في ذكرى نابغة العلماء وفارس البيان الشيخ الإبراهيمي
عبد الحميد عبدوس

في ذكرى نابغة العلماء وفارس البيان الشيخ الإبراهيمي

بقلم: عبد الحميد عبدوس-

حلت يوم الجمعة الماضي 20 ماي 2022 الذكرى السابعة والخمسين (20 ماي 1965) لرحيل العلامة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي الرئيس الثاني لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين.

كان الشيخ الإبراهيمي ـ رحمه الله ـ موسوعة ثقافية ومنارة فكرية وموهبة أدبية وأحد قادة الحركة الإصلاحية، وأحد أبرز علماء العالم العربي والإسلامي في القرن العشرين، سخّر علمه وقلمه لخدمة وطنه والدفاع عن قضايا أمته وفي مقدمتها الإسلام واللغة العربية.
ولد البشير الإبراهيمي يوم الخميس 14 شوال 1306هـ الموافق 13 يونيو 1889م، في قرية رأس الوادي بولاية برج بوعريريج بالشرق الجزائري ونشأ في عائلة عريقة في العلم.
بدأ حفظ القرآن الكريم في الثالثة من عمره على يد عمه الشيخ المكي الإبراهيمي، الذي كان له الفضل الأكبر في نشأته وتربيته. في التاسعة من عمره أتم حفظ القرآن، وحفظ ألفية ابن مالك وابن معطي الجزائري، وألفيتي الحافظ العراقي في السير والأثر، وبعد وفاة عمه تولى تدريس طلبته وهو في الرابعة عشرة من عمره، وظل على ذلك حتى بلغ العشرين.
في سن الثانية والعشرين من عمره هاجر إلى المدينة المنورة على إثر والده متخفيا، ومر في طريقه بالقاهرة وحضر فيها عدة مجالس علم في الأزهر.
وفي سنة 1913 التقى في المدينة المنورة بصديق عمره، ورفيق دربه في العمل الإصلاحي والجهاد الوطني والعلمي الإمام عبد الحميد بن باديس، وتمخض هذا اللقاء المبارك في الأرض المباركة عن وضع خطة النهوض الوطني، وتهيئة الشعب الجزائري للإمساك بزمام مصيره واستعادة وعيه، وتحقيق كرامته، وقد ذكر الشيخ محمد البشير الإبراهيمي أنه طيلة مدة إقامة الإمام عبد الحميد بن باديس بالحجاز لم يفترقا، فكانا يقضيان الليل كله يحللان أوضاع الجزائر، ويحددان شروط ووسائل نهضتها.
ومر قرابة عقدين من الزمن لتتجسد خطة النهضة على أرض الجزائر بتأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في 5 ماي 1931،بعد سنة واحدة من احتفال المحتل الفرنسي بالذكرى المئوية لاحتلال الجزائر، وفي عام 1933 اختار ولاية تلمسان لممارسة نشاطه كممثل لجمعية العلماء في الغرب الجزائري ونائبا لرئيسها، وفي مدينة تلمسان أنشأ مدرسة «دار الحديث» عام 1937.
قبل أسبوع من وفاة الإمام عبد الحميد بن باديس، قامت السلطات الاستعمارية الفرنسية عام 1940 بنفي الشيخ محمد البشير الإبراهيمي إلى منطقة أفلو بالجنوب، وتم انتخابه رئيسا لجمعية العلماء المسلمين وتولى رئاستها عن بعد لمدة ثلاث سنوات، إلى حين إطلاق سراحه عام 1943.
وبعد مجازر لثامن ماي عام 1945 زُجّ بالشيخ الإبراهيمي مع عدد من القادة الوطنيين كفرحات عباس في السجن العسكري الفرنسي ولاقى ألوانا من التعذيب، وبعد إطلاق سراحه في 1946 أنشأ جريدة البصائر وتولى رئاسة تحريرها، كما أسس معهد عبد الحميد بن باديس بقسنطينة الذي يعد من مفاخر الجزائر في تاريخ التعليم العربي بالجزائر. وكانت فترة رئاسته لجمعية العلماء من أزهى فترات تاريخ جمعية العلماء حيث قام بتأسيس مراكز ومدارس خرجت قادة الثورة المسلحة وإطارات جبهة التحرير الوطني، وقد أنشأ 73 مدرسة وكتابا في عام واحد. ومع اندلاع ثورة التحرير الجزائرية في 1954، وجه نداء للشعب الجزائري في 15 نوفمبر 1954 لدعم الثورة المسلحة كما تميز بنشاطه الفعال والمثمر لدى الحكومات العربية لقبول بعثات طلابية جزائرية وللتعريف بالقضية الجزائرية ودعم الكفاح الجزائري، وزار كلا من مصر والسعودية والعراق وسوريا والأردن والكويت وباكستان.
بعد الاستقلال في 1962 ألقى أول خطبة في جامع كتشاوة وسط العاصمة الذي حولته السلطات الفرنسية إلى كنيسة أثناء احتلال الجزائر. وفي16 أفريل سنة 1964عبر كعادته بكل جرأة وتبصر وروح المسؤولية عن معارضته لتحريف مسار تطور الجزائر، مما دفع نظام الرئيس الراحل أحمد بن بلة ـرحمه الله ـ رئيس الجزائر آنذاك إلى وضعه تحت الإقامة الجبرية ،وتوفي البشير الإبراهيمي في منزله، وهو رهن الإقامة الجبرية يوم الخميس 20 ماي 1965 ـعليه رحمة الله ورضوانه ـ
ومن أقواله التي مازالت تحتفظ براهنيتها والقها: «من أراد أن يخدم هذه الأمة فليقرأها كما يقرأ الكتاب، وليدرسها كما يدرس الحقائق العلمية. فإذا استقام له ذلك، استقام له العمل وأمن الخطأ فيه، وضمن النجاح والتمام له. فإن تصدى لأي عمل يمس الأمة من غير درس لاتجاهها ولا معرفة بدرجة استعدادها كان حظه الفشل».
وعن فلسطين: «أيها العرب! إن قضية فلسطين محنة امتحن الله بها ضمائركم وهممكم وأموالكم ووحدتكم، وليست فلسطين لعرب فلسطين وحدهم، وإنما هي للعرب كلهم، وليست حقوق العرب فيها تنال بأنها حق في نفسها، وليست تنال بالهوينا والضعف، وليست تنال بالشعريات والخطابيات، وإنما تنال بالتصميم والحزم والاتحاد والقوة».
ولمعرفة المكانة العالمية السامية للشيخ البشير الإبراهيمي نقدم للقارئ مقتطفات وجيزة من شهادة مفكرين من قمم الفكر الإنساني في القرن العشرين عن الشيخ الإبراهيمي، والأولى هي للفيلسوف الفرنسي المسلم روجي (رجاء) غارودي الذي يروي بعض ذكرياته عن العلامة المجاهد الشيخ الإبراهيمي، فيقول: عندما أطلق سراحي، بقيت في الجزائر مدة عام، وخلاله التقيت برجل عظيم، كان له أكبر الأثر في نفسي -هو الزعيم الإسلامي الشيخ البشير الإبراهيمي، رئيس رابطة العلماء المسلمين الجزائريين – وقد قمت بزيارته، بصحبة عمّار أوزقان (صاحب كتاب: الجهاد الأفضل)، وفي مقر الشيخ الإبراهيمي لاحظت صورة كبيرة لرجل مهيب. ولأول مرة أتعرف على صاحبها، عندما شرح لي الشيخ البشير جوانب من حياة الأمير عبد القادر الجزائري -عدو فرنسا – كبطل محارب وعابد ناسك؛ بل كواحد من أعظم أبطال القرن التاسع عشر.
ويعتبر هذا الدرس من الشيخ الإبراهيمي – بالنسبة لي – المرة الثانية التي ألتقي فيها بالإسلام».
أما الشهادة الثانية فهي للداعية الإسلامي الكبير الراحل الشيخ محمد الغزالي حيث يقول إنه التقى بالشيخ البشير الإبراهيمي رئيس الجمعية في القاهرة في عام 1952، للمرة الأولى في المركز العام للإخوان المسلمين حيث ألقى الإبراهيمي محاضرة عن التواصل بين المغرب والمشرق.
ويضيف «كان لكلمات الشيخ الإبراهيمي دوي بعيد المدى، وكان تمكنه من الأدب العربي بارزاً في أسلوب الأداء وطريقة الإلقاء، والحق أن الرجل رزق بياناً ساحراً، وتأنقاً في العبارة يذكرنا بأدباء العربية في أزهى عصورها».
واكتشف فيه أيضاً عالماً بالفقه والأصول والأحكام، ويقول في هذا الصدد: «ومن الخطأ تصور أن الشيخ الكبير كان خطيباً ثائراً وحسب… لقد كان فقيهًا ذكي الفكرة بعيد النظرة». وهذا ما دفع الغزالي إلى «الالتفاف به والاستمداد منه»، حسب قوله عليهم جميعا رحمه الله.

لا تعليقات

اترك تعليق

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.