الشيخ عبد المجيد حيرش

بقلم: محمد الهادي الحسني-

طلب مني بعض الإخوة أن أكتب كلمة عن الشيخ عبد المجيد حيرش، رحمه الله، الذي سماه الأستاذ طاهر وطار “عبد المجيد بوترواح” في روايته المسماة “الزلزال”.

ولد الشيخ عبد المجيد حيرش في نواحي “فرجيوة” في 1910، في أسرة “اشتهرت بثلاث خصائص ومميزات هي التدين، وحب العلم والعلماء والغنى”، (محمد الصالح الصديق: في شريط الذكريات. ج1. ص192).

بعدما نال نصيبا من العلوم، وحفظ القرآن الكريم توجه في سنة 1928 إلى تونس، ومكث هناك طالبا للعلم إلى سنة 1935، ليعود إلى الجزائر حاملا شهادة “التحصيل”.

بعد عودته من تونس اصطفاه الإمام ابن باديس ليساعده في التعليم، واستمر على ذلك إلى أن لبّى الإمام ابن باديس نداء ربه.

رجع الشيخ حيرش إلى بلدته، وفتح “مدرسة” يعلم فيها أبناء منطقته – وكان “والده اشترط عليه أن لا يأخذ لقاء عمله أجرا” وهو في الجامع الأخضر، أو حين كان في التعليم الحر. (محمد الحسن فضلاء: من أعلام الإصلاح. ج1. ص 151).

وفي 8 ماي 1945 أصابه وأسرته ما أصاب كثيرا من الجزائريين على يد الوحوش الفرنسيين، الذين استنسروا على المواطنين العزّل، بعدما كانوا “بغاثا” أمام الجيش الألماني، وقد سجن الشيخ عبد المجيد في عدة سجون، وانتهبت أموال أسرته.

وعندما أسّس معهد الإمام ابن باديس في عام 1947 اصطفاه الإمام محمد البشير الإبراهيمي ليكون أحد الأساتذة الذين قام على أكتافهم ذلك، فقد “كان عالما بحق، وخاصة في فنون اللغة العربية”، (محمد الصالح الصديق: المرجع السابق. 1/208).

وقد استمر يؤدي ما ائتمن عليه من تعليم، ووعظ في الأوساط الشعبية.. وتوعية للمواطنين إلى أن أعلن الجهاد في نوفمبر 1954، فاكتشفت فرنسا تعاونه مع المجاهدين، فسجن من جديد، وما أن أطلق سراحه بعد التعذيب الرهيب حتى أمرته قيادة المجاهدين بالخروج إلى تونس، حيث قام بكل ما أوكل إليه من مهام كالإشراف على الطلبة ومراقبتهم ماديا، وأدبيا، وأخلاقيا. (أحمد توفيق المدني: حياة كفاح. ج.3. ص 689).

في نهاية صائفة 1962 انتقلت من مدينة جيجل إلى مدينة الجزائر لأسجل في أي مؤسسة تعليمية.. وهو ما وقع، حيث انتسبت إلى “مدرسة الثورة” في حي “لا رودوت” التي كان يديرها الشيخ المكي عبادة – رحمه الله –وقد اشتركت في آخر تلك السنة في مسابقة للدخول إلى السنة الأولى والثانية من التعليم المتوسط.

كان الامتحان واحدا بالنسبة للسنتين، ومن كان إنشاءه حسنا سجل في السنة الثانية..

وفقني الله – عز وجل – فكنت من المقبولين في السنة الثانية، وكانت الثانوية (المتوسطة) تسمى “ابن خلدون” التي توجد في حي “بلكور”، وكانت مدرسة تابعة لجمعية العلماء، وهي المدرسة التي اختطف الفرنسيون الأنذال منها الإمام الشهيد العربي التبسي – رحمه الله-.

اتصلنا بالمتوسطة، وخطب علينا شخص، طويل القامة، يميل إلى البدانة، وكان فصيحا، وأخبر من نجحوا إلى السنة الثانية بأنهم سيسجّلون في السنة الأولى، لقلة عددهم – كنا حوالي 15 تلميذا – ولنقص عدد الأساتذة.. فقبلنا الأمر.. وبدأنا الدراسة حوالي 15 جانفي 1963.

علما أن ذلك الشخص الذي خطب علينا هو المدير، وأن اسمه عبد المجيد حيرش، الذي كان يعاملنا معاملة الأب لأبنائه، خاصة – كما علمنا فيما بعد – أنه لم يكن له أولاد ذكور.

لم يكن عدد الأساتذة يتجاوز ستة أساتذة، هم سوريان (إبرهيم دلول، عدنان كردي)، وثلاثة جزائريين (محمد كحلة، وجموعي مشري، والشريف…) وتونسي (محمد بدوي) ومراقب عام يسمى “بوراس”..

كان المدير، الشيخ عبد المجيد حيرش، في الثانية والخمسين من عمره، ورغم بدانته النسبية كان نشيطا، يتنقل بين الأقسام، يتفقد الأمر، فقد كان مديرا ومفتشا، وأستاذا في بعض الأحيان إذا دخل قسما من الأقسام ووجد الدرس في النحو أو في الأدب..

وكان حريصا على سلامة لغتنا، وقد سخر مرة من المطرب محمد عبد الوهاب لأنه يقول في إحدى أغانيه “لم فُتُّكم” لأن أداة الجزم (لم) لا تدخل على الفعل الماضي.

ولأول مرة استمع على لسانه إلى نقد “للحضارة الأوروبية” التي امتهنت المرأة، واستعملتها في أحط الأعمال وأقساها من غير مراعاة لطبيعتها وأنوثتها.. ويستوي في ذلك الرأسمالية المتوحشة، والشيوعية المتحجرة..

كان الشيخ عبد المجيد حيرش قوي الشخصية، أنيق الهندام، جهوري الصوت، طيب القلب، واسع الصدر.. ومما أذكره أنه دخل علينا مرة في القسم، ولم يكن معنا أي أستاذ، فأحدثنا بعض الفوضى، وشوّشنا على التلاميذ في الأقسام الأخرى، ولست أدري ما هو السبب الذي جعله يخرج مغاضبا وهو يقول: سأذهب لآتي بوزير التربية..

لم يمض إلا نصف ساعة ونيف حتى دخل علينا الشيخ عبد المجيد ومعه وزير التربية آنذاك، وهو الأستاذ عبد الرحمن ابن حميدة، رحمه الله، ولم تكن الوزارة بعيدة عن مكان الثانوية، وعندما دخل الوزير إلى القسم وجدنا في فوضى عارمة، وكنت واضعا رجليّ على الطاولة التي أمامي فجذبني من أذني.. وكم كان الأستاذ ابن حميدة يضحك عندما أذكره بهذه الحادثة بعد أن صرت “شيئا مذكورا” نوعا ما.

كان الشيخ عبد المجيد “خلدوني” الفزعة والتوجه، ولعله “تخلدن” تأثرا بالإمام ابن باديس، الذي يذكر بعض تلاميذه أنه درّس “المقدمة” لابن خلدون، و”حضارة العرب” للمفكر الفرنسي غوستاف لربون.. (محمد المنصوري الغسيري: صورة من حياة ونضال الزعيم الإسلامي والمصلح الديني الكبير الشيخ ابن باديس: تقديم وتعليق الدكتور مسعود فلوسي. ص91).

وتظهر  النزعة الخلدونية للشيخ عبد المجيد في حرصه الشديد على تسمية كل مؤسسة أدارها (بلكور – القصبة – السيدة الإفريقية – الحمامات) باسم “ثانوية ابن خلدون”.

كما كان من أنصار المدرسة الأصيلة في الأدب العربي والفكر الإسلامي، ويتجلى ذلك في المقال الذي نشره في عدد جويلية من عام 1937 من مجلة الشهاب، بمناسبة وفاة أحد أساطين هذه المدرسة، وهو مصطفى صادق الرافعي.

وصفه الأستاذ محمد الصالح الصديق بصفات جميلة وجليلة منها “سعة الثقافة، وغزارة العلم، ونبل النفس، وعلو الهمة، وكرم الطبع، وصدق الوطنية”. (في شريط الذكريات. 1/193).

مما أهداه لي الشيخ عبد المجيد حيرش في نهاية السنة الدراسية (1962-1963) ثلاثة كتب لايزال اثنان منها في مكتبتي هما: “الدستور القرآني” للفلسطيني محمد عزة دروزة، و”في منزل الوحي” للمصري محمد حسين هيكل، والثالث الذي ضاع مني هو “أبو القاسم الشابي وصداه في الشرق” للتونسي أبي القاسم كرّو.

لبّى الشيخ عبد المجيد حيرش نداء ربه في السادس من شهر أفريل من سنة 1985، وقد كنت أراه أحيانا في مكتبة توجد في بداية شارع عبان رمضان قرب فندق السفير، وكم كنت أود أن أحدثه، وأذكره بأيام ثانوية ابن خلدون في 1963، ولكنني لم أفعل لأنه كان متأثرا مما لحق به من ظلم معنوي جراء ذلك “الزلزال”، وظلم مادي من تأميم لأراضيه التي ورثها عن أسلافه.

رحم الله الشيخ عبد المجيد، وأدعو إلى إطلاق اسمه على مؤسسة تربوية، فهو أحق وأولى، وقد ترك عملا صالحا، وعلما نافعا، وذرا طيبا.. وكنا على ذلك شهودا..

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.