الإمام عبد الحميد بن باديس وجهود تحقيق الوحدة ولم الشمل
عبد الحميد عبدوس

الإمام عبد الحميد بن باديس وجهود تحقيق الوحدة ولم الشمل

بقلم: عبد الحميد عبدوس-

يعتبر إمام النهضة الجزائرية الشيخ عبد الحميد بن باديس ـ رحمه الله ـ نموذجا مشرفا للعالم المسلم المصلح الذي تصدى بفكره وجهاده إلى مخططات زرع الفرقة وشحن النعرات الجهوية وإشعال الفتن الطائفية بين أبناء الجزائر ،لقد حاول الاستعمار الفرنسي تطبيقا لسياسته الخبيثة «فرق تسد» تحويل التنوع الثقافي والديني في الجزائر إلى مصدر للصراع وسبب في النزاع بين العرب والأمازيغ أو بين المنتسبين إلى المذهبين الإسلاميين المالكي والإباضي.

لعل أخطر المناورات والسياسات التي سعى الاستعمار الفرنسي لتنفيذها في الجزائرلتفجير الحركة الوطنية وعرقلة مسيرة التحرر الجزائرية محاولة التفرقة بين العرب والأمازيغ، أو العرب والقبائل في الشمال، وهذا ما دفع الشيخ عبد الحميد ابن باديس إلى التصدي لهذه المحاولة الفرنسية الدنيئة ومن أوضح الدلائل على ذلك ما كتبه في مجلة الشهاب في شهر فيفري 1936 بعنــوان: «ما جمعته يد الله لا تفرقه يد الشيطان» وقد تعمد إمام النهضة الجزائرية توقيع مقاله باسم عبد الحميد بن باديس الصنهاجي (للتدليل على الأصل الأمازيغي لعائلة ابن باديس)، وكان هذا المقال تعبيرا بليغا عن ترحيب الإمام عبد الحميد ابن باديس بالكلمة التي ألقاها بالأمازيغية الشيخ يحيى حمودي (عضو مؤسس لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين) في اجتماع لمكتب الجمعية، ومما جاء في المقال المنشور في مجلة الشهاب: «إن أبناء يعرب وأبناء مازيغ قد جمع بينهم الإسلام منذ بضعة عشر قرنا ثم دأبت تلك القرون تمزج ما بينهم في الشّدة والرخاء، وتؤلف بينهم في العسر واليسر وتوحدهم في السراء والضراء، حتى كونت منهم في أحقاب بعيدة عنصرا مسلما جزّائريّا، أمّه الجزائر وأبوه الإسلام، وقد كتب أبناء يعرب وأبناء مازيغ آيات اتحادهم على صفحات هذه القرون، بما أراقوا من دمائهم في ميادين الشرف لإعلاء كلمة الله، وما أسالوا من محابر في مجالس الدرس لخدمة العلم، فأي قوة بعد هذا يقول عاقل تستطيع أن تفرقهم؟..».

وفي مقال آخر بعنوان: «كيف صارت الجزائر عربية؟» نشر في الشهاب سنة 1930 يقارن الشيخ ابن باديس بين تكون الأمة الفرنسية من عدة أعراق وتكون الأمة الجزائرية عبر التاريخ من أمازيغ وعرب،فيقول: «تجد في قرى من دواخل فرنسا أمة واحدة وفي أعلى جبالها من لا يحسن اللّغة الفرنسية، ولم يمنع ذلك القليل – نظرا للأكثرية – من أن تكون فرنسا أمة واحدة، وهذه الحقيقة الموجودة في فرنسا يتعامى الغلاة المتعصبون عنها، ويحاولون بوجود اللغة الأمازيغية في بعض الجهات وجودا محليا، وجهل عدد قليل منهم جدا بالعربية – في رؤوس الجبال– أن يشككوا في الوحدة العربية للأمة الجزّائريّة، التي كونتها القرون وشيّدتها الأجيال».

وبمناسبة إحياء يوم المولد النبوي الشريف الموافق ليوم 2 ماي 1937 ارتجل الشيخ عبد الحميد بن باديس في حفل أقيم بقسنطينة قصيدة عصماء وفيها البيت الذي أصبح شعارا للهوية الوطنية:

شعب الجزائر مسلم           وإلى العروبة ينتسب

في عام 1938 زار الامام ابن باديس مدينة (تيزي وزو) رفقة المجاهد العلامة الفضيل الورتلاني والعلامة المربي باعزيز بن عمر وآخرين، ونزل ضيفا على شعبة الجمعية بالمدينة وألقى درسا بالمسجد كما ألقى الشيخ بن عمربالمناسبة كلمة جاء فيها: «إن هذه المنطقة منطقة مسلمة محافظة على الدين واللغة (أي العربية) عبر التاريخ، بل إنها عملت على المحافظة على الدين واللغة والقيم الأخلاقية ونشرها عبر الزوايا ومدارس القرآن بإيمان وعزيمة إلى أن جاء الاستعمار ووحشيته فأصبحت المنطقة تعاني من مشكل كبير وحاد، هو عمل شيطاني لا يقوم به إلا الاستعمار البغيض الذي يدّعي كذبا وافتراء المحافظة على هوية الشعوب ومقوماتها في الوقت الذي يعمل فيه بلا هوادة من أجل تنصيرها وتمسيحها وإبعادها عن دينها».

ويؤكد إمام النهضة الجزائرية الشيخ عبد الحميد بن باديس حقيقة حضارية بقوله: «لا يتوقف اتحاد الأمة على دمها ولكن على روحها ووحدة فكرها».

أما في جنوب الوطن ،وبالتحديد في منطقة غرداية فقد حاول المستعمرون خلق مسببات الفرقة والصدام بين العنصريين الرئيسيين المكونين لسكان هذه المنطقة وهم السكان المنتمون إلى بني ميزاب الأمازيغ الإباضيين والسكان المنتمون إلى قبيلة الشعانبة العربية المالكية. ولحسن الحظ فقد من الله على هذه المنطقة بعلماء أجلاء ومصلحين أصلاء شكلوا حركة إصلاحية ميزابية كان لها أطيب الأثر في إفشال مخططات المستعمر ونشر الوعي الديني والوطني بهذه المنطقة.

وقد سجل الباحثون النزهاء من ذوي الاختصاص صفحات مشرقة للتعاون الأخوي والتضامن الإسلامي بين أقطاب الحركة الإصلاحية بقيادة العلامة الشيخ عبد الحميد بن باديس وأقطاب الحركة الإصلاحية الميزابية بقيادة الشيخ أبي اليقظان والشيخ إبراهيم بيوض والشيخ إبراهيم أطفيش، ومن أبرز هؤلاء الباحثين الأكاديميين الأستاذ الدكتور محمد صالح ناصر من أفاضل علماء وادي ميزاب وأحد أبرز المثقفين الجزائريين والذي تخرج على يده العديد من الإطارات المتكونة في جامعة الجزائر.

يقول الدكتور محمد ناصر في مقال تحت عنوان: «الشيخ عبد الحميد بن باديس وعلاقته بالحركة الإصلاحية بوادي ميزاب»: “يظن البعض أن العلاقة بين ابن باديس والحركة الإصلاحية بوادي ميزاب إنما بدأت مع تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين سنة 1931، والواقع أن المتتبع لتاريخ الحركة الإصلاحية يجد جذورها ضاربة إلى بداية العشرينيات بعد ظهور الجمعيات الخيرية المتجهة إلى التعليم، وإلى ظهور الصحف العربية ولو بطريقة محتشمة تمثلت في جريدة “النجاح” وجريدة “الصديق” وجريدة “الفاروق”، لذا نستطيع أن نقول بأن الفترة 1931-1919 كانت فترة تلمس الطريق نحو هدف قومي وطني موحد…وفي تونس كان أول لقاء جمع بين ابن باديس وأبناء وادي ميزاب في دار بعثتهم التي كان يترأسها كل من أبي اليقظان، وأطفيش إبراهيم، ومحمد الثميني، وكان ذلك سنة 1921، وقد تركت هذه الزيارات أثرا بالغا في نفس ابن باديس، إعجابا واستبشارا وتفاؤلا بتلك النهضة الثقافية التي بدأت سنة 1913…”.

وكان ابن باديس يعتبر أبا إسحاق إبراهيم أطفيش الذي نفاه الاستعمار الفرنسي إلى مصر سنة 1923 “من أعلام الجزائر الذين تفتخر بهم علما ووطنية” أما رائد الصحافة العربية في وادي ميزاب الشيخ أبو اليقظان فقد كان ابن باديس يعتبره ركنا من أركان نهضتنا الفكرية والإصلاحية.

هذه العلاقة الأخوية والمتكاملة لخدمة الهدف الوطني المشترك بين الحركة الإصلاحية الباديسية والحركة الإصلاحية الميزابية هي التي توجت باشتراك علماء الإباضية من وادي ميزاب في تأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في سنة 1931 ومنهم الشيخ أبو اليقظان والشيخ بيوض، والشيخ بكلي عبد الرحمن، والشيخ الطرابلسي البرياني، وانتخاب كل من الشيخ بيوض والشيخ أبي اليقظان في الهيئة القيادية لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين أي في المكتب الإداري للجمعية.

كان البغض والضغينة والمكيدة تشكل خلاصة الشعور الاستعماري الفرنسي تجاه زعماء النهضة الإصلاحية في وادي ميزاب كما تكشف عنه الوثيقة التي نشرها الأستاذ الدكتور محمد صالح ناصر في مقاله المشار إليه آنفا تحت عنوان “الشيخ عبد الحميد بن باديس وعلاقته بالحركة الإصلاحية بوادي ميزاب” حيث كتب الحاكم العسكري لغرداية الكبتان “فيقورس” تقريرا موجها إلى الحاكم العسكري للأغواط سنة 1934 جاء فيه: «يسعدني أن أعلمكم بأنه انتهى إلى علمي بأن المسمى بيوض الحاج إبراهيم بن عمر، مفتي مسجد القرارة، يقوم بنشاط ملحوظ لتحقيق الوحدة بين إباضية ميزاب وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، إن هذا الأهلي المتغيب عن ميزاب قرابة شهرين يقوم بمفاوضة الشباب الميزابي الموجودين بمدن الشمال، مبينا لهم فوائد الانضمام إلى جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، إنه حاليا يسعى لاستقدام وفد من جمعية العلماء إلى ميزاب بهدف تحقيق الوحدة التي يعتبرها – حسب نظراته – تخدم القضية الإباضية، إن الخطر من هذا التقارب لا أحسبه يخفى عنكم، ومن تم ينبغي لنا تفاديه والحيلولة دونه ”.

وهكذا يتضح أن الحركة الإصلاحية بصفة عامة، وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين بصفة خاصة، كانت ومازالت عامل توحيد وإصلاح بين الجزائريين في إطار الأخوة الإسلامية الجامعة،وكانت الأخوة الإسلامية بين أبناء الجزائر من أهم العوامل التي أفشلت المشروع الاستعماري الفرنسي لفصل منطقة الصحراء عن بقية الجسم الجزائري،فكان العلامة الميزابي الإباضي الشيخ إبراهيم بن عمر بيوض في طليعة الشخصيات الجزائرية من الجنوب الجزائري الذين كان لهم موقف حاسم وقوي ضد محاولات فرنسا فصل صحراء الجزائر عن شمالها، وبالتالي إحباط سياسة رئيس فرنسا الاستعمارية الجنرال شارل دوغول في تحقيق مشروع تمزيق الوحدة الوطنية الجزائرية.

لا تعليقات

اترك تعليق

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.