قضايا التحرير من الاستعمار في فكر الشيخ الإبراهيمي
بقلم: د. علي الصلابي-
كان هدف الشيخ الإبراهيمي من عمله الإصلاحي الكبير الذي بدأه مع ابن باديس ورفقائه في الدرب، هو إعداد الشعب الجزائري المسلم ليوم لا ريب فيه، هو يوم التحرر من الاستعمار الفرنسي الاستيطاني المتغطرس، الذي طال ليله، وطمَّ سيله، ولن يحرِّر الوطن الجزائري من نير الاستعمار إلا الشعب الجزائري، ولن يتمَّ ذلك إلا إذا حرَّرنا نفسية الشعب من الخنوع للمستعمر، ومن التبعية لثقافته، ومن اليأس من مقاومته.
وحينئذ سيتحوَّل هذا الشعب كله إلى جنود للكفاح، بل إلى أبطال تنشد الجهاد والاستشهاد، حين تُحلُّ العقدة، وتتحكم العقيدة، وتتضح الغاية، وتستبين الطريق، وتستحكم العزيمة، ويسود قبل ذلك كله الإيمان بالله، والثقة بنصره، والإيمان بأنَّ الحق مع الشعب المجاهد، وأنَّ الباطل مع العدو المستعمر، وأن الحق لابد أن ينتصر على الباطل: َ{بَلۡ نَقۡذِفُ بِٱلۡحَقِّ عَلَى ٱلۡبَٰطِلِ فَيَدۡمَغُهُۥ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٞۚ } [سورة الأنبياء:18].
كان لا بد من غرس العزة في الأنفس، واليقين في السرائر، والأمل في القلوب، والبغض للذل والخنوع، والشعور بالسيادة، والتوق إلى الحرية، وهذا ما فعلته «جمعية العلماء» ورجالها منذ تأسيسها، وفي مقدِّمتهم رئيس الجمعية الأول: الإمام عبد الحميد بن باديس ونائبه الإمام محمد البشير الإبراهيمي.
وكان الإبراهيمي ـ وهو أديب من الطراز الأول ـ له طابعه المتميِّز وأسلوبه الخاص، يرسل قلمه شواظاً من نار على الاستعمار ووحشيته، وأساليبه في القهر والإذلال، ومحاولة طمس الهَوية، وتغيير معالم الشخصية الجزائرية، وكانت «البصائر» تحمل دائماً ما يجود به قلم الشيخ من نفحات على الوطن ولفحات على الاستعمار.
ـ التحرير الذي ينشده الإبراهيمي:
والتحرير الذي ينشده الإمام الإبراهيمي: تحرير كامل شامل، يشمل تحرير الإنسان، وتحرير الأرض، وتحرير الفرد، وتحرير المجتمع، وتحرير الرجل، وتحرير المرأة، وتحرير العقل، وتحرير البدن، والتحرير من الاستعمار الخارجي والاستعمار الداخلي، هذا هو التحرير المنشود للإبراهيمي، وإن شئت قلت: إنه التحرير الذي تنشده جمعية العلماء، فما الشيخ في وقفته إلا لسانها المُعبر، وعقلها المفكر، وداعيتها المذكر.
ـ إشاعة كلمة «الحرية» في محيط الشعب:
وكانت كلمة «الحرية» من الكلمات المحظورة التي لا يجوز ذكرها في حديث ولا خطبة، ولا درس ولا محاضرة ولا كتاب، كأنَّما لا توجد في اللغة أصلاً، وكان الاستعمار حريصاً على إخفائها وإماتتها، فنشروها من قبرها، وأشاعوها بين الناس، وحبَّبوها إليهم.
يقول العلامة الإبراهيمي متحدثاً عن سنوات المخاض والتحضير للنهضة الكبرى:
كانت السنوات العشر ـ التي هي أوائل المرحلة الثالثة في تقسيمنا ـ كلها إرهاصات بتكوين جمعية العلماء، وكانت كلمات: الوطنية، والإسلام وتاريخه، والحرية والاستقلال ؛ قد وجدت مساغها في النفوس، وممرَّها إلى العقول، لأنها كانت تخرج من لسان ابن باديس وصحبه العلماء الشجعان، الموثوق بعلمهم ودينهم وأمانتهم، فيرنّ رنينها في الاذان، ويجاوز صَدَاها إلى الأذهان، بعد أن كانت هذه الكلمات محرَّمة في فقه الاستعمار ومهجورة في فقه الفقهاء، الذين نشؤوا تحت رهبة الاستعمار، ومجهولة عند بقية الأمة، فكان أوَّل من نطق بها على أنها لغة حيَّة صحيحة الاستعمال هو عبد الحميد بن باديس العالم الديني، واثنان أو ثلاثة من طرازه، ولكن ابن باديس كان يقولها لتلامذته في حِلَق الدرس ليطبعهم عليها، فلمَّا أحسَّ بالنجدة من إخوانه أصبحت هذه «الحملة» مطروحة للاستعمال في السوق العامة، ولذلك ارتاع لها الاستعمار وقدّر عواقبها الوخيمة عليه.
من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج2)