من أهم صفات وأخلاق الإمام ابن باديس 1
بقلم: د. علي الصلابي-
اتصف ابن باديس في سيرته العطرة بصفات الدعاة الربانيين، من الصدق والإخلاص والدعوة إلى الله على بصيرة، والصبر، والرحمة، والعفو، والعزيمة والتواضع، والإرادة القوية التي تشمل قوة العزيمة، والهمة العالية، والنظام والدقة، والزهد، والورع والاستقامة.. الخ ونحاول هنا أن نركز على بعض الصفات التي تميزت بها شخصيته الإصلاحية العظيمة:
1 ـ حيوية عالية:
كان الشيخ عبد الحميد بن باديس ضعيف الجسم نحيله، ليس من أصحاب الطول الفارع ولا القصير المشين، ولو أنه إلى القصر أقرب، شبّه الدكتور مازن حامد مطبقاني بصورة عبد الله بن مسعود رضي الله عنه، الذي عرف عنه صغر حجمه ودقة ساقيه، حتى إذا استهزأ أو ضحك بعضهم من دقة ساقيه قال الرسول صلى الله عليه وسلم: ما تضحكون لرجل عند الله أثقل في الميزان يوم القيامة من أحد.
كان ابن باديس مجموعة من الإرادات العقلية والنفسية والروحية والقوة والعظمة والعمل. وما ذلك إلا لتفوق حيويته الروحية على حيويته المادية، فجانب الحيوية الروحية في ابن باديس متوفر وغزير. وقد ظهرت هذه الحيوية في حياته ومواقفه فهو:
ـ حيٌّ في إيمانه بربه وبمبادئه السامية.
ـ حي في خلقه العالي الملازم لشخصه ملازمة الشمس لنورها.
ـ حي في علمه الصحيح المبني على البحث الدقيق المؤسس على الطهارة النفسية واليقين القلبي.
ـ حي في قلبه المطمئن الثابت الذي لا تهزه العواصف ولا تنال منه الخطوب.
ـ حي في دينه الذي يخلص له ويعتز به أينما حل وحيثما ارتحل.
ـ حي في لسانه الفصيح الذي أوقفه على بناء الحق وهدم الباطل، وتأييد الهدى ومحو الظلام.
ـ حي في قلمه البليغ الذي التزم أن لا يخطّ إلا ما يمليه الضمير النزيه وتقتضيه مصلحة «الدين، واللغة، والوطن».
ـ حي في عمله المتزن المثمر الذي لم يعرقل تدفقه أي سدّ ولم تقف في وجهه أي محاولة.
فأي شيء يمنع الشمس أن تطلع أو يصدّ النور أن يسطع؟ ومن أهم الأمثلة على ذلك:
هجره للسعادة الزوجية التي هي أجمل حلم للإنسان، وعدم احتفاله بالعاطفة الأبوية المحدودة التي هي من أعرف الغرائز في شخص الكائن الحي.
فقد توفي ولده الوحيد ولم يتخلف عن درسه يوم وفاته، ولما عُوتب في ذلك أجاب: أي مبرر لي أمام الله والواجب إذا ما تخلفت عن الدروس وأضعت على الطلبة وقتاً من أوقاتهم الثمينة؟
وما هذا إلا ظاهرة لمبلغ ما يكمن في طبعه من الانقياد إلى غرضه السامي، والاستجابة لصوت الجانب الروحي المكين من جهة، ودرسٌ عملي في التضحية بالمصلحة الخاصة في سبيل المصلحة العامة من جهة ثانية، وآية صادقة على أن «عبد الحميد» ما خلق ليكون أباً لفرد من الأسرة الباديسية، وإنما خلق ليكون أباً لأبناء الجزائر أجمعين من جهة أخرى.
2 ـ ثباته على المبدأ:
يقول أحمد توفيق المدني :.. جاءنا عبد الحميد يوماً إلى النادي، وكنا جماعة ننتظر رجوعه من الولاية العامة، فقال: اليوم أدركت السر في أن محمداً صلى الله عليه وسلم نشأ وعاش يتيماً. فلقد وقفت اليوم أمام والدي محمد المصطفى بن باديس، وهو يجلس إلى جانب ميرانت مدير الأمور الأهلية، موقفاً أرجو أن يحتسبه الله لي يوم القيامة. فلقد ابتدرني ميرانت بحديث حلو العبارة مرّ المذاق، وقال لي: يا شيخ، اتركْ عنك هذا العار، اخرجْ من هذه الحشومة، ودع هذه الجماعة المسكينة التي جمعها عدو فرنسا بالنادي فليس هؤلاء الرجال رجالك، وليست هذه الحثالة من الطلبة ممن يفتخر العالم بالانتساب لهم، أو أن يكون رئيساً عليهم، قال: واستمر على هذا المنوال ودمي يفور، وشعوري الجريح يتأجج كأنه نار، وحاولت أن أرد الصاع صاعين، وإذا بوالدي وهو كل شيء عندي بالنسبة للحياة الدنيا، يقف أمامي ويبكي ويقول: يا عبد الحميد يا ولدي، ربيتك صغيراً وعلمتك يافعاً وفتحت أمامك أبواب الحياة الهنيئة حتى غدوت عالماً تشد إليك الرحال، فلا تفضحني اليوم يا عبد الحميد في شيبتي، لا تشمت بي الأعداء، لا تتركني للمذلة والهوان، هذا حبيبنا مسيو ميرانت لا يريد لنا إلا الخير، وقد مهد لي سبل الوصول إلى المركز الذي أنا فيه، وإن الإعراض عنه هو إعراض عني أنا، والإساءة إليه هي إساءة لي، ورفضُ طلبه رفضٌ لطلبي، وقد أمر الله بطاعة الوالدين، فأنا آمرك بالتخلي عن هذه الرئاسة وعن هذه الجمعية، قال: ثم انحنى أمامي وأنا أذوب، وأكبّ على رجلي يقبلها ويبكي، ويقول: لا تفضحني يا عبد الحميد.
قال: فانتصبت واقفاً، وأنا أرتعد تأثراً لا رفقاً، وتوجهت لوالدي وقلت: حاشا أن أعصي لك أمراً أو أن أخالف لك رأياً، وأنا ابنك المطيع إلا أن هذا الذي تدعوني إليه ليس في استطاعتي إطلاقاً، لأنني إن أطعتك فيه خالفت أمر الله، وأمر الله فوق أمر الوالد بنص القران، ولقد وقف محمد عليه الصلاة والسلام مثل هذا الموقف أمام أكابر قومه ووجوه عشيرته، فراودوه على أن يترك الدعوة لله وله ما يشاء مقابل ذلك من مال ومتاع، فأجابهم الجواب القاطع الصارم: والله لو وضعتم الشمس في يميني والقمر في يساري على أن أترك هذا الأمر ما تركته إلى أن ينصره الله أو أقضي دونه. هذه هي كلمتي الأخيرة يا والدي، ويا مسيو ميرانت، وليفعل الله بعد ذلك ما يشاء، وخرجت لا ألوي على شيء.
قال له علاّمتنا العظيم البشير الإبراهيمي على الفور: طوبى لك يا عبد الحميد وحسن مآب، وقمنا إليه فهنأناه وذرفنا الدموع جميعاً، فلقد اعتبرنا انتصارنا في تلك المعركة مقدمة لانتصارات باهرة في معارك أخرى آتية.
3 ـ شجاعته وصرامته في الحق:
ومن صفاته البارزة رباطة الجأش والشجاعة، وليس أدل على الشجاعة من وقوفه في وجه الاستعمار منذ بدأ التدريس في الجامع الأخضر، وليست الشجاعة فيما يظن البعض النقد العنيف للمحتل أو إلقاء الخطب الرنانة، بل كانت شجاعته من النوع المثمر، حيث العمل الدؤوب المتواصل لنشر العقيدة الإسلامية الصحيحة، وظهرت شجاعته في مواقفه من أتباع الطرق الصوفية وانحرافاتهم العقدية والفكرية، مع علمه بأن السلطات الفرنسية كانت تقف خلفهم تؤيدهم بالمال والمناصب.
وأما القصص والأحداث التي ظهرت فيها رباطة جأشه وشجاعته ؛ فمنها أن الشيخ عبد الحميد كان يركب سيارة عامة، ورآه طبيب فرنسي يعرفه فأحب أن يركب الشيخ معه في سيارته الخاصة، وفي الطريق اصطدمت سيارة الطبيب الفرنسي بسيارة أخرى، فأصيب الطبيب بالرعب وصرخ صرخة ظن منها الشيخ أن روح الطبيب قد خرجت، ولم يبدُ على وجه ابن باديس أي تأثر، وعلل الشيخ ذلك بفراغ قلبه ـ الفرنسي ـ من الإيمان لأن الإيمان يحفظ على المؤمن ثباته واطمئنانه عندما تحل به الملمات.
وإذا ذكرنا شجاعته فلابد من ذكر موقفه حين كان في وفد المؤتمر الإسلامي الذي قابل رئيس الوزراء دلاديبه، فتحدث المسؤول الفرنسي إلى الوفد مهدداً بقوة فرنسا، واشتد النقاش مرة بين رجال الوفد وبين رئيس الحكومة إلى درجة أنه احتد وجابه الوفد بقوله: لا تنسوا أيها السادة أن فرنسا معها المدافع، فوجم القوم إلا ابن باديس الذي ما كاد يسمع ذلك القول بواسطة الترجمان حتى جابه رئيس الحكومة أن الجزائر معها الله، وانتقل الوجوم من الوفد إلى الرئيس.
وبالفعل كان فرنسا معها المدافع، والجزائر معها الله، واستمر اغترار فرنسا بالمدافع واستمر اعتزاز الجزائر بعون الله، وتغيرت الأحوال وتقلبت السياسة إلى أن نفخ الجزائريون الأبطال في صُور الثورة العارمة، يوم فاتح نوفمبر المجيد اقتحموا الميادين باسم الله وقابلتهم فرنسا الاستعمارية بالمدافع فما أغنى ذلك شيئاً، ونصر الله، بفضل الشهداء والتضحية، الذين قاموا باسمه {يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ *} [محمد : 7].
المراجع:
1- مسند الإمام أحمد (1 / 114).
2- علي محمد الصلابي، كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس، ج (2)، دار ابن كثير، دمشق –بيروت، ط(1)، 2016م، ص. ص (155-161).
3- مازن صلاح مطبقاني،عبد الحميد بن باديس العالم الرباني والزعيم السياسي، ص.ص (36-37)، (41).
4- محمد الدراجي، عبد الحميد بن باديس بعيون العلماء والأدباء،ص.ص (128-129)، (156-159).