ذكريات عن الابراهيمي الإنسان
بقلم: الأخضر رحموني-
بمناسبة حلول الذكرى 57 لوفاة أمير البيان في الجزائر والرئيس الثاني لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين الشيخ محمد البشير الإبراهيمي الذي قال فيه الشاعر أحمد سحنون:
لا تقل يا ناعي الأحرار ماتا *** لم يمت من علم الناس الحياتا.
ورثاه الشاعر محمد العيد آل خليفة بقصيدة عصماء ختمها بقوله :
عشت فوق الثرى عظيما***فأحرى بك أن تسكن السماء عظيما
في هذه المناسبة الخالدة في وجدان الشعب الجزائري، فضلت التوقف عند شذرات من ذكريات قديمة تعميما للفائدة ،وحتى يتعرف شباب اليوم على الشيخ محمد البشير الابراهيمي الإنسان، وكيف كان يعتمد على نفسه ووسائله الخاصة منذ شبابه المبكر، خاصة وأن هذه الفترة مجهولة من حياته، وهي غير مدرجة في المرحلة الخامسة من ترجمته العلمية والعملية التي كتبها بقلمه في مقال حمل عنوان ( من أنا ) بطلب من مجمع اللغة العربية بالقاهرة عند إنتخابه عضوا به، ما عدا قوله (وكانت حركاتي منذ حللت بأرض الوطن مثار ريب عند الحكومة ومنبع شكوك،حتى صلاتي وخطبي الجمعية، فكنت أتغطى لها بألوان من المخادعة حتى أني تظاهرت لها عدة سنين بتعاطي التجارة وغشيان الأسواق لإطعام من أعولهم من أفراد أسرتي، ولكنها لم تنخدع ولم تطمئن إلى حركتي، فكان بوليسها يلاحقني بالتقارير ويضيّق الخناق على كل من يزورني).
فقد نشرت مجلة – الأثير – وهي مجلة ثقافية فنية كانت تصدر عن مؤسسة الاذاعة والتلفزة الجزائرية – في عددها رقم 19 الصادر في شهر ماي 1974 مقالا بتوقيع – ابن الصومام – تحدث فيه عن ذكرياته التي سجلها مع الشيخ محمد الصغير البشير – رحمه الله – والذي يطلق عليه سكان قريته تاغراست التابعة لبلدية شميني من ولاية بجاية حاليا، والقريبة من قرية إغزر أمقران التابعة لدائرة إفري أوزلاقن من ولاية بجاية تسمية – بابا عمي -، خاصة وأن عمره اقترب من المئة سنة ،باعتباره خزانة أسرار ومصرف تجارب ،وعندما كان ينطلق في الكلام عن أحداث المجتمع في تلك المنطقة ،ومنها الوقائع التي جرت في النصف الأول من القرن العشرين، يجعلك تعيش تفاصيلها بكل ما تملك من أحاسيس ومشاعر .ومنها هذه المواقف التي بقيت عالقة بذاكرته القوية مع الشيخ محمد البشير الابراهيمي .
يقول – ابن الصومام – ((عندما أمسكت يوما جريدة البصائر – لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين – وفيها صورة للشيخ الإبراهيمي رحمه الله – انتزعها مني ،وأخذ ينظر الى الصورة بحب وإكبار ،وهويردد الشيخ ..الشيخ البشير ..ثم تضاحك وهومستغرق في استرجاع الماضي البعيد ..تساءل عن مناسبة هذه الصورة ،فأخبرته برحلة الشيخ الشهيرة سنة 1952 الى البلاد العربية والإسلامية قبيل الثورة التحريرية..كان يسمعني وأنا في دهشة من أمر اهتمامه بالموضوع ..فاستخبرته الأمر ..فقال ..ذاك تاريخ بعيد ..أتعرف قهوة ( فانفاني) بمدينة آقبو..أحسن مقهى بالمنطقة على عهدها..وملتقى وجهاء الناحية وروسائها الى الحرب العالمية الثانية..إنها ملتقانا كل ليلة في العشرينات – دون تحديد لسنة بعينها -، حجزنا فيها ركنا نسهر فيه حتى يحين ميعاد إغلاقها بعد منتصف الليل على مدار السنة ..كنت أعمل عند ( طيطار بإغزر أمقران ) مع جماعة من شباب المنطقة .. وكان الشيخ البشير ( هكذا يذكره دائما ) يعمل خوجة في دار الشيخ ابن علي الشريف بين إغزر أمقران وآقبو..كانت تلك الجماعة تتواعد على اللقاء كل مساء في تلك المقهى ..كنا نأتي الى الموعد على العربات ( الكاليش) ، إلا الشيخ البشير فإنه يأتي راجلا من (عزيب الشيخ ابن علي الشريف الى آقبو) .. ويرجع كما أتى إلا في الليالي الممطرة ..كثيرا ما كنت ألتقطه في الطريق في الذهاب بعد إلحاح مني ..وعندما تكتمل الجماعة نبدأ في لعب ( الورق) أو(الدومينو) للتسلية …الشيخ لا يلعب معنا ،ولكنه كان يرشم لنا.. كما كان يتحفنا بحكاياته وأقاصيصه التاريخة .. إلا أنه عندما نتشاغل بأمر ما، يبدوساهما واجما ينظر عبر النافذة الى جبل ( كلدمان)، الى سفحه الأدنى حيث يغسل أطرافه واد الصومام العتيد.
إيه الشيخ البشير ..إيه ..لقد حدثنا بأشياء كثيرة.. إنه وعاء علم.. عالم بل عالم كامل .. عندما نكون في جلستنا تلك، فإنه لا يعبأ بأي كان من رواد المقهى ..كان يدفع دوره كل ليلة كما كان يدفع كل واحد منا دوره.
وإني لأعجب له أنه بعد تلك السهرة لا يكاد الواحد منا يصل الى داره حتى يسقط في فراشه إعياء من التعب، بينما الشيخ البير – خاصة في الليالي المقمرة أوالحارة – فإنه يرجع راجلا ،وعند بداية العمل في الصباح الباكر يكون في مكتبه كامل الإستعداد والقوة ..لا أثر لتعب الأمس عليه، وهكذا بقينا على اللقاء حتى انتقل الى مدينة سطيف حيث افتتح محلا لبيع الزيت .
وبقي الشيخ البشير حتى الحرب العالمية الثانية يبعث إلينا بتهانيه في كل موسم .. وبعد الحرب ، وخاصة بعد أن مات أخلص أصدقائه من جماعة الإصلاح بقي التواصل بيننا، وصار كلما التقى في الجزائر العاصمة بمن يعرفنا سأله عنا، وحمله إلينا تحياته وسلامه ..إيه الشيخ البشير ..إيه.
وفي صيف 1965 ، وبعد سماعه خبر وفاة الشيخ محمد البشير الإبراهيمي يوم الخميس 20 ماي 1965 بالجزائر العاصمة عن طريق – ابن الصومام – تنهد وقال وهويتضاحك : إذن.. قد فعلها، والله لقد فعلها . ثم سرح قليلا وقال ( لم بق من تلك الجماعة إلا إثنان ، وها هوالشيخ البشير يفعلها).
للإشارة ،فقد التحق الشيخ (بابا عمي) برفيق دربه في سنة 1966 .