منهج ابن باديس في المناظرة والحوار
هذا الذي نحي ذكراه هو العلامة الإمام عبد الحميد بن مصطفى بن المكي بن محمد كحول بن الحاج علي النوري بن محمد بن عبد الرحمن بن بركات بن عبد الرحمن بن باديس، ذاك الذي خرج من الدنيا بوسام الصدق في العمل الصالح والإخلاص للواجب والوطن ، والنزاهة في النية والسلوك وخفة ذات اليد من أوضار الدنيا .
أعتقد أنه ليس من الداعي التذكير بحياة رائد النهضة الإصلاحية الجزائرية ، فالإمام عبد الحميد طيب الله ثراه (1889-1940) حياته الحقيقية هي مآثره التي تحدث بعظمتها حدود الزمان ودائرة المكان وألهمت بجليل أعمالها الصالحة طلائع الأجيال ،وسوف تعمر ما عمرت الآجال.
إن الإمام ابن باديس خالد بخلود روحه المجاهدة والجاهرة بالصدق والإخلاص ، والتي أبت إلا أن تعيش وتسكن في حنايا هذا الوطن المضمخ بالجهاد والاجتهاد .هذا الوطن الذي يقال له بأبسط تعبير أرض الحزائر العربية المسلمة والتي حق قول ابن باديس عليها حين اضطر إلى المرافعة عن هويتها أمام المشككين والإندماجيين ليدري بصرخته المشهورة القائلة بصيغة الجزم:" إن هذه الأمة الجزائرية الإسلامية ليست هي فرنسا ، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تريد أن تصير فرنسا ، ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت . بل هي أمة بعيدة كل البعد عن فرنسا في لغتها وفي أخلاقها وفي عنصرها وفي دينها ، لا تريد أن تندمج ولها وطن محدود معين هو الوطن الجزائري بحدوده الحالية المعروفة..."(1)
هذا الإصرار كان في غرة أفريل من عام 1936 .. فالمعدن الجزائري -كما يؤكد الإمام - ذهبي لا ينقطع وإن دق ، لأنه كان يعي ويدرك "إنما ينسب للوطن أفراده الذين ربطتهم ذكريات الماضي، ومصالح الحاضر وآمال المستقبل فالذين يعمرون هذا القطر وتربطهم هذه الروابط هم الجزائريون والنسبة للوطن توجب علم تاريخه والقيام بواجبه من نهضة علمية واقتصادية وعمرانية ، والمحافظة على شرف اسمه وسمعة بنيه، فلا شرف لمن لا يحافظ على شرف وطنه، ولا سمعة لمن لا سمعة لقومه"(2) تلك هي حدود المواطنة وقدسيتها في عرف ابن باديس ومن سار على نهجه؛ لأنه كان يدرك أن الوطن في آخر المطاف هو تاريخ الوطن كما يقول الأستاذ عبد الرحمان صدقي. فكانت نبوءة ابن باديس حقا وحدسه الوقاد مصيب وخسئ كل أولئك الذين راهنوا على التخرص وآيات المنجمين الملفقة وابن باديس يقول :"من عرف تاريخه جدير بأن يتخذ لنفسه منزلة لائقة به" .
أثر القرآن في منهج ابن باديس:
إن ابن باديس الذي ينحدر أصلا وفصلا من هذه الأرض سنقف معه اليوم بهذه المناسبة التذكارية كرجل محاور خدم أسلوب المناظرة النزيهة والنظيفة بكل ما أوتي من حكمة وعلم تلقاه من فيض القرآن الكريم كنبراس ومن سيرة النبي -صلى الله عليه وسلم- كمبشر ونذير وداع إلى منهج ربه بالحكمة والموعظة الحسنة .فابن باديس الذي أدرك مبكرا أن الإسلام دين العلم والمدنية والرقي المادي والأدبي والتهذيب النفسي والعقلي -بريئ من كل عيب - شهد له بذلك عقلاء الأجانب بل أبناءه المؤمنون"(3)
ومادام هذا الدين دين علم فابن باديس منذ رسمه لخطواته الإصلاحية الأولى راح مصرا بقوله الصريح القائل: "كما تحتاج الأبدان إلى غذاء من المطعوم والمشروب، كذلك تحتاج العقول إلى غذاء من الأدب والرقي والعلم الصحيح، ولا يستقيم سلوك أمة وتنقطع الرذيلة من طبقاتها وتنتشر الفضيلة بينهم الا إذا تغذت عقول أبنائها بذلك الغذاء النفيس "(4) الذي هو العلم قوام المدنية والسلوك الحضاري ، وإذا كان ابن باديس وهو الحريص على رسم خطته الإصلاحية التي قوامها التعاون والتراحم والإحسان فيما بين أبناء الأمة الواحدة ، ومع غيرها من الأمم فإنه يرى في هذا الشعار الإنساني ملهما للكائن البشري ومحرضا إياه على التسامي والقدرة على بذل الجهد والتضحية كمسلك يضمن نمو غريزة الرغبة في الحياة ...فإذا كان بقية أفراد الأمة على هذا السبيل الذي قوامه العلم والتسامح وربط العلائق بالمودة السليمة فإنها تلتقي في النهاية مع أهداف المسلم الحقيقي الذي يراه ابن باديس "حبيبا للإنسانية مأمورا بأن يعطف على أبنائها من أي ملّة كانوا ، وإلى أي وطن انتسبوا والقرآن يذكر بالعودة الإنسانية في كثير من آياته :"خلقكم من نفس واحدة "، "والأرحام" ومن قتل نفسا ظلما فكأنما قتل جميع الناس ومن أحياها فكذلك ، ولا ينهاه دينه عن الذين لم يقاتلوه في الدين ولم يخرجوه من دياره "أن يبرهم ويقسط إليهم "هذه هي التعاليم التي سار عليها أكثر المسلمين مع الأوروبيين"(5) عبر تاريخهم الطويل المليء بمثل هذه الصفحات .... وكيف لا والإسلام كما يراه ابن باديس أن من خصوصياته الجوهرية "أنه يبدل العقول من الجمود إلى النظر والأفكار من الأوهام إلى الحقائق، والأخلاق من الهمجية إلى الكمال، والأمم من الانحطاط إلى المدنية والرقي"(6) ومن يمسك بتعاليم هذا الدين فقد أوتي خيرا كثيرا.. لذا كان منهج ابن باديس في حياته هو القرآن -هذا القرآن الذي كما يذكر ابن باديس مرارا وتكرارا في ثنايا مواعظه وإرشاداته على مدار حياته أنه قد أقر بقدسيته وفعاليته المؤمن وغير المؤمن ، الجاهل والعالم .. فيرصد ابن باديس أثناء مناظرته مع "أشيل" العديد من آراء أعلام الغرب الذين يقرون بانسانية الإسلام فهذا كاريل يقول: "إن القرآن كتاب لا ريب فيه ،وإن الإحساسات الصادقة الشريفة والنوايا الكريمة تظهر لي فضل القرآن، لا بل هو الكتاب الذي يقال عنه في الختام - وبه فليتنافس المتنافسون -لكثرة ما فيه من الفضائل العديدة "(7) ولا يتوقف ابن باديس عن هذا الرأي بل يرصد بعض آراء المنصفين من علماء الغرب أمثال الأمريكي واشنطن إرفينغ الذي يقول: "القرآن فيه قوانين زكية"(8) أما المستشرق جيبون فإنه يرى في الشريعة الإسلامية أنها تشمل الناس جميعا من أعظم ملك إلى أقل صعلوك فهي شريعة حيكت بأحكام منوال شرعي لا يوجد منه قط في العالمين"(9) ولا ينسى ابن باديس وهو في غمرة الرد على الحاكم العام الفرنسي المتعصب أشيل أن يذكر برأي العالم البارز قوستان لوبون القائل :"إن العرب هم سبب انتشار المدنية ببلاد أوروبا"(10) وكل ذلك بفضل تعاليم الإسلام السمحاء التي قوامها الدعوة إلى الحق بالتي هي أحسن والإقناع بالحكمة والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أقوم لأن القرآن كما يقول ابن باديس : "جاء-من بين كتب الملل- لجميع الخلق ، يخاطب العقل ويدعو إلى الفطرة ، ويقارع بالحجة ويدعو إلى التفكير يحارب الجمود ويحث على الاستدلال يقر الحرية بأنواعها والأخوة بطبقاتها والمساواة بأتم وجوهها بين جميع الناس أمام الله والحق والعدالة"(11).
مثل هذه الخصوصيات هي من مقومات البناء الحضاري كما يقر بذلك الأستاذ فلندر ربترى المؤرخ المشهور الذي يستشهد بآرائه ابن باديس .
هذه المنطلقات القرآنية هي القناعات التي درج عليها ابن باديس في سبيل رسم منهجه إن لم نقل برنامجه، من أجل استعادة مقومات الشعب الجزائري التي سلبها منه المستعمر الفرنسي وساعد على تحقيق غايته بعض من ذوي النفوس المريضة التي سارعت لتقديم دعم معلوم للمستعمر، وذهب بها الإغراء والغواية إلى بلوغ درجة من التشكيك في مقومات الأمة الجزائرية التي راح أحد أدعياء هذا المد الإندماجي إلى الإقرار "بأنه فتش عن القومية الجزائرية في بطون التاريخ فلم يجد لها من أثر ، وفتش عنها في الحالة الحاضرة فلم يعثر على خبر .وأخيرا أشرقت عليه أنوار التجلي فإذا به يصيح: فرنسا هي أنا! حقا إن كلّ شيء في هذا العالم يرتقي ويتطور حتى التصوف فبـالأمس كان يقول أحد كبار المتصوفين:
فتشت عليك يـــا الله وجدت روحي أنــــا اللـه
واليوم يقول المتصوف في السياسة ،ويقصد فرحات عباس :
فتشت عليك يــا فرنسا وجدت روحي أنا فرنــسا
فمن ذا الذي يستطيع بعد اليوم أن ينكر قدرة الجزائري العصري على التطور والاختراع؟" (12) هكذا كان رد ابن باديس على أحد المنادين بالجزائر فرنسية، لكنه كرجل مصلح واع لما يهدف إليه ومدرك لقيمة المنهج الذي ينطلق منه جعله لا يتردد في تحديد معالم إنسانيته المنحدرة من مشارب هذا المنهج الرباني فيقول: "أنا كمسلم أدين بالأخوة الإنسانية واحترامها في جميع أجناسها وأديانها وأسعى للتقريب بين جميع عناصرها : وأجاهد فيما هو السبيل الوحيد لتحصيل ذلك ، وهو العدل والتناصف والاحترام" (13)
وبالتالي كثيرا ما نجد ابن باديس يستعدي فرنسا الحضارة، والقيم على فرنسا الاستعمار والظلم لأنه أدرك منذ بداية دخوله في المجابهة مع فرنسا المظالم أنه لابد عليه من تحديد الفوارق بين فرنسا الحضارة والقيم، وفرنسا العنصرية والتعصب والاستعمار ، فلما أحس بخطر هذه الأخيرة على مشروعه الصحفي مثلا لم يتردد في استدعاء فرنسا المثل والمبادئ قائلا: " ....قد تأسست هذه الصحيفة على أن تخدم الأمة الجزائرية بمساعدة فرنسا الديمقراطية فكانت في جميع مواقفها ترمي بنفسها في سبيل الأمة حيث تعطب وحيث تسلم ، وكانت في جميع مواقفها متشبثة بالجمهورية الفرنسية مستصرخة عدلها وإنسانيتها ، مستغيثة بها على كل من يخرج عن الحرية والأخوة والمساواة "(14) شعار ثلاثي الأبعاد يرمز إلى أكثر من مدول بالنسبة لفرنسا الحضارة وكأني بابن باديس يهيب بفرنسا أن لا تدنس مثل هذا الشعار، ويروح موضحا أكثر الوجه الآخر ؛ الذي هو فرنسا الاستعمارية أو كل ما يعمل تحت هذا الاسم بعلم من فرنسا أو في غياب فرنسا ذات الشعار الثلاثي الأبعاد الخالد، ومن هنا يروح ابن باديس مستصرخا "لأننا سنثابر على مبدئنا آملين أن نكون من أقوى العاملين على الإتحاد الأخوي الفرنسي الجزائري المبني على أساس الجمهورية وكلماتها الثلاث الخالدات.وإننا نعلم أننا نجد من الحكومة على ذلك استحسانا وتأييدا وأننا لا نجد من الجزائريين عليه إلا معينا ونصيرا وإذا وجدنا معرقلات في ذلك فإنها لا تكون إلا من حزب الاستعمار بشره وإثرته وأنانيته. ومن كثير ممن بيدهم السلطة خارج المدن الذين ينفذون باسم فرنسا ما ليس من مبادئها فيتركون سيئا في القلوب ونحن في سبيل الاتحاد الأخوي المنشود سنكون لجميع هؤلاء من ألدّ الخصوم" (15)
هكذا يستل ابن باديس بذكاء خارق ، فرنسا الحضارة والإنسانية والديمقراطية وحقوق الإنسان من فرنسا الإستعمارية المتعصبة والبغيضة وبالتالي نجده يحاول كمن يستنجد من الرمضاء بالنار ، ولكنه لا يمل من بذل قصارى الجهد في سبيل التمكين لمشروعه الحضاري الكبير الذي يشترك في تعداد عناصر شعاره الأساسية مع شعار فرنسا الثلاثي ، فابن باديس يكمن سر جهاده في ثلاثة مقومات هي "الإسلام ديننا والعربية لغتنا والجزائر وطننا" فهذا الثلاثي المستميت نراه في مواجهة الثلاثي المكين ،وابن باديس كرجل قرآني المزاج لا يأل جهدا من لعب دور المجادل بالقول اللين في حضرة فرعون الطاغية.وبالتالي يخلص ابن باديس إلى استعداء فرنسا الحضارة على فرنسا الاستعمارية مجابها فرنسا بحجة فرنسا إيمانا منه أو إخراجا سياسيا يحتم عليه أن يقول ليذكر:"إننا نعرف جميل فرنسا، ولا تجهل فرنسا الديمقراطية جميلنا أيضا"(16)
بمثل هذا المنهج راح ابن باديس يقيم الحجة على فرنسا الاستعمار ويستعتدي عليها فرنسا الحضارة التي لم يفقد الأمل طوال حياته في المراهنة على إيقاظ الضمير الإنساني فيها إذا كانت حقا تقيم لشعارها الثلاثي الاحترام والتقدير، فلا يدخر جهدا من حين لآخر ، في مخاطبة هذا الضمير قائلا :"نحن نهيب بفرنسا -التي لا نرى من مصلحة الجزائر في الوقت الحاضر (1938)-قطعا أن تتراخى في علاقاتها بها .أن تحترم الأمة الجزائرية في إسلامها وعربيتها ونيلها حقوقها"(17) لذا نجد ابن باديس في مناظراته الكثيرة مع حكام المستعمرة أو مع نواب الأمة ، أو مع المثقفين كان دائما الحرص على عدم التعميم في إصدار الأحكام وخاصة إذا تعلق الأمر بفرنسا ورجالاتها فنجده على سبيل المثال في مناظرته الشهيرة مع أشيل ، أو بالأحرى في رده العلمي الشافي عليه، وبعد أن يقيم عليه الحجة بشتى وسائل آليات الحوار والمناظرة يخلص ليخاطب الضمائر الحية من الفرنسيين أولا، والإنسانين عموما محددا "أنا لا أحكم على كل فرد من الغربيين المسيحيين بهذا التعصب الذميم ولكنني أقول : هو مظهر بارز في تاريخ القوم"(18) إن مثل هذا النفي الذي يفيد الإثبات في ذات الوقت ، هو أحد سمات منهج ابن باديس البارزة والذي يعود دون شك إلى أثر القرآن في فكر ابن باديس ،لأننا نجده بعد إقامته للحجة العلمية على أشيل وأمثاله من المتحاملين على الحضارة العربية الإسلامية يخلص إلى القول ليؤكد نهجه الذاتي القرآني والبعيد عن الروح الصدامية والإثارة والاستفزاز والمحمول بالمرونة والكياسة مع تمرير الخطاب المراد توصيله إلى المقصود فيقول: " نحن اليوم في حاجة إلى الكتابات التي تقرب بين العنصرين المتساكنين في الجزائر الذين تتوقف سعادتهما على تحابهما وتعاونهما ،ولا شك أن مقال م.أشيل صور المسلمين بصورة تبغض فيهم العامة من جيرانهم الفرنسيين ، فلذا رأيت من الواجب أن أبطله وأزيفه حتى لا يغتر به أحد ولما قمت بهذا الواجب بقي علي أن أنبه إخواني الجزائريين إلى أن أفكار هذا الرجل ليست إلا أفكار فئة قليلة من أمثاله ، لا كلمة لها في سياسة أمته غير راضين على قوله ولا مصدقين له .فلنسر كعادتنا التي يفرضها علينا ديننا مع جيراننا ؛ التعاون والتراحم والإحسان"(19) وبهذا المنهج الذي يمثل أسلوب ابن باديس في الحوار والمناظرة يتمكن من إسقاط حجة خصوم الجزائر ،وفي المقابل يجعل من تصدياته مواقف يقتضيها الواجب والمصلحة العامة وبالتالي يستهدف ضمير فرنسا الحي مقدما لها التضحية كي تنبذ مثل هذه التصورات الحاقدة التي لا تزيد سوى من توسيع رقعة الخلاف بين الجارين المتساكنين على أرض الجزائر ومن هنا نخلص إلى القول بأن منهج ابن باديس كان قوامه العقل والخلق القرآني ولم يكن مبالغا لما قال في مقالته الشهيرة "سياسة وخز الدبابيس" مبرئا ساحة جمعية العلماء وصحفها من مثل هذه الإشارة قائلا: "إن جمعية العلماء صحفها منشورة ،وأقوالها مأثورة ، وأعمالها مشهورة ، فليأتي هؤلاء الأفاكون بكلمة أو قول أو فعل يمكن اتهام به الجمعية أو أفراد الجمعية أو القائمين بأمر الجمعية بأنهم يعمدون إلى التهييج - أو يعينون على التهييج - هذا إن فرضنا جدلا أن الهيجان موجود"(20) فمثل هذه الالتفاتات التي نلحظها عادة في خلاصات أقواله تمكن لحجته من إصابة الهدف الأسمى والذي هو إحراج فرنسا وإجبارها على الاعتراف بتجاوزاتها في حق الجزائر والجزائريين.
آليات المناظرة والحوار كما يراها ابن باديس:
إن ابن باديس المتشبع بالروح الإسلامية السمحة التي قوامها الكلام الطيب والموعظة الحسنة والجدال بالتي هي أحسن كان يعي جيدا جسامة مسؤولية الحوار والمناظرة وخاصة في غياب وانعدام تكافؤ الفرص حيث يصبح سلاحا ذو حدين قد يتسبب في تفشي البغضاء وتأجيج الشحناء ويبعد ما بين المتحاورين ويكون سبيلا لاستدعاء النفوس المريضة لتشفي غرائزها الحاقدة من النفوس البريئة التي تنشد السلام والتعايش الكريم واستعادة الحقوق المسلوبة كما هو الشأن بالنسبة للجزائريين وبالتالي فجلٌ مناظرات وحوارات ابن باديس - وما أكثرها- مع بني قومه أو مع أعداء الجزائر، كانت كلها تتسم بالاحتراز والحيطة اتقاء لما قد ينجم عنها من عواقب قد تمس بكبرياء وعنجهية فرنسا وتكون مدعاة تفسح أمامها المجال لمزيد من الاضطهاد للجزائريين وغلق منافذ الأمل أمام محاولة إحياء ما أراد الاستعمار الفرنسي طمسه كما هو الشأن بالنسبة لبرنامج جمعية العلماء المسلمين الذي قوامه تهذيب النفوس الضالة وإحياء ما اندثر من مقومات الهوية لدى الشعب الجزائري. كان ابن باديس أمام هذه الإشكاليات حاد الذكاء وبعيد النظر في رسم ما يلزم من آليات للمناظرة والحوار ،إذا استدعت الضرورة لذلك وما أكثرها من مناسبات اعترضت سبيل حياته، وسبيل مشاريع جمعيته فكان عليه أن يكون لها بالمرصاد حتى يحقق للشعب الجزائري ما اغتصب منه قهرا وجهرا ...ولعله كان دقيقا في تحديده لأولى هذه الآليات التي توفر شروط نجاح الحوار والمناظرة والتي ربما استهلها ساعة تصديه لهجمات المستعمر الحاقد على الإسلام والمسلمين.أشيل روبير الذي سمح له موقعه أن يتمادى في تجريح الآخر بدون أدنى اعتبار أخلاقي أو علمي مما جعل ابن باديس يقول :"إن الكلام فيها في مثل هذه الظروف ثقيل على النفوس ،محرج للصدور ،وربما وجد أحدنا من حرية القول والنشر ما لم يجده الآخر .وشرط المناظرة استواء المتناظرين في إمتلاك ساحات الميدان للجولان"(21)
هكذا حدد ابن باديس أولى شروط آليات المناظرة إذ ركز على ضرورة وجوب التكافؤ ولعله وهو يتصدى لأشيل وأمثاله قد أحس بالحرج من فرنسا المهيمنة وبالتالي شعر بعدم استواء شروط المناظرة فميدان الجولان لصالح الخصم المدعوم بالقوة والعتاد رغم تماديه وتجاوزه في هجومه الذي لم يشمل الجزائر فحسب بل طال الأمة الاسلامية وتاريخها كأن يقول بلغة الافتراء والتعصب والقدح المشين ونكران الإحسان "أن المسلمين الشرقيين لهم تهيب وعداوة وحقد ضد الأمم الغربية المسيحية ، فهم لشرقيتهم عدو مخطر لكل غربي ،ولإسلاميتهم عدو مخطر لكل مسيحي"(22).من هنا نجد ابن باديس يشعر بالحرج من عدم توفر آلية التكافؤ الضرورية لنجاح الحوار والمناظرة. فشتان من يقف على أرض صلبة ووراءه يقف المدد الصليبي الحاقد، والمدد المؤازر من أمثال من خولت لهم معاني الاستيلاب أن يحطبوا في حبال أعدائهم ضد مصالح أمتهم، وبين رجل كابن باديس ليس له من المدد سوى إيمانه بقضية شعبه العادلة ومن هنا لم يتمكن أن يكيل لهذا الحاقد الصليبي الصاع صاعين ويلقنه درسا في الحضارة والأخلاق لهذا أكد ابن باديس على ضرورة توفر تكافؤ حظوظ المتناظرين من حيث حرية الرأي والنشر والحماية من العواقب.
والمناظرة بالنسبة لابن باديس تبقى مظهرا حضاريا متقدما لا ينكر أهميتها إلا جاحد أو بليد، أما أولئك الذين يقفون على أرض صلبة ومعدنهم كما يقول ابن باديس "على أن معدن الجزائري معدن ذهبي لا ينقطع وإن دق"(23) فإنهم لا يخشون صولة المجابهة ومقارعة الرأي بالرأي وبخاصة إذا كانوا من أولئك الذين يسندهم جدار حضاري سميك كما هو الشأن بالنسبة للحضارة العربية الإسلامية التي ضربت أروع الأمثال في الحوار مع الحضارات والتسامح مع الملل والنحل ، فها هو ابن باديس في رده على م.أشيل يذكره ببعض تلك الصفحات الخالدة التي يقر بها أحد الدارسين الغربيين الذي هو المؤرخ دوري الذي يقول: "بينما أهل أروبا تائهون في دجى الجهالة لا يرون الضوء إلا من سمٌ الخياط ، إذ سطع نور قوي من جانب الملة الإسلامية من علوم وأدب وفلسفة وصناعات وأعمال يد وغير ذلك ،حيث كانت بغداد والبصرة وسمرقند ودمشق والقيروان ومصر وغرناطة وقرطبة مراكز عظيمة لدائرة المعارف ومنها انتشرت في الأمم،واغتنم منها أهل أوروبا في القرون المتوسطة مكتشفات وصناعات وفنونا عظيمة"ثم يعلق ابن باديس قائلا: "لسنا ممن يفتخر بالعظم الرميم أو بالتوكل على المجد القديم وإنما ذكرنا هذا إحقاقا للحق وإثباتا لمجد العرب بفضل انتشار الإسلام فيهم بشهادة غير العرب وغير المسلمين ،وإفحاما لكل خصم عنيد وجاهل متعصب من الغربيين الذين قال فيهم الأستاذ لويجي رينالدي الطلياني :"وقد يحزنني ، والله ، كما يحزن غيري ممن ينصفون أن يكون بيننا نحن الأوروبيين نفر يقودهم سوء الظن والجهل إلى احتقار العرب وحسبانهم من أمة أدنى من أمتهم.وأن ترى كلمة عربي عندنا تدل على معنى غير معنى التمدن وهذا بلا شك افتراء ونكران للجميل " (24)
وابن باديس بعد هذا الشرط الأساسي والضروري لا يترك باب الحوار والمناظرة مفتوحا على مصراعيه،حتى ولو تكافأت فرص أرضية الحوار ، بل يقيد كل ذلك بشروط يراها ضرورية ومن شأنها أن تؤمن حدود لياقة الحوار وتجنبه الوقوع في منزلقات المهاترة والملاسنة غير المشرفة للعلم والمعرفة وأصالة الشعوب الغيورة على مواريثها الحضارية ولهذا نجده بعد وضعه لشرط التكافؤ يضيف آليات أخلاقية تؤمن للحوار مجراه الطبيعي ،وتحدد معالمه وأهدافه وتجنبه الانزلاق إلى كل ما من شأنه أن يبعده عن وظيفته الحضارية السامية التي من أهدافها مناشدة التواصل والتقليل من حدة المواجهة حتى تمكن من التفاهم وبه يتم التعاون الذي يسمح للإنسانية بشق طريقها نحو الإبداع والمزيد من توفير فرص السعادة.
يقول ابن باديس في أولى مداخلاته في جريدة "الشهاب " لسان حاله عام 1927 تحت عنوان بارز ومثير "دعوة إلى الحسنى فهل من مجيب" ؟ راسما من خلالها هذا المنهج القويم الذي سيصبح سبيله،وسبيل كل من حذا حذوه، في المرافعة المريرة أمام المستعمر الغاصب لأسمى معاني وجود الكيان الجزائري ...قائلا بوضوح لا يشوبه التباس "إننا نقول لجميع الكتاب من الجانبيين بلسان الدين والأخوة الإسلامية هاته الكلمة: اقلعوا عن المهاترة والمشاتمة والمغامزة والملامزة مما هو حرام بإجماع المسلمين واسلكوا طريق القرآن الكريم بيان لقول الخصم بدون تعرض لشخصه وإقامة للحجة التي ترده عليه من حسن السلوك والقصد في الوصول إلى الحقيقة والإذعان لها إذا ظهرت على أي لسان، ومع الشعور بأن الراد والمردود عليه إخوان يريد كل واحد منهما أن يهدي أخاه إلى ما يراه خيرا له ويصرفه عما يراه شرا"(25)
هكذا يرسم ابن باديس ، بكل وضوح ،لنفسه أولا ،ولغيره منهجه في المناظرة والمحاورة ،هذا المنهج الحضاري البعيد على كل ما من شأنه أن يحط من قيمة الإنسان الذي كرمه الله على باقي المخلوقات. إن ابن باديس يدعو في منهجه اقتداء بما تعلمه من منهج القرآن الكريم وفي عباراته القرآنية دلالة واضحة على هذا الاختيار.إن أساس الحوار كما يراه هو الموعظة الحسنة وقول اللين حتى ولو تعلق الأمر بتوجبه الخطاب إلى فرعون الأمة ..مع ضرورة الالتزام بمبدأ الجدال بالتي هي أحسن... وكنتيجة لكل هذا يتحتم على المحاور إذا اقتضت الضرورة الإذعان إلى إرادة الحق إذا أقيم الدليل بالحجة والبرهان الساطعين مع تجنب ركوب الرفض والتغاضي عن الحق مهما كان مرا.إنها ثاني آليات الحوار، وبتحديده لها يقدم لنا ابن باديس في مقالته "مبادئنا وغايتنا وشعارنا" نموذجا تطبيقيا على أرض الواقع متخذا من لسان حال صحافته سبيلا لتجسيد النظري كأمر واقع ،فها هو يعد بتنفيذ شريعة أصول الحوار والمناظرة ضاربا بذلك مثلا في قوله: "وسنسلك في انتقادنا طريق الحقيقة المجردة والصدق والإخلاص والنزاهة والنظافة في الكلام ،وننشر كل انتقاد يكون على هذه الصفحات علينا أو على غيرنا على مبدأ الإنصاف الذي لا يتوصل للتفاهم والحقائق إلا به.
هذه مبادئنا وسيرضى بها عنا الأحرار المفكرون أصحاب الصدور الواسعة والقلوب الكبيرة من الوطنيين والفرنسيين ،وسيغضب بها علينا المستبدون الظالمون والدجالون المحتالون وصغار الأدمغة وضيقوا الصدور من بغاث البشر.." (26)
ما أحوجنا اليوم لمثل هذا الميثاق الأخلاقي الذي ينظم مهنة الصحافة وحرية التعبير ويحدد لنا آليات الحوار والمناظرة كما رسم خطوطها ابن باديس بوضوح لا يشوبه لبس مما يجعلها ترتفع إلى شرف المكانة التي ترتضيها لها كل أمة تقدر قيمة التعبير لكونه سلطة رابعة أو ثالثة أو ربما أولى في المجتمعات المتمدنة التي عملت على إعادة المجد للكلمة وصيانة الرأي وحرمته وبالتالي ضمنت لشعوبها الرفعة والازدهار وأمنتها من مغبة الصغار والتخلف المقيت .
هكذا يرسم ابن باديس ،الذي يعي معنى مفعول الكلمة -القول- أو الخطاب بوصفه مظهرا من مظاهر السمو بالكائن البشري الذي رزق أعظمَ منّة ألا وهي العقل. وفي كل هذا المعترك نجد ابن باديس لا يكف عن ضرب الأمثال للناس من خلال اختياره لوسيلة الحوار كأنجح السبل لتحقيق أسمى الغايات وأنبلها، وبممارسته لهذه الآلية يكون قد عمل على رد الاعتبار لمفعول القول كقوة فاعلة في مجتمع يعي قدر الوخز بإبر الكلام ونلمس ذلك جليا في مقالته التي تحمل عنوان "كلمة صريحة" وما تلاها من "حول كلمتنا الصريحة" التي نشرت في شهر جوان من عام 1936 رد فيها على ما أسماه "بفوضى التكلم باسم الأمة" أولئك الذين وجه لهم النصيح البليغ والمعبر والقائل: "ولو أنهم اقتصدوا في القول ولم يلجوا باب الغلو والإسراف،وقالوا إننا نتكلم باسم الفريق الذي انتخبنا أو باسم الهيئة التي ننتمي إليها، أو باسم الجماعة التي نحن منها ،أو باسم الذين يشاركوننا في الرأي والتفكير ،لكان قولهم أصوب ،ورأيهم أصلح وكلامهم أقرب إلى نفوس السامعين من رجال الحكومة ومن رجال الشعب "(27) وقد استهدفت هذه الكلمة كما نعلم دعاة الاندماج الذين خولت لهم أنفسهم التحدث باسم الشعب الجزائري والنيابة عنه وهو ما جعل ابن باديس يضطر إلى فتح هذا الجوار الهادئ معهم ..هذا الحوار البعيد عن المهاترة والتراشق بالأوصاف المشينة والمخيبة للآمال.
وفي هذا الحوار ،وإن شئت المناظرة ،نلحظ ابن باديس كخبير بأدواء الأمة الجزائرية ومقدرا ما ينتظر مصيرها من جهود شاقة ،وما يتمناه شرفاء هذا الوطن ،نجده ينحو باللائمة على فرنسا بلغة العقل في سوء تسرعها للسماع إلى من خولت لهم أنفسهم التحدث باسم الأمة الجزائرية وهم في حقيقة الأمر لا يعبرون إلا عن أنفسهم بحكم انفصاهم عن هموم ومشاعر الأمة وهو ما دفعه إلى أن ينعتهم :"بفوضى المتكلمين باسم الأمة" وقد تمادوا في غلوهم بأن أوهموا فرنسا كما يقول ابن باديس :"أن الأمة الإسلامية الجزائرية مجمعة على اعتبار نفسها أمة فرنسية بحتة ، لا وطن لها إلا الوطن الفرنسي ،ولا غاية إلا بأن تمد فرنسا يدها بكل سرعة فتلغي جميع ما يحول دون تحقيق هذا الاندماج التام "(28) ثم يورد رأي فرحات عباس الذي سبق وأن ذكرناه ،ويعترف ابن باديس كمحاور واع ونزيه في الدفاع عن قضيته وقضية أمته العادلة بأنه لا ينكر أنه أغلظ في القول في حق فرحات عباس ؛ هذا المثقف الذي يعترف له بمكانته الثقافية والسياسية ليتدارك في مقالته الثانية التي تحمل عنوان "حول كلمتنا الصريحة " ليقول:"كان هذا الرجل الأبي من أهدافنا في مقالتنا (كلمة صريحة) وهو الذي آخذناه عن مقاله (فرنسا هي أنا )..فالسيد فرحات عباس لا يتألم ولم يتكدر وسلك مسلك كبار رجال السياسة الذين يحبذون النقد ، وينصاعون لكلمة الحق ، فزار إدارة الشهاب وأكد لها تقديره لجهودها ،وجرت له مع صاحب الشهاب محادثة دلت على سمو أدبه وعلو كعبه في عالم السياسة و التفكير ثم نشر مقالا في جريدة (لاديفانس) يبين فيه نظريته"(29) وتكريسا للنهج الذي رسمه لأدبيات الحوار وأخلاقيات المناظرة أورد ابن باديس رأيا آخر صاغه في حق جريدة النجاح الذي يصف موقفها مما كتب حوله مسألة من نصبوا أنفسهم أوصياء على الشعب نجد ابن باديس في النهاية يُقيم الحجة على بطلان ما ادعوا قائلا: "ولقد تولت بعض الدوائر مهاجمتنا مستترة وراء جريدة النجاح ووراء ورقة تدعى (صدى الصحافة الإسلامية) ولقد كنا ننتظر من تلك الدوائر التي هاجمتنا مناقشة هادئة تتناسب مع وقارها ، وكنا ننتظر منها نضالا بأسلحة حادة لكن خاب أملنا في الأمرين .فالمناقشة كانت صبيانية الشكل والموضوع والأسلحة كانت عميقة مفلولة أبلتها كثرة الاستعمال "(30) فأنت ترى كيف يربأ ابن باديس بنفسه عن النزول بمستوى الحوار حتى لا يحط من مستوى أهدافه ولا يقلل من قيمة خصومه حتى ولو كانوا في مواقع الأعداء .كما نجده يقول حين عمدت فرنسا إلى السماع إلى بعض من أسماهم :"أعيان الباش أغوات، ولا نطعن فيهم، إذا قلنا إنهم ليسوا بأصحاب معلومات فقهية .. ونجد بعض الدكاترة وليسوا من أصحاب الموطأ ولا من قراء سحنون..(31) إلى غير ذلك من الردود اللبقة التي تحدد المواصفات السلبية للمحاور دون أن تجعله يشعر بتوجيه السهام اللادغة إليه والتي قد تنال من كرامته وأغراضه،وشبيه بهذا ما خص به صدى الصحافة الأهلية التي نعتت صاحب الشهاب ابن باديس بنعوت مشينة "كالأحمق" و"المجنون" و"الأخرق" و"الجاهل" والغبي" و"المجرم".وهو بمثابة "صاحب الحمار" الخارجي المعروف بالنكاري الذي أثار بفرط تعصبه إفريقيا وأثخن فيها محاولا إقامة دولة على الخرائب فيعقب ابن باديس على هذا النوع من الشتم والسباب بأسلوب صحفي لبق ينم عن حكمة في المناظرة والحوار ،ودراية فائقة بكيفية توجيه سهام النقد الصائبة قائلا: "لو كنا نستطيع أن ننحط إلى تلك الدركة السافلة ونجاري أولئك المحررين في أسلوبهم لقلنا لهم :إنهم أنذال ،سفهاء ،ليس لهم ضمير ولا يعرفون شهامة ولا كرامة، لكننا لا نقول لهم هذا ، ولا نوجه لهم أمثال هذا الكلام فلنا من آدابنا الإسلامية ولنا من شهامتنا العربية ما يمنعنا عن الانغماس في مستنقعهم النتن"(32) لا أعتقد أن الأمر يخفى على لبيب في طريقة الرد الذي سلكه ابن باديس ،والذي قال فيه ما يريد ولكن بصيغة نفي النفي وهو أسلوب يدرك صاحبه كيف يمرر خطابه ويجعل من صياغته المتعالية عن الانحطاط محل إعجاب وإكبار؛ أسلوب يأخذ بالثأر ويرد الصاع صاعين دون أن يمرغ نفسه في مستنقع الكلام النتن المنحط، أو الوقوع في مهاوي المهاترات والشتائم المجانية فهذا هو أسلوب ابن باديس الذي نلتمس منه نموذجا للمحاورة وليس ذلك الأسلوب الذي يصفه ابن باديس والذي يحدث ويدور في مجالس أولئك الذين يزعمون أنهم يلقنون البشرية دروسا في التمدن والحضارة وهم في الحقيقة ييفتقدون كما يقول ابن باديس إلى أسس:"المحاورة بالأدب الذي يعز وجوده في مجالس النواب الأوروبية التي كثيرا ما تخرج عن الكلام إلى اللكام"(33).
وابن باديس وهو يقنن لمنهجية الحوار والمناظرة لا ينسى أن يدلي برأيه في مسألة تداخل الديني والسياسي ،وهي الإشكالية التي طالما أرهقت البشرية ولا تزال تحدث من الجدل والانقسام ما تسبب في إراقة الكثير من الحبر والدم .لكن ابن باديس رجل الدين والسياسة يضع لهذه المعضلة أمارات فاصلة رغم التزامه بمنهج نابع من تقاليد دينه الذي يصبو إلى كل كمال إنساني،ويعمل على تحقيق الأخوة والسلام بين شعوب المعمورة إلا أنه مع كل ذلك نجده وهو بصدد الحديث عن السياسة يقول:"ولا نعني بهذا أننا نخلط بين الدين والسياسة في جميع شؤوننا ،ولأن يتدخل رجال الدين في سياستنا ،وإنما نعني اعتبار الدين قواما لنا ومعينا شرعيا لسلوكنا،ونظاما محكما نعمل عليه في حياتنا وقوة معنوية نلتجئ إليها في تهذيب أخلاقنا وقتل روح الإغارة والفساد منا وإماتة الجرائم من بيننا فلهذا لا نألو جهدا في خدمته بنشر مبادئه الحقة العالية.وتطهيره من كل ما أحدثه فيه المحدثون والدفاع عنه من أن يمس بسوء من أهله أو من غير أهله(34)
هكذا يصل ابن باديس من منظور عميق لسيرورة الأفكار إلى تحرير السياسة من الدين وأن يجعل منها رقيبا أمينا لخطواته السياسية ويتقي به شر الإنزلاقات ولا يكون حجر عثرة في طريقها وبالتالي تتضح سبل الغايات ،ولا يمكن الوصول إلى هذا التصور العميق إلا من كان يدرك ما كان ينصح به ابن باديس أبناء وطنه قائلا:"كن ابن وقتك تسير مع العصر الذي أنت فيه بما يناسبه من أسباب الحياة وطرق المعاشرة والتعامل .كن عصريا في فكرك وفي عملك وفي تجارتك وفي صناعتك وفي فلاحتك وفي تمدنك ورقيك"(35)
هذه هي سلفية ابن باديس إذا جاز لنا تصنيفه؛ إنه المحرض القائل بصراحة وبدون تلميح على ضرورة الأخذ بأسباب العلم والمعرفة حتى ولو كان من الأعداء؛ لأنه مدرك تمام الإدراك لمغزى الحديث الشريف "الحكمة ضالة المؤمن" فنجده ينصح أبناء أمته قائلا:"فعلينا أن نخالطهم ونخالطهم في ديارهم حيث مظاهر مدنيتهم الفخمة في مؤسساتهم العلمية والصناعية وعظمائهم أصحاب الأدمغة الكبيرة التي تمسك بدفة السياسة وتدير دواليب التجارة وتسير سفينة العلم ،فالذين تخالطونهم هذه المخالطة بتمام تبصّر وحسن استفادة يخدمون أنفسهم وأمتهم خدمة لا تقدر، خدمة تكون أساسا للتقدم والرقي "(36) ومادام ابن باديس يقر بأن مراكز المدنية هي في المراكز الأوربية فإنه ينصح قائلا:"فضروري لكل أمة تريد أن تستثمر ثمار تلك العقول الناضجة وتكتنه دخائل الأحوال الجارية أن تكون عالمة من لغات أوروبا وكل أمة جهلت جميع اللغات الغربية فإنها تبقى في عزلة عن هذا العالم ،مطروحة في صحراء الجهل والنسيان"(37)كما يلقي ابن باديس باللائمة على المتعصبين والمتقوقعين في لغة واحدة شأن أولئك الذين يشتد بينهم الصراع في الجزائر فراح ابن باديس مصنفا إياهم حسب هذا التصور قائلا:"وقد كان الذين يزاولون العلوم الأولى على جمود تام كما كان الذين يزاولون العلوم الثانية على شبه ظلال فهؤلاء يعتبرون الآخرين أحجارا وأولئك يعتبرون هؤلاء كفارا."(38)
مراجع البحث:
عبد الحميد بن باديس :كلمة صريحة .الشهاب.أفريل.1936
عبد الحميد بن باديس: الرجل المسلم الجزائري .الشهاب نوفمبر 1929
عبد الحميد بن باديس: الفاجعة الكبرى.أو جنايات الكماليين على الإسلام والمسلمين ..النجاح.مارس.1924
عبد الحميد بن باديس: مبادئنا وغايتنا وشعارنا المنتقد .عدد 11-12-1925
عبد الحميد بن باديس: الفكرة الإسلامية .الشهاب .ديسمبر.1926
عبد الحميد بن باديس: رد على مقال م.أشيل روبير.الشهاب .جانفي.1926
عبد الحميد بن باديس : رد على مقال م.أشيل روبير.الشهاب 21 جانفي 1926
عبد الحميد بن باديس: رد على مقال م.أشيل روبير.الشهاب 21 جانفي 1926
عبد الحميد بن باديس : رد على مقال م.أشيل روبير.الشهاب 21 جانفي 1926
عبد الحميد بن باديس رد على مقال م.أشيل روبير.الشهاب 7 جانفي 1926
عبد الحميد بن باديس رد على مقال م.أشيل روبير.الشهاب 21 جانفي 1926
عبد الحميد بن باديس: كلمة صريحة .الشهاب أفريل.1936
عبد الحميد بن باديس: رد على مقال م.أشيل روبير.الشهاب 1937
عبد الحميد بن باديس: في بحر عام "أعمالنا وآمالنا" .الشهاب .24 جوان 1926
عبد الحميد بن باديس : في بحر عام "أعمالنا وآمالنا" .الشهاب .24 جوان 1926
عبد الحميد بن باديس: الناكرة للمعروف .المنتقد 25 أكتوبر 1925
عبد الحميد بن باديس: الجزائر المسلمة تبرهن في أحرج مواقفها عن تماسكها .الشهاب فيفري 1938
عبد الحميد بن باديس: رد على مقال م.أشيل روبر الشهاب .14 جانفي 1926
عبد الحميد بن باديس: رد على مقال م.أشيل روبير.الشهاب " الشهاب 1 مارس 1926
عبد الحميد بن باديس: سياسة وخز الدبابيس الشهاب .مارس 1926
عبد الحميد بن باديس : رد على مقال م.أشيل روبر. الشهاب مارس 1926
عبد الحميد بن باديس: رد على مقال م.أشيل روبر. الشهاب مارس 1926
عبد الحميد بن باديس: المناظرة والمهاترة ، الشهاب . فيفري 1926.
عبد الحميد بن باديس: المناظرة والمهاترة الشهاب .فيفري 1926
عبد الحميد بن باديس : رد على مقال م.أشيل روبر .الشهاب 7 جانفي 1926
عبد الحميد بن باديس: دعوة إلى الحسن .فهل من مجيب ؟ الشهاب 22 جوان 1927
عبد الحميد بن باديس: مبادئنا وغاياتنا وشعارنا .المنتقد 2 جويلية 1927
عبد الحميد بن باديس: كلمة صريحة .الشهاب أفريل 1936
عبد الحميد بن باديس : كلمة صريحة .الشهاب أفريل 1936
عبد الحميد بن باديس ": حول كلمتنا الصريحة. الشهاب. جوان 1936
عبد الحميد بن باديس : من هم الوهابيون؟ .النجاح.24 أكتوبر 1924
عبد الحميد بن باديس: السياسة .المنتقد .2 جويلية 1925
عبد الحميد بن باديس: آثار الإمام عبد الحميد بن باديس .الجزء الرابع .ص.44
عبد الحميد بن باديس: بمخالطة المتمدنيين نترقى في المدنية .الشهاب 25 فيفري 1926
عبد الحميد بن باديس: آثار الإمام عبد الحميد بن باديس .الجزء الرابع .ص.40
عبد الحميد بن باديس: آثار الإمام عبد الحميد بن باديس .الجزء الرابع ص116.