من ملامح الفكر التحرري عند ابن باديس
بقلم: د. علي الصلابي-
اهتم ابن باديس بمسألة الحرية، واعتبرها طبيعة في الوجود، وحقاً شرعياً لكل إنسان، والإنسان هو إنسان مادام يتمتع بالحرية.
واحتفل ابن باديس بعيد الحرية للتعبير عن شوقه إليها وتسجيل وقفة تأمل ورسم معالم جديدة لتحقيق مكاسب في طريق التحرر، فقال: إننا هنا نحتفل بالحرية ونفرح مع الأحرار، وإن لم نكن نلنا من تلك الحرية المحبوبة حظنا ؛ لأن الحرية والإنسانية محبوبتان ومقدستان لذاتهما، والمسجون الشريف يفرح بحرية الناس وإن كان سجيناً.
وقال عن الحرية التي هي من أقدس القيم وأغلى الأشياء التي يملكها الإنسان وما يتعلق بها وبمجدها، تحتفل بأعيادك الأمم وتنصب لتمجيدك التماثيل، وتتشادق بأمجادك الخطباء وتتغنى بمفاتنك الشعراء ويتفنن في مجاليك الكتّاب.
ويضحى كذلك من أجلها، ويتهالك من أجلك الأبطال، وتسفك في سبيلك الدماء، وتدك لسراحك القلاع والمعاقل، والحرية لا لون لها ولا جنس لها، إما أن تكون حرية للجميع أو لا تكون، فنحن ضد أضداد الحرية وأعداء الحرية، ونقاوم من يقاوم الحرية سواء كان من أهل البرانس أو من أهل البرانيط.
وقارن ابن باديس الحرية بالمساواة، فحين تطبق هذه القيمة على الجميع تسود الحرية لأنه حينئذ يتمتع كل فرد بحريته دون أن يضره غيره، لكن إذا غابت المساواة أو سادت المساواة العرجاء وقع الخلل، لأنها تعطي الحرية لمجموعة أخرى.
لهذا طالب ابن باديس السلطة الفرنسية لتصحح هذا الوضع، فقال: لو كنتم حقيقة تريدون المساواة فلماذا لم تسووا بيننا وبين اليهود تتركون لهم حرية دينهم؟ ولماذا لا تسووا بيننا وبين دعاة النصرانية الذين تؤيدونهم؟ بل لماذا لم تسووا بيننا وبين أعدائكم الطليان يتركون يؤسسون المؤسسات الضخمة لتعليم لغتهم مثل ما فعلوا في بجاية وسطيف، وتغلقون دار الحديث بتلمسان ومدرسة قلعة بني عباس.
وبعد شعوره بتعنت السلطة الفرنسية وفشل مهمته إلى فرنسا ؛ في وفد المؤتمر طرح ابن باديس معنى آخر للحرية ويتمثل في التخلص من القيود السياسية وتجاوزها لأنها ظالمة ومستبدة لا يجب الخضوع لها، والسكوت عنها، ويعتبر الالتزام بها عنوان مذلة وهوان، وفي هذه الحالة تتحول الحرية من وضعية أو حالة إلى فعل وعملية قد تكون كلمة تحرر أصدق تعبير عنها.
وهذا ما تضمنته عدة مقالات له التي عبر من خلالها عن يأسه الكامل من فرنسا. وقال: لقد حان الوقت لنعتمد على الله وأنفسنا.
كما ثبت أنه جمع صفوة تلامذته وأصدقائه في عام 1939م ليتدبر معهم مسألة الخروج عن السلطة الاستعمارية الفرنسية وتحضير ثورة من أجل تحرير الشعب الجزائري، وعبّر عن هذه المعاني أيضاً نشيده الخالد:
يا نشء أنت رجاؤنا وبك الصباح قد اقترب
خذ للحياة سلاحها وخض الخطوب ولا تهب
وارفع منـار العـدل والإحسان واصدم من غصب
وأذق نفوس الظالمين السم يمزج بالرهب
واقلع جذور الخائنين فمنهم كل العطب
واهزز نفوس الجامدين فربما حيي الخشب
وهكذا تجد كلمات كالتضحية والثبات المغامرة وغيرها من الكلمات القوية التي تنطلق كالرصاص تتردد على لسانه وتتكرر على قلمه.
قال ابن باديس في هذا الشأن: وما أرسل الله الرسل عليهم الصلاة والسلام وما أنزل عليهم الكتب، وما شرع لهم الشرع ؛ إلا ليعرف بنو ادم كيف يحيون ينظمون تلك الحياة حتى لا يعتدي بعضهم على بعض، وحتى يستثمروا تلك الحياة إلى أقصى حدود الاستثمار النافع المحمود المفضي بهم إلى سعادة الدنيا وسعادة الآخرة.
1 ـ التاريخ الإسلامي:
ويستلهم ابن باديس العبر والحلول من السيرة النبوية المطهرة، التي هي سجل الحرية، وكتاب مفتوح في الكفاح ضد الظلم والاستعباد. وسأذكر هنا نموذجاً من قراءته للسيرة النبوية من خلال درس له في جمعية التربية والتعليم بقسنطينة بمناسبة الاحتفال بالمولد النبوي الشريف، فقد ولد النبي صلى الله عليه وسلم في بلاد ضعيفة مظلومة، لتعلم الأمم أن الله يقدر أن يوجد من الضعيف قوة ومن المظلوم سيادة حتى يتبين أنه قادر جبار، وحتى لا ييأس الضعفاء المستعبدون ويَدَعوا الكفاح، ولئلا يغتر الأقوياء بقوتهم فيهلكوا.
وبيّن ابن باديس كيف تجسدت هذه المعاني في صدر الإسلام الأول بقيادة الرسول صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين والسلاطين المسلمين من بعدهم، ثم توجه إلى الشباب والطلبة الذين ينصتون إلى خطابه ليقول لهم: نخاطبكم أيها الشباب لنوجد من ضعفكم المادي قوة، ومن إيمانكم القوي نفوساً أبية لا تركن إلا إلى الحق، ولا تعبأ إلا بمن يعبأ بها، ولا تنصر إلا العاملين المخلصين، ولا تخذل إلا من خذلها ولو كان من أعز أبنائها.
واستنتج ابن باديس من قصة استجابة النبي صلى الله عليه وسلم لرأي الصحابي الحباب بن المنذر في غزوة بدر، في تغيير مكان نزول الجيش الإسلامي، وردم مجموعة الابار بالتراب حتى لا يستفيد من مائها جيش قريش، ليصف سيدنا محمداً صلى الله عليه وسلم أنه أعظم قائد يُلزم نفسه بالسماع إلى الاخر والاستفادة من رأيه المختلف، ودعوة الجميع لتجسيده على أرض الواقع، هذه هي الحرية في أبهى صورها تطبيقاً لما جاء به الإسلام من احترام حرية التفكير والتعبير.
واستنبط ابن باديس أيضاً من قصة زيد بن حارثة الذي رفض العودة إلى أسرته رغم إلحاحها ؛ إلى شعور زيد بكامل حقوقه وكرامته وهو يخدم النبي صلى الله عليه وسلم، الذي لم يعتبره يوماً عبداً بل فرداً من عائلته ومن أقرب الناس إليه حتى حسبوه ابنه، ونزلت في هذا الشأن آيات قرآنية من سورة الأحزاب.
وهكذا كان النبي صلى الله عليه وسلم حاملاً لقيم إنسانية، يخرج بها الناس من الظلمات إلى النور، فهو قدوة في احترام الغير والتسامح مع الغير، ومثال في الوفاء للمبادئ التي لن تُسعَدَ الإنسانيةُ إلا بالتمسك بها.
2 ـ بين حضارتين:
تحدث ابن باديس عن الحضارة الإسلامية مؤكداً على أن التاريخ لم يعرف فاتحاً أرحم ولا أعدل من المسلمين، فهم حرصوا على كرامة الإنسان، فتركوا له حرية اختيار الإسلام أو البقاء على دينه، وحرية الحفاظ على اللغة العربية أو لغته الأصلية، فلم تتعرض الشعوب التي وصل إليها الإسلام للإجبار، بينما تعرض المسلمون دائماً للاضطهاد بكل أنواعه. ويكفي هنا مثال محنة المسلمين في إسبانيا بعد سقوط الأندلس:
وفي السياق نفسه، دخل ابن باديس في سجال طويل مع مثقف فرنسي بيّن له ابن باديس أن الحضارة الإسلامية هي الحضارة التي كرست حرية الإيمان والتدين، ولم تجبر من كان تحت حكمها بالتخلي عن ثقافته ولغته.
واستعان كذلك بأدبيات رواد النهضة في العالم الإسلامي، وكذلك إنتاج الأدباء والشعراء المعاصرين، فأعاد نشر مقالاتهم الصادرة في الصحف والمجلات ومقتطفات من كتبهم ومختارات من أقوالهم، كما وظف ابن باديس الفكر الغربي من أجل بناء تصوره عن الحرية، ورسم السبيل للوصول إليها، وإقناع السلطة الاستعمارية في حق الجزائريين في الحصول عليها منطلقاً من كتابات أوروبيين ومستشرقين، ومن أبرزها كتاب «الأبطال» لتوماس كارليل، و«حضارة العرب» لغوستاف لوبون.
وخلاصة القول أن التاريخ الإسلامي أو الغربي سجل نماذج رائعة في الصبر والتضحية في سبيل تحقيق الحرية أو الحفاظ عليها من كل الغاصبين، بهذه النبرة يوجه ابن باديس خطابه لكل من يعتقد ذلك، ويصر على الاضطهاد في الفكر والدين والسياسة.
ويدعو هؤلاء إلى مراجعة التاريخ ليتيقنوا أن الأحرار هم المنتصرون دائماً مهما طال ليل الظلم وتأخرت شمس الصبح، راجعوا تاريخ الأديان وانظروا ماذا لقي أهلها من الاضطهاد، فهل قضي شيء من تلك الاضطهادات المتتابعة في الأزمنة أو في القرون المتتابعة على واحد من تلك الأديان؟
وهل كانت الاضطهادات ـ والتاريخ يشهد ـ إلا ريحاً لا تزداد بها شعلة الفكرة والعقيدة المقدسة إلا شبوباً واستنارة.
3 ـ التعددية:
كان ابن باديس يحترم التعددية ويقبل بحرية الاعتقاد، ولذلك قال: نحن كمسلمين لا يضيق صدرنا بأن نرى أهل كل دين يحتفلون بطقوس دينهم ويظهرون تمسكهم بعقيدتهم ويدعون إليه بكل وجه شريف نزيه، بل نريد أن يقع التفاهم بين أهل الملل على أصل التدين ليقع التعاون على نشر أصول الخير والإحسان التي تتفق عليها جميع الملل، وعلى مقاومة الشر والظلم والإلحاد المحرمة عند الجميع.
والإسلام لم يحرّم اللغات الأخرى، بل يحرص على تعددية اللسان، يقول ابن باديس: نؤمن بأن اللغات البشرية كلها محترمة وأنها من آيات الله من قول ربنا {وَمِنْ آياته خَلْقُ السَّمَاوَاتِ وَالأَرْضِ وَاخْتِلاَفُ أَلْسِنَتِكُمْ}
ومن هذا المنطلق: لم يعرف عن مملكة إسلامية مقاومة لغة من اللغات ولا معارضة أحد في طريق التعليم والتعلم.. وقد عاش أحبار الأمم ورهبانها وعلماؤها يعلّمون أممهم ما يشاؤون من ألسنتهم وعلومهم تحت ظل الممالك الإسلامية، ولا يلقون إلا التعظيم والاحترام الذي يستحقه المعلم في نظر الإسلام.
وكان ابن باديس يسعى إلى التقارب بين الديانات وحوار الثقافات وتعاون الأجناس امتثالاً لدينه الحنيف فقد قال: أنا كمسلم أدين بالأخوة الإنسانية واحترامها في جميع أجناسها وأديانها، وأسعى للتقريب بين جميع عناصرها وأجاهد فيما هو السبيل الوحيد لتحصيل ذلك.
ومن هذا المنطلق انتقد ابن باديس الأوروبيين الذين لا يتعاملون بالمثل مع الدين الإسلامي ولا يحترمون المسلمين. وبعث رسالة إلى وزير خارجية فرنسا والمقيم العام لفرنسا ليحتج على منع مسلمي مراكش من إقامة احتفالات بمناسبة المولد النبوي الشريف، كما احتج على المؤتمر المسيحي الأفخاريستي المنعقد في تونس في عام 1930م، لأنه اعتبر تنظيمه استفزازاً وإثارة لمشاعر المسلمين، ولم يعارضه لأنه تظاهرة مسيحية هادفة، بل قال أنه كان مستعداً للترحيب به وللمشاركة فيه، فلو كان هذا المؤتمر انعقد على هذه الأصول ولهذه الغاية لكنا من أول المرحبين به، وقد نكون من المشاركين فيه.
وكذلك احتج على مؤتمر انعقد في جامعة السوربون حول حوار الأديان برئاسة المستشرق لويس ماسينيون، ولم يُدْعَ إليه العلماء الأحرار الذين يمثلون حقاً الإسلام، ليتحدثوا عنه بكل حرية وبدون خوف من الضغوطات التي تمارس على العلماء الرسميين أو بعض شيوخ الطرق الصوفية والزوايا. ولو كان هذا المؤتمر حراً ويعمل لغاية دينية خالصة ـ كما يقول ابن باديس ـ لما كان يتقيد بهذا القيد ؛ لكنت ترى فيه من رجال الأديان الأحرار مثلما ترى غيرهم، فإن الدين دين الله ليس بدين الحكومات الاستعمارية على الأخص.
من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج2)