عبد الحميد بن باديس خليفة بن خلدون ونبوغه العلمي المبكر
بقلم: د. علي الصلابي-
تلقى الإمام ابن باديس تعليمه الأولي في بلدته بالجزائر، ثم شد الرحال إلى حاضرة الزيتونة حيث أجري له امتحان لتحديد المستوى أظهر فيه نبوغاً علمياً مبكراً ونضجاً فكرياً متميزاً، وثقافة إسلامية واسعة وعميقة ولغة عربية سليمة، تدل على أنه يملك زمامها، أبهر ممتحنيه وجذب انتباههم إليه وإلى مخزونه المعرفي، فخوّلوا له بالإجماع الالتحاق بجامع الزيتونة والدراسة بالصف ما قبل الأخير للحصول على شهادة التطويع، وحددوا له الكتب والمواد التي يزاولها بالزيتونة ودونوها له في دفتره، ومنها: «الأشموني» على الخلاصة في النحو، و«السقيح» وشرح المحلى في أصول الفقه، و«لامية الأفعال» بالشرح مع «شرح الزنجاني» في الصرف، و«مختصر السعد» في الأول في البلاغة، لقراءة «التهذيب» في المنطق.
مكث الإمام في تونس أربع سنوات كاملة قضاها دارساً ومدرساً وهي فترة يعتبرها الإمام منعطفاً هاماً في حياته العلمية والتكوينية حيث يقول عنها:
ما كنت لأنسى أربع سنوات قضيتها بالزيتونة، شطرها متعلماً وشطرها متعلماً ومعلماً، فكان لي منها آباء وإخوة وأبناء، فأكرم بهم من آباء وأكرم بهم من إخوة وأكرم بهم من أبناء.
كان جاداً نشيطاً في تحصيله للعلم والاتصال بالشيوخ والعلماء هناك، حتى أنه استطاع على غرار الطلبة المتفوقين، اختصار مراحل الدراسة التي تستلزم قضاء الطالب سبع سنوات حسب البرامج المقررة إلى ثلاث سنوات فقط.
وهذه القدرة الفذة وهذا النبوغ عند ابن باديس؛ إنما يرجع سببهما أولاً إلى صفاته الذاتية التي فطره الله عليها وحباه بها من فطانة وذكاء وقوة استيعاب للمعرفة، وثانياً إلى ما حصله من تكوين علمي قاعدي بمسقط رأسه، إذ أهلته الدروس التي تلقاها على استاذه لونيسي بقسنطينة للحصول على مستوى السنة الرابعة من التعليم الزيتوني دفعة واحدة.
التقى ابن باديس بكثير من علماء الزيتونة آنذاك، وتلقى عنهم علوماً مختلفة كل بحسب تخصصه العلمي، فأخذ عن كل من الشيوخ محمد النخلي، الطاهر بن عاشور، الخضر بن الحسين، أبي محمد بلحسن بن الشيخ المفتي، محمد النجار، محمد الصادق النيفر، سعد الفياض السطايفي المصلح المجدد، محمد ابن القاضي، البشير صفر المؤرخ المجدد.. وغيرهم كثير.
اتصاله بالجمعية الخلدونية:
لم يترك الإمام فرصة للاتصال والتتلمذ على شيخ أو الذهاب والانتقال إلى مكان يسمع ويعلم عنه أن فيه خيراً له إلا قصده واتصل به وانتقل إليه وغرف منه ما وجد عنده، ولذلك نجده يتصل بالجمعية الخلدونية التي كانت تخصص دروسها لتلاميذ جامع الزيتونة لاستكمال معلوماتهم في المواد العلمية العصرية كدروس الحساب والمساحة والجغرافيا والتاريخ والكيمياء واللغة الفرنسية ومبادئ حفظ الصحة والطبيعيات.
ولم يكن مستواها العلمي زهيداً وإنما كان يتطوع بإلقاء هذه الدروس خيرة الأساتذة بمن فيهم حافظ الجمعية الخلدونية نفسه الشيخ البشير صفر.
وابن باديس كباقي أقرانه وزملائه من تلاميذ الزيتونة كان يتردد على الجمعية، سواء بصورة انتظامية أو غير انتظامية، إذ كانت التراتيب الإدارية لا تمنع الطلبة من الإقبال التلقائي، وحضور الدروس بصفة فردية حرة.
لقد تطورت الخلدونية بسرعة إلى معهد متكامل للتعليم العالي بكل ما تعنيه الكلمة، وكانت الموضوعات التي تدرسها هي العلمية أولاً، ثم سرعان ما يقدم علم التاريخ على الرياضيات والجبر والفيزياء أو الكيمياء، وكان من الواضح أن أساتذتها كانوا مطلعين على بقية العالم الإسلامي، ولكن معرفتهم بأوروبا جعلتهم يتميزون على مدرسي الزيتونة. وفي المبنى الذي ضم الخلدونية خلف القصبة وعلى بعد 200 ياردة من مسجد الزيتونة درسوا موضوع نهضة المسلمين وانحطاطهم، ومسألة علوم الأوروبيين، والتأثير الذي كان للفرنسيين والبريطانيين على ديار المسلمين.
لقد عرفت الخلدونية في تونس بميولها التجديدية، وقد وفرت مكتبتها مؤلفات حديثة حول مدارس الإصلاح في مصر وبلاد الشام، وكان أعضاؤها متأثرين بأفكار العروة الوثقى التي كان يصدرها جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده.
لقد ترد الإمام عبد الحميد بن باديس على الخلدونية بانتظام، وأقبل بلهف على صحف ومجلات لم يكن يمكن للزيتونة أن تحث على قراءتها قطّ.
وقد أصبحت الأمثلة على مفاسد فرنسا من خلال الأراضي الإسلامية واضحة، وكان لابد من صدّ أوروبا بسبب تهديدها لبلاد المسلمين.
لقد وجد عبد الحميد بن باديس أن أعضاء الخلدونية كانوا أكثر معرفة بالأوضاع في الجزائر مما كان يعرف هو نفسه، لقد تأثر الإمام عبد الحميد بالأفكار الجديدة والجذابة والإصلاحية.
مكث ابن باديس بالزيتونة أربع سنوات قضاها في التحصيل الجاد لكل ما استطاع من علوم ومعارف وثقافة، والاتصال المستمر بكل شيخ أو استاذ يتوسم أو يسمع عنه خيراً في العلم والدين، وكان لا يشارك الطلاب عبثهم ولهوهم، بل كان يحب الخلوة في حجرته للمطالعة والتفكير.
وكان له إصرار عظيم على المطالعة والتحصيل، فقد روى أحد تلاميذه عنه: كنت أسهر الليالي للدراسة والمطالعة مستعيناً ببعض المنبهات، لكني حين أحس أن النوم يغالبني ولم تعد المنبهات تنفع في دفعه عمدت إلى مطرح أضعه على الأرض وأضع مرفقاي على الأرض أو أحدهما فيلامس الآجر بارداً فاستيقظ وأجدد مطالعتي أو مراجعتي حتى أفرغ منها، وكمحصلة لجهده واجتهاده العلمي والدراسي بالزيتونة كان ترتيب الإمام: الأول بين جميع الطلبة الناجحين، كما كان الطالب الجزائري الوحيد الذي تخرج من الزيتونة في تلك الدورة، ونشرت ذلك الصحف التونسية.
وفي سنته الأخيرة التي قضاها أستاذاً ومعلماً بالجامع توثقت صلته العلمية بأستاذية الشيخين محمد النخلي، ومحمد الطاهر بن عاشور والتي كانت قد بدأت من قبل. هذه الصلة التي تركت بصماتها منطبعة في شخصية الإمام والتي يقول عنها: فاتصلت بهما عامين كاملين، كان لهما في حياتي العلمية أعظم الأثر.
وهكذا فقد كان الإمام ابن باديس في رحلته إلى تونس تلميذا نابغاً، ومعلماً مخلصاً، جمع بين العلوم الشرعية واللغوية والعلوم الحديثة بسبب تردده على المدرسة الخلدونية.
المراجع:
1- علي محمد الصلابي، كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس، ج (2)، دار ابن كثير، دمشق –بيروت، ط(1)، 2016م، ص. ص (105-106).
2- محمود قاسم، الإمام عبد الحميد بن باديس: الزعيم الروحي لحرب التحرير الجزائرية، دار المعارف، القاهرة، 1968، ط (1)، ص 16.
3- محمد صالح الجابري، النشاط العلمي والفكري للمهاجرين الجزائريين بتونس: 1900-1962، الدار العربية للكتاب، 1983 ص.ص (87-88).
4- أندري ديرليك، عبد الحميد بن باديس (1889-1940م)، مفكر الإصلاح وزعيم القومية الجزائرية، رسالة دكتواره مقدمة لمعهد العلوم الإسلامية بجامعة ما قيل بكندا، مارس 1971، تقديم وترجمة، مازن مطبقاني ص، 159.
5- مجلة الشهاب ج 10 م 12 ص 440.