جهود جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في خدمة السنة النبوية
بقلم: سيداتي ولد محمد عبد الله-
تعتبر جمعية العلماء المسلمين الجزائريين كما يراها مؤسسوها "جمعية إسلامية في سرتها وأعمالها، جزائرية في مدارها وأوضاعها، علمية في مبدئها وغايتها، أسست لغرض شريف، تستدعيه ضرورة هذا الوطن وطبيعة أهله، ويستلزمه تاريخهم الممتد في القدم إلى قرون وأجيال، وهذا الغرض هو تعليم الدين ولغة العرب التي هي لسانه المعبر عن حقائقه للكبار في المساجد التي هي بيوت الله وللصغار في المدارس على وفق أنظمة لا تصادم قانونا جاريا ولا تزاحم نظاما ما رسميا ولا تضر مصلحة أحد، ولا تسيء إلى سمعته فجميع أعمالها دائرة على الدين، والدين عقيدة، اتفقت جميع أمم الحضارة على حمايتها وعلى التعليم والتعليم مهنة، واتفقت جميع قوانين الحضارة على احترامها وإكبار أهلها".
فمتى تأسست؟ وكيف كانت الظروف المواكبة لذلك؟ وما أهم أهدافها؟ والجهود المضنية التي بذلت خدمة لسنة رسول الله صلى الله عليو وسلم؟.
لا شك أن جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، مرت بإرهاصات قبل إنشائها، حيث قام لها رجال أقوياء لا يخافون في الله لومة لائم، بذلوا الغالي والنفيس، من أجل برقيق تلك الغاية، يقول الدكتور أبو القاسم سعد الله: «إن ميلاد أي حركة، هو عملية طويلة لا بخلو من ألم، قبل أن يستطيع الناس رؤيتها«(1)، ويقول الدكتور أحمد الخطيب: «... وبالفعل فإن ميلاد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين كان عسير الوضع، شاق الظهور، ذلك أن إنشاء أي جمعية إصلاحية في بلاد كالجزائر، تخضع لاستعمار ضاغط يحصي على الناس أنفاسهم، لم يكن بالأمر الهين، ولكن ما جعل الأمر ممكن، هو وجود أشخاص مؤمنين إيمانا راسخا بالإصلاح، متأثرين بالوضع المتردي، الذي يعانيه الشعب، ولم يعد من دواء لهذا الوضع سوى النهوض بالمجتمع الجزائري، نهوضا يستهدف جميع نواحي الحياة«(2).
وإذا كان ميلاد الجمعية عسرَا، فقد تلقاه المجتمع الجزائري بكل قبول وارتياح، وأمل في غد أفضل، ومستقبل أحسن، لنشأة نهضة حضارية، وقفزة نوعية، للخروج مما يعانيه الشعب بسبب الطغيان الفرنسي وأعوانه، فقد أقلقت هذه الجمعية مضجعه، ونغصت عليه وجوده(3).
وفي سنة 1931 م، وُجهت دعوة لعلماء القطر الجزائري، للحضور لنادي الترقي، بغية مناقشة تأسيس الجمعية، فلبى الدعوة كثير، واعتذر البعض، واجتمعوا في اليوم الخامس من شهر نوفمبر من نفس السنة، بناء على دعوة اللجنة التأسيسية، المؤلفة من جماعة من فضلاء العاصمة، برئاسة عمر إسماعيل، وجرى الاجتماع في شكل جمعية عمومية لسن القانون الأساسي للجمعية، وعينوا للرئاسة المؤقتة السيد أبو يعلى الزواوي، وللكتابة السيد الأمين العمودي، وتم وضع القانون الأساسي، وقرئ على الحاضرين، وأُقر بالإجماع من طرف أعضاء الجمعية، وفي اليوم نفسه، تم انتخاب الهذيئة الإدارية طبقا لمنطوق إحدى مواد القانون الأساسي(4).
وحينما نشأت الجمعية عهد ابن باديس إلى الإبراهيمي أن يضع لهذا قانونا أساسيا، فوضعه في ليلة وقرأه عليه صباحا، كما يقول الإبراىيمي نفسه (5).
وقد جاء في فصلها الأول: أسست في العاصمة الجزائر، جمعية إرشادية تهذيبية تحت اسم: (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين(، وكان شعارها الذي رفعته : (الإسلام ديننا، والعربية لغتنا، والجزائر وطننا)(6).
كما انتخب الشيخ ابن باديس رئيسا لها في غيابه، إذ لم يحضر في اليوم الأول، ولكن رغم ذلك انتخبه العلماء بالإجماع رئيسا للجمعية، كما انتخب خيرة العلماء من أصحاب ابن باديس لمجلسها الإداري، من علماء القطر الجزائري الحبيب(7).
هكذا تأسست الجمعيّة، وتشكل مجلسها الإداري المنبثق عن الاجتماع التأسيسي، على النحو التالي: عبد الحميد بن باديس رئيساً، محمد البشير الإبراهيميّ نائباً عنه، محمد الأمين العمودي كاتباً عاماً، الطّيّب العقبيّ نائباً للكاتب العام، مبارك الميلي أميناً للمال، وإبراهيم بيوض نائبا لأمين الما. وقد ضمت الهيئة أعضاء مستشارين: المولود الحافظي، الطيب المهاجي، السعيد اليجري، مولاي بن الشريف، حسن الطرابلسي، عبد القادر القاسمي، محمد الفضيل اليراتني.
وىكذا برزت جمعية العلماء إلى الوجود رسميا في الخامس من شهر مايو 1931 م، وقد اتحذت نادي الترقي -الذي أسس سنة 1926 م بالعاصمة- مقرا لها، فكانت تعقد فيه اجتماعاتها، وتقيم فيه مؤتمراتها السنوية، وتمارس فيه نشاطها العام(8).
أولا: أهداف الجمعية:
إن مبادئ جمعية العلماء ومنذ تأسيسها، كانت مبنية على أسس الشرع الحنيف الذي اتخذه المصلحون دستورا لهم، ولذلك اعتَبر الكُتاب الحركة الإصلاحية التي قادتها جمعية العلماء الكريدة، الباعث الحقيقي والعامل الرئيسي الأول للنهضة الجزائرية، لأنها جاءت بإصلاح شؤون الفرد في المعتقد والسلوك من جهة، وإصلاح الأسرة والمجتمع من جهة أخرى، على منهج الكتاب والسنة(9)، فجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ومنذ تأسيسها، اقتحمت ميادين محفوفة بالمخاطر والمزالق، فحاربت أول ما حاربت الاستعمار وأنصاره، كما حاربت البدع والضلالات الدينية التي استغلها الاستعمار تحت ستار الطرقية، حتى تمكنت من تطهير الدين من الخرافات والشوائب التي ألحقها به المبتدعة، ثم أخذت الجمعية في الحملة التعليمية العربية والإسلامية الكبرى، فوفقها الله إلى تكوين ذلك الجيل الصالح، الذي خرجته مدارسها، والذي هو قوة الإسلام والعروبة في البلاد(10).
والدارس لتاريخ الجمعية، يرى أن الآراء تعددت حول الأهداف والغايات، التي من أجلها أنشئت، وعملت لها طول حياتها، فلا أحد ينكر ما قامت به الجمعية من إصلاح، وقد ظهرت نتيجة ذلك جليا، حيث حققت جل الأهداف التي قامت من أجلها، وتتلخص مبادئ الجمعية في الشعار الذي ينسب إلى الإمام ابن باديس، وهو: (الإسلام ديننا، والعربية لغتنا، والجزائر وطننا)(11)، كما وضعت الجمعية دعائم المقاومة الفكرية الإسلامية العربية، على قواعد واضحة قامت، ورسمت لها طريقا سليما، بعيدا عن دوائر السياسة ومناورات الأحزاب(12) وقد كُتب الكثير حول أهداف الجمعية، واستطردوا في شرح تلك الأهداف وبيانها، ومن بينهم الأستاذ الشيخ خير الدين، وهو أحد أعضائها، يرى أن أهدافها تتحقق من خلال الانتساب إليها، والذي يعني التعاقد والتعاون على تنفيذ المرامي التي تسعى إليها الجمعية، وأصولهىذه المبادئ هي:
- نشر الإسلام الصحيح، بإحياء الكتاب والسنة وتعليمهما للناس، حتى يعود لهما سلطانهما على نفوس المسلمين، ونشر فضائلهما وآدابهما.
- وإحياء اللغة العربية، والتاريخ الإسلامي، ورجاله الغر الميامين(13)، كما لخص الإبراهيمي مبادئ الجمعية بقوله:» إن جمعية العلماء تعمل للإسلام بإصلاح عقائده، وإحياء آدابه وتاريخه، وتطالب المستعمر بتسليم المدساجد والأوقاف إلى أهلها«(14).
ومهما كان التباين والاختلاف حول الأهداف، فقد اتفقوا جميعا على الجوهر، من خلال المنجزات التي تحققت تحت لواء الجمعية، باستثناء بعض الخصوم، الذين كانوا يرون موتهم في استمرار حركة العلماء المصلحين(15)، ورأى البعض حصر أهدافها في التعليم العربي، ومحاربة الخرافات، وتطهير الإسلام مما علق به من شوائب، خلال العصور المتأخرة، بينما ذهب البعض الآخر إلى ربطها بالنشاط السياسي، ومعاداة الاستعمار، وفكرة تكوين الدولة الجزائرية، وزعم فريق ثالث بأن العلماء هم مجموعة من أنصاف المثقفين، جاؤوا من الخارج(16)، ولعل ما ذكره الشيخ البشير الإبراهيمي من أن الأهداف تتلخص في نقطتين أساسيتين هما:
- إحياء مجد الدين الإسلامي بإقامة شرائعه، كما أمر الله ورسوله صلى الله عليه وسلم، وذلك بتصحيح أركانه الأربعة: العقيدة، والعبادة، والمعاملة، والخلق.
- وأما إحياء اللغة العربية، فلكونها لسان هذا الدين، ومترجم أسراره، ولغة القرآن والسنة(17).
وزعم محمد بن حمو أن هناك هدفا آخر، وهو محاربة كل ما هو دخيل على الأمة الجزائرية، وخاصة تلك الثقافة الفرنسية، والمناهج التي أدخلها الاستشراق والتبشير، كونهما ركيزة الاستعمار في الجزائر، أما الشيخ محمد الميلي، فقد لخص برنامج الجمعية في هدفين رئيسيين، هما: خدمة الإسلام ومقاومة الاستعمار(18).
ثانيا: جهود الجمعية في خدمة السنة المطهرة:
إن جمعية العلماء، ومنذ نشأتها، أولت أهمية خاصة للسنة النبوية والحديث الشريف، تجلى ذلك في المؤسسات والمدارس والمعاهد والزوايا التي أقامتها، وبذلت الغالي والنفيس في سبيل ذلك، رغم الصعوبات والعراقيل التي واجهتها، لكن مادام الأمر يتعلق بسنة رسول الله فكل المصائب دونها تهون .
يقول الإمام ابن باديس في الشهاب: »ولقد نال الحديث الشريف من الحيف والإعراض ما لم ينلو كتاب الله، فقد انصرف الناس عنو وضلوا، متشبثين بكتب ملئت بالأقوال الجدلية، والمحاكاة اللفظية، والألغاز التركيبية، فترى الرجل يقطع مدة من عمره يكد قريحته، ويستنفد قوة شبابه، وميعة فتوته في البحث عن الضمائر ومراجعتها، والأفعال ومفاعيلها، فلا يخرج من هذه المعمعة اللفظية إلا وقد تبلدت طباعه، ونضبت قريحته، واستعجم منطقه بعجمة الشراح وعلك الحواشي، ولوك التقارير، وهو في ذلك كله معرض عن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يهتدي بهما، ولا يرتوي من منهلهما الصافي فيكون كالمنبت لا أرضا قطع ولا ظهرا أبقى«(19).
وقد أصدرت الجمعية -نصرة للسنة- صحيفة (السنة النبوية المحمدية(، يقول الشيخ العربي التبسي:
»نحمد الله أن أعان جمعية العلماء، فتغلبوا على الصعاب الكثيرة التي قامت في وجوههم، وغالبوا الظروف القاسية، وقواهم ربهم بحبهم لدينه ونشر سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، على إصدار صحيفة سنية حقا، مهمتها من أجل المهمات، وغايتها من أنبل الغايات، وعملها من أشرف الأعمال«(20)، ولم تبرز هذه الجريدة حتى استيقنت خدمة السنة النبوية دينا عليها إن توفيه، وأن تعجل به، وإلا كانت الجمعية غير وفية للسنة، وأعضاء الجمعية بما أنهم قد تلقوا سننا، وتفهموا آثارا، وأحسنوا تأويلها، وتخريجها، وجب عليهم المضي قدما لتبليغ سنة النبي صلى الله عليه وسلم، والتي تشمل أقواله وأفعاله وتقريراته وشمائله صلى الله عليه وسلم، وإذا كان الأمر على ما ذكرنا، فإن جمعية العلماء التي تعمل لله ولدينه ولسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، بإصدارها هذه الصحيفة تحيي السنة وتعلمها للأمة داخل الأوطان الإسلامية وخارجها، ولكن متزعمي المسلمين قد ألهتهم شهواتهم، وشغلتهم حظوظهم عن خدمة الدين، حتى أن بعضهم لما رأى أن السنة تحول بينه وشهواته، حوَّل جهوده إلى مناهضة السنة والسنيين، والإصلاح والإصلاحيين، والجمعية سائرة على منهج السنة، تأتمر بأوامرها، وتنتهي عند نواهيها، وتوالي من تواليه السنة، وتحب من تحبه، لا تعرف للعصبية أهلا، ولا للطائفية لغة، وسيكون شعارها ودثارها ووصفها المميز لها شيئان: (البغض في الله والحب في الله من الإيمان، وعليكم بسنتي وسنة الخلفاء الراشدين(، وإن الجمعية -والمنصفين-يوقنون بأن هناك شرذمة تأبى إلا أن تعيش مُوثرة للبدعة، مجانبة للسنة، لأن في البدعة حظوظا واسعة، وشهوات مبثوثة، وأتباعا وأنصارا، إذا دعي للسنة تقوم قيامتهم، وتلتهب نار غيظهم على السنة ورجالها وكتبها، وأنصارها أيضا، ولكن ما على العلماء، أن بينوا للناس هذه السنة على حقيقتها، وأنكروا البدع، فالسنة وأهلها صابرون محتسبون على هذه المحنة التي ابتلوا بها، إحياء للسنة، وإخمادا للبدعة، فإن أغضبتكم السنة فلا أرضاكم الله، وإن الجمعية ليست ممن يعبد الله على حرف، فهي تعبد الله في السراء والضراء، وليعلم الجميع أنها تدعو إلى السنة، وليس من وراء هذه الدعوة مرتزق ترجوه، أو فوائد تنتظرها، وإنما همها أن يبقى الدين غضا طريا محفوظا ومعمولا به، وقد وجد من بني جلدتنا ومن أعيان المجتمع وخاصته، من سعوا لإسكات علماء الأمة، وإخلاء بيوت الله من الحكمة والدوعظة الحسنة(21).
ويشيد أحد أعضاء الجمعية، وهو عبد الله بن محجوب، أبو حفص، بخدمتها للسنة النبوية قائلا: »ففي هذا الوقت الذي انعكست فيه الحقائق، وصارت السنة فيه بدعة، والبدعة سنة، بل البدعة في نظرهم هي الدين وهي الأولى بالإتباع، وما سوى ذلك فهو ضلال، وهذا هو الجهاد الحق، وأسوتنا في ذلك هو رسول الله صلى الله عليه وسلم، والأسوة بالرسول صلى الله عليه وسلم هي الاقتداء به، وذلك باتباع سنته، وترك مخالفته في قول أو فعل، وإن محبة المرء لله ورسوله تكمن في طاعته لهما، ورِضاه بما أمرا، ومحبة الله لهم عفوه عنهم، وإنعامه عليهم برحمته، فيا أيتها الجمعية العلمية الداعية إلى السنة بألسنتها وصحفها: امضوا قدما، فإنكم منصورون، كما إنكم مهتدون - إن شاء الله، فلينظر هؤلاء القوم سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، ليروها كما هي، ثم يسيروا على ضوئها الوهاج، فإنهم لا يضلوا ما تمسكوا بها، أما والحالة هذه، جهل بالسنة، وبعد عن منهج رسول الله، صلى الله عليه وسلم، وارتكاب لما حرم الله ورسوله، فهذه الأمور لا ينبغي السكوت عنها، فإذا نادى أهل العلم ودعوا الناس إلى السنة الصحيحة، وُوجهوا بالرفض والعداوة، ومن واجب العلماء أن يبينوا السنة كما هي، من غير تبديل ولا تغيير، حب من أحب، وكره من كره، لا يضرهم من خالفهم، ولا يزيدهم ما أصابهم في سبيل إحياء السنة إلا صبرا وإقداما، حيا الله جمعية العلماء، وأعانهم على إحياء سنة خير الخلق صلى الله عليه وسلم، وقتل ما أحدثه المحدثون، وجزى الله علماءها المخلصين الأبرار، وعلى رأسهم الإمام عبد الحميد بن باديس، الذي قضى جلّ عمره جادا مجدا، خادما لكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فقد أمضى بضع عشرة سنة، فسر فيها القرآن، وشرح فيها السنة، وبالخصوص موطأ الإمام مالك، سبر أغواره، وحرر أسانيده، ورفع مراسيله، وأظهر أسراره، واكتسح به غيوم البدع وضلال العقائد، فهذب العقول، وحرك الهمم، وقوى العزائم، وفلج الصدور بأنوار السنة المحمدية، فانزاحت به دياجي الجهل، وشُبه الضلال، وعوامل الجمود، فاستفاقت الأمة من سباتها العميق، على ضوء السنة الوهاج، فاندفعت تعمل لصالح الدارين، على منهج كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وهدي السلف الصالح(22).
ثالثا: وسائل الجمعية في خدمة السنة النبوية
اهتمت جمعية العلماء بالوسائل التي تعين على النهوض بالأمة، والتي هي من صميم الأهداف التي تصبوا إليها، ولتعيد الأمة إلى دينها من جديد بعد فترة انقطاع ابتعدت فيها الأمة عن الفهم الصحيح لكتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم .
1- المساجد:
نظرا لأهمية التعليم في المسجد وتأثيره البالغ في الأمة، صممت الجمعية على إحياء تلك السنة التي سنها إمام النهضة الجزائرية الشيخ عبد الحميد بن باديس، ألا وهي التعليم المسجدي، ذلك التعليم الذيُ تلتزم فيه كتب معينة، في العلوم الدينية من تفسير، وحديث، وفقه، وأصول، وأخلاق، والعلوم الإنسانية، من قواعد ولغة وأدب، والعلوم الخادمة للدين من تاريخ، وحساب، وغير ذلك (23).
إن المسجد الذي يقوم بدور هام في أداء رسالة الجمعية، إضافة إلى كونه محلا للتعبد، كان مدرسة لمكافحة الأمية، ومركزا لنشر فكرة الإصلاح، وتوجيه المسلمين إلى ما يصلح دينهم ودنياهم، وقد شرح الإمام ابن باديس أهمية المسجد قائلا: »إذا كانت المساجد معمورة بدروس العلم، فإن العامة التي ترتاد تلك المساجد تكون على حظ وافر من العلم، ولتتكون منها طبقة متعلمة، صحيحة العقيدة، وهكذا ينشر العلم في الأمة ويكثر طلابه من أبنائها«(24)، وسمي التعليم مسجديا ،لأنه كان من فجر الإسلام إلى اليوم، ولا يزال التعليم متواصلا بالمساجد والكتاتتيب، وقد عينت الجمعية للتعليم مشايخ وأساتذة أكفاء(25).
وقد اتخذت الجمعية من المساجد أداة فعالة لتربية العامة وتعليمها، ونقطة التقاء بين أعضاء الجمعية، ومختلف الطبقات الجزائرية المسلمة، ومن أهم المساجد التي كانت مركز إشعاع حضاري، تساهم في تطوير العقلية الجزائرية: الجامع الأخضر، سيدي قموش، وسيدي عبد المؤمن، والمسجد الكبير، وسيدي فتح الله، وكل هذه المساجد موجودة بقسنطينة إلى اليوم، وفي هذه المساجد كان ابن باديس يعلم فيها الصغار نهارا والكبار ليلا(26).
وهذا التعليم المسجدي ضروري للأمة الإسلامية في حياتها الدينية، لأنها مفتقرة دائما إلى من يفتيها في النوازل اليومية، ويبين لها أحكام الحلال والحرام، وما بقي الإسلام محفوظا إلا بهذا النوع من التعليم، الذي من أصوله تفسير القرآن والحديث (27).
ونظرا للصلة الوثيقة بين هذه المؤسسات التعليمية وبين الجزائريين على مختلف أعمارهم، فقد كان ابن باديس يدعو إلى التعليم المسجدي، بل إنه أوقف جزءا من حياته للتدريس في هذه المؤسسات قصد تحسين هذا التعليم وتقويته، فكما أن المسجد يقترن بالصلوات، فإنه يرتبط أيضا بالتعليم(28).
وقد اتبع العلماء في المساجد طريقة السلف في التعليم والوعظ والإرشاد، يُعنون بكتاب الله وشرحه، وأخذ العبر منه، وكذلك صحيح السنة النبوية، وسيرة النبي صلى الله عليه وسلم، ثم سيرة الصحابة وهديهم، ثم حملة السنة في أقوالهم وأفعالهم .
هكذا كان أسلوب العلماء في التعليم الديني، وهو الاهتمام بمعانيه، والنفوذ إلى صميمه من أقرب سبيل يؤدي إليه، وبيان الطرق العملية والتطبيقية، وتجنب الخلافات، وكل ما يبعد عن تصور المعنى المقصود.
2- دار الحديث بتلمسان:
إن جمعية العلماء، وحرصا منها على نشر كتاب الله، وسنة رسوله صلى الله عليو وسلم، واللغة العربية التي ىهي المفتاح لفهم هذين الأصلين، رأت أن تنشئ دار الحديث بتلمسان، لتكون منبرا ومصباحا ينير الطريق للأمة.
وقد نوه الشيخ الرئيس، الإمام عبد الحميد بن باديس بذلك اليوم العظيم، وألقى بالدناسبة كلمة جاء فيها: »أما بعد: حياكم الله أبناء العروبة والإسلام، والعلم والفضيلة، حوربت فيكم العروبة، حتى ظُن أن قد مات فيكم عرقها، ومُسخ فيكم نُطقها، فجئتم بعد قرن، تصدح بلابلكم بأشعارها، فتثير الشعور والمشاعر، وتهدر خطباؤكم بشقاشقها، فتدك الحصون والمعاقل، ويهز كتابكم أقلامها فتصيب الكُلى والمفاصل«(29).
لقد عد الإمام ابن باديس دار الحديث رمزا للإسلام والعروبة، يرابط فيها المخلصون من أبناء الجمعية وتلاميذها، ينافحون ويصدحون عنها باللسان العربي، ويتغنون بأمجاد الماضي، ويتطلعون على الدستقبل بكل ثقة وعزم، وكيف لا تكون هذه الدار كذلك، وهي التي أصبحت ناديا ثقافيا نشطا، يستقبل علماء الجزائر والمغرب جميعا، على نحو يدعو للإعجاب(30).
وقد أسهمت هذه الدار في النهضة الأدبية والعلمية والثقافية بقسط وافر، لا يمكن إنكاره، وخرّجت عددا لا بأس به من الأدباء والشعراء والخطباء والكتاب، وكفى هذا المركز فخرا، -كما يقول مرتاض- أنه خرّج كثيرا من الطلبة الذين يشغلون اليوم وظائف محترمة في المجتمع الجزائري، والذين قدموا إسهامات عظيمة للثقافة واللغة العربية في هذا القطر(31).
3- المعهد الباديسي:
إن المعهد الباديسي، لم يكن وليد الصدفة، وإنما نتيجة جهود الجمعية العظيمة، التي بذلت في عهد الإمام ابن باديس، وما بعده، حيث سمي بالباديسي نسبة إلى الإمام عبد الحميد بن باديس، وهو أهم مدارس الجمعية، فبعد وفاة ابن باديس، في 16أبريل، سنة 1940 م، عَينت اللجنة الإدارية للجمعية الشيخ البشير الإبراهيمي رئيسا لها، وكان وقتها في سجن الاحتلال الفرنسي(32)، وعندما نزل الحلفاء إلى الجزائر 8 نوفمبر 1942 م، أطلقوا سراح العلماء والسياسيين من المعتقلات، إبداء لحسن النوايا، وبذلك أُفرج عن الإبراهيمي في أوائل سنة 1943 م، فعاد ليجدد نشاطه على رأس الجمعية، مستفيدا من جو الحريات التي كانت ترددها وسائل الإعلام(33).
ويمكن اعتبار عام 1944 م، عام العودة الحميمة إلى نشاط الجمعية التعليمي، فخلال هذا العام وحده، أسست الجمعية ثلاثا وسبعين مدرسة في مختلف مدن وقرى القطر الجزائري، وفي عام 1952 ، قررت جمعية العلماء لأول مرة في تاريخ نشاطها التعليمي، إحداث الشهادة الابتدائية، وكان العمل الجاري قبل ذلك هو أن يتابع التلاميذ دروسهم حتى السنة السادسة، دون أن يستطيعوا متابعة تعليمهم الثانوي بالجزائر، حينها عملت الجمعية على إنشاء ثلاثة معاهد ثانوية، في كل من قسنطينة، والجزائر، وتلمسان، ولكنها لم تتمكن من إنشاء سوى معهد واحد في قسنطينة، ليلتحق خريجو المدارس الابتدائية بالمعهد المذكور(34).
وكانت الجمعية ترمي من وراء تأسيس هذا المعهد، التمهيد لتأسيس وإنشاء جامعة على غرار جامعة الزيتونة، أو جامعة الأزهر، لتكون مركزا عاليا للثقافة العربية والإسلامية، لكن ذلك لم يتحقق لأسباب عديدة، وظروف معينة، وكان عدد لا بأس به من الأساتذة يباشر مهامه في المعهد، حيث كانوا من خيرة ما أنجبت الجزائر، انتقتهم الحركة الإصلاحية للتعليم، وقد وصفهم الدكتور مرتاض بأنهم كانوا أكثر عددا وأوفر مددا، وأوسع ثقافة، وأرحب أفقا، وأكثر نشاطا، واستيعابا للعلوم والمناهج الحديثة(35).
وكانت الدراسة في المعهد تمتد أربع سنوات، يخضع الطلاب خلالها لامتحان في كل نهاية سنة، للمرور إلى السنة الأعلى، أما طلابه كذلك فكانوا من خيرة أبناء الجزائر نشاطا وعلما وثقافة وجدا ومثابرة في التحصيل العلمي، والنهل من منابع المعرفة، فقد كان أحدهم لا يرضى إن يدر اليوم عليه من غير أن يحفظ فيه القصائد الطويلة، أو يقرأ الكتاب المتوسط الحجم في يوم واحد، لا يما في أيام العطلة الأسبوعية(36).
الخلاصة
يدكن أن نستخلص مما سبق أن تأسيس جمعية العلماء، رغم الظروف الصعبة والظروف الاستعمارية القاهرة، إلا أنها قاومت كل تلك المصاعب، حيث كان لذلك انعكاس واضح على الحركة الإصلاحية والعلمية والثقافية في الجزائر، وفي مدينة قسنطينة بالأخص، حيث كانت مقصد كل الجزائريين من طلاب العلم، وكل الأساتذة والمدرسين، بل يمكن القول بأن مدينة قسنطينة أصبحت تتمتع بحركة ثقافية واسعة، شملت تجارة الكتب وتأليفها، وطبع المنشورات الإسلامية والعربية بجميع أنواعها، كما ساهمت كثيرا في بث العلوم العربية والإسلامية، والحركة الثقافية، ونهضتها في الجزائر، كما عملت على تكوين جم غفير من الطلاب وإرسالهم الى معاهد وجامعات المشرق العربي، كالزيتونة بتونس، وكلية دار العلوم والأزهر بالقاهرة، وجامعات مشرقية أخرى، رغبة من الجمعية في تكوين إطارات عربية إسلامية مثقفة، تتمكن في المستقبل من المشاركة في قيادة الشعب الجزائري، والسير به نحو الأفضل.
كما كانت جمعية العلماء، منافحة عن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، كما عملت على نشر العلوم الخادمة للأصلين، واتخذت من المساجد والمدارس منبرا، من خلاله ترفع راية الإسلام.
سيداتي ولد محمد عبد الله، الجامعة الإسلامية بلعيون، موريتانيا.
الهوامش:
1- الحركة الوطنية، د.سعد الله، ج 2، ص 114
2- جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ودورها الإصلاحي في الجزائر ، د.أحمد الخطيب، ص 129 .
3- فنون النثر الأدبي في الجزائر ، د.عبد الملك مرتاض ، ص 3 .
4 - جمعية العلماء ودورىا الإصلاحي في الجزائر، ص 93 .
5- آثار الشيخ الإبراهيمي ، ج 1 ، ص 119 .
6- الحركة الوطنية ، د. سعد الله ، ج 2 ، ص 154 .
-7 الشهاب م 7 ج 5 ماي ، 1931 ص 343 .
8- الشيخ عبد الحميد بن باديس رائد الإصلاح و التربية في الجزائر ، تركي رابح، ص 67 .
9 - البصائر، عدد 32 ، 9جمادى الثانية 1367 ، ص 249 .
10 - هذه الجزائر ، أحمد توفيق المدني ، ص 167 .
11 - الشيخ عبد الحميد بن باديس رائد الإصلاح والتربية في الجزائر ، تركي رابح، ص 68 .
12 - الفكر والثقافة المعاصرة في شمال إفريقيا، أنور الجندي ، ص 42 .
13 - مذكرات الشيخ خير الدين، ج1، ص149، سجل المؤتمر الخامس لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين ، ص 160 .
14 - الشيخ عبد الحميد بن باديس رائد الإصلاح والتربية في الجزائر ، تركي رابح، ص 68 .
15 - جمعية العلماء ودورىا الإصلاحي ، ص 109 .
16 - الحركة الوطنية، أبو القاسم سعد الله ، ج 1 ، ص 90 .
17 - الشهاب، ج 8 ، م 13 ، 18 أكتوبر 1937 م، ص 450 .
18 - ابن باديس وعروبة الجزائر، محمد الميلي ، ص 25 .
19 - الشهاب، ج 9 ، م 14 ، 12 نوفمبر 1938 ، ص 495 .
20 - السنة النبوية المحمدية لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، الاثنين 22 ذي الحجة 1351 ، السنة الأولى، عدد 2 ، ص 6 .
21 - السنة النبوية المحمدية لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، الاثنين 22 ذي الحجة 1351 ، السنة الأولى، عدد 2 ، ص 5 .
22 - الشهاب، ج 8 ، م 13 ، 18 أكتوبر 1937 م، ص 450 .
23 - الشريعة النبوية، 29 ذي الحجة 1351 ى، ص 3 .
24 - الشهاب، ج 8 ، م 13 ، 18 أكتوبر 1937 م، ص 375 .
25 - البصائر، عدد 7 ، 4ذو القعدة، 1366 ى، ص 53 .
26 - جمعية العلماء ودورىا في تطور الحركة الوطنية، ص 164 .
27 - البصائر، عدد 7 ، 4ذو القعدة، 1366 ى، ص 54 .
28 - المصدر نفسو، ص 54 .
29 - الشهاب، ج 8 ، م 13 ، 18 أكتوبر 1937 م، ص 375 .
30 - نهضة الأدب المعاصر في الجزائر، عبد الملك مرتاض، ص 49 .
31 - الثقافة العربية في الجزائر بين التأثر والتأثير، د مرتاض، ص 154 .
32 - التعليم القومي، تركي رابح، ص 288 .
33 - التعليم القومي، تركي رابح، ص 213 .
34 - جمعية العلماء، وأثرىا الإصلاحي، أحمد الخطيب، ص 215 .
35 - المرجع نفسه، ص 215 .
36 - نهضة الأدب ا لعربي، د. مرتاض، ص 50