 mars 1953.
(9) Le Jeune Musulman, n 29, 26 mars 1954.
(10) Le Jeune Musulman, n 28, 12 mars 1954, n 34, 18 juin 1954.
(11) أحمد حماني. صراع بين السنة والبدعة. قسنطينة، دار البعث، 1984، ج 2، ص 273.