وارثُ الفرقَـدَين
محمد البشير الإبراهيمي

وارثُ الفرقَـدَين

بقلم: د. حسَن عدّاد-

رأيتُ فيما يَرى النَّائمُ.. أنِّي قصَدتُ ومَجموعةٌ مِن إخواني مسْكنَ الشَّيخِ البشيرِ الإبراهيمِي لزيارتِه. وبينمَا نحنُ عِند مَدخَلِ بيتِه، إذ لاحَ لنا هيكلُه وبانَ لنا شخصُه وهو قادمٌ. فما إن رَمقَنا، حتّى علا مُحيَّاهُ – وهو يقتربُ- عَلاماتٌ يَختلِطُ فيها التّرحيبُ بالحيرَةِ، والبَشاشةُ بالتّوجُّس. فَسارَعتُ إليهِ، والتقمتُ أذُنَه، وفي نفسي أنَّهُ لِكبَرٍ، ثقُلَت آلةُ سمعِهِ، فرفَعتُ صَوتي بِصَدرِ بيتٍ لحُسين بن حمدانَ:

[يا ضيفَنا لو زُرتَنا لوَجدتَنا].. فردَّ الشيخُ بِصَوتٍ جهوَريِّ [نحنُ الضّيُوف وأنت ربُّ المَنزلِ]

وودِتُ لو زادَنا مِن الشِّعر بيتًا، فيقُول:

[ نَحن نُحبُّ لمَن يزورُ بيُوتَنا حرجًا على مَن زارَنا لم يرحَلِ]

وبدأ يَسالُ عن أحوالِنا، ويُبدي تألُّمَه لمَشاكلِنا نَحنُ الشّباب! (وأنا جَاوزتُ الشّبَابَ بِمراحِل).. فأردَفتُ قائلًا: يا شَيخ، جِئناكَ زائِرين، ونَودُّ إكرامَك بشَيئٍ مِن الفاكهةِ، فسَرّهُ ذلك.. وعَينِي على فاكِهَاني في الرَّصيفِ المُقابِل، وأطلَّت من مَدارِج البيتِ خادمٌ، فبدأت تشتَرطُ علينا أطيبَها وأرطبَها، ونحنُ في شُغلٍ عَنها. يمَّمتُ الفاكهانيّ، فلم أجِد عندهُ بُغيَتي، وقصدتُ سوقًا قريبًا، وفي خاطِري أن أشتريَ له تَمرًا وتُفّاحا وبُرتُقالا. وصِرتُ أنظُرُ خَلفي إلى رُفقائِي الّذينَ لم يتبَعنِي مِنهم أحَدٌ. وكنتُ أودُّ أن يُسعِفونِي بشيئٍ أستعينُ به على قضَاءِ الحَوائج، دونَ جَدوى.. فإذا بي أستيقِظُ مِن نَومِي.
وكنتُ كُلّمَا ذكرتُ الشَّيخيْن أو أحدَهما، أو قَرأتُ عنهمَا أو تحدّثتُ، يحضُرني بيتَانِ للشَّيخ مُحمَّد العيد آل خليفة:

[نَم هانئًا، فالشَّعبُ بَعدكَ راشِـــــدٌ يَختطُّ نهجكَ في الهُدى ويسيرُ]
[لا تخشَ ضيْعةَ ما ترَكتَ لنا سُدى فالـــوارِثُـــون لما تركتَ كثيرُ]

وبدَأت تتوارَدُ على ذِهني أفكارٌ عَن ابن بادِيس والإبراهِيمي. وإن أنسَ، فلن أنسَى مُطالعَاتي لما نُقِل عنهُما، فأطرَبُ لأبيَاتٍ ارتجَلها الشَّيخُ الرّئيس، أو ما أجدُ في كتاب للأستاذ عمّار طالبي عن ” آثار ابن باديس”، أو مقالاتٍ لصَاحبِه وخلِيفتِه، في كتابِ” آثار الشَّيخ البشير الإبراهيمي”، الّذي سلِسَ له قيادُ لغةُ الضَّاد، أو شيئًا مِن تاريخِ جِهادِهما في نَهضةِ الجزائر، الّتي مِمّا يزيدُنا حبًّا لها وهُيَامًا بها، أنَّ في ثرَاها الطيّبِ هذان الرَّجُلان الشَّهمان اللّذان قادَا الأمّةَ في أحلَكِ ظُروف حَياتِها، وأظلَمِ مراحِلِ وُجودِها، فأنارَا لها الطّريق، وتبِعهُما على النّهجِ السَّويِّ رجالٌ نسجُوا على مِنوالهِما، فكانُوا خيرَ خلَفٍ في التَّضحيةِ والإباءِ. وهَذا الّذي يَدفعُ النّاس إلى اتِّباعِ قادَتِهم.

[أولئِك آبائي فَجِئني بمِثلِهم إذا جمَعتنَا بهِم “يا ضَريرُ” المَجامِعُ]

فَتحتُ الهاتفَ على عادَتي الصَّباحِيّةِ في تصفُّح الجراِئِد، وأنا أتساءَلُ: كيفَ جاءني-أوجئتُ- اللّيلةَ، هذا الشّيخُ الجليل؟ وما تأويلُ رؤيايَ؟ فإذا مقالٌ للأستاذِ الهادِي الحسَني، بقيّةُ ذلك الزمنِ الجميلِ- فجَمالُ المقامِ ليس بمَتاعِه- فكانَ مِمّا قال فيه: ” الجزائر ولُودٌ للعُلماءِ والمُجاهِدين.. لكنَّها لم تُنجِب في تاريخِها المُعاصِر مِثلَ هَذين الفَرقَدين، علمًا وعمَلا، وجهادًا ونُكرانَ ذاتٍ، وإيثارًا لحظِّ شعبِهِما ووطَنِهما على حَظّي نفسَيهِما وأهلِيهِمَا. فقد عاشَا ولم يتعلّق قَلبَاهُما بغيرِ الإسلام والجزائر، تاركِين سَقط المَتاعِ لمَن إن تَحمِل عليه يلهَثْ أو تترُكهُ يلهَث.. فقُلتُ: ذلك الظنُّ فِيهما، ونِعمَ الجِهاد جهادُهما.. صدَق إذ قال: لا يعرفُ أقدارَ الرِّجالِ إلاّ الرِّجال.. وختمَ بقَولِه: “رحم اللهُ الإمامَ الإبراهيميّ في الذِّكرى السّابِعةِ والخمسين لالتِحاقِه بالرّفيقِ الأعلى، وذلك في 20 ماي 1965. فتَعجَّبتُ للمُوافقَةِ العجيبَةِ لزمنِ الرُّؤيا وهذه الذِّكرى، فقلتُ: أهو الّذي زارني أم كنتُ مَن زارَهُ في الرُّؤيا؟ والأرواحُ جنُودٌ مُجنّدَةٌ.
وأنا أُشهِدُ اللهَ، مِثل عددٍ كبير مِن غَيري أنِّي أحبُّ الشَّيخَين، والطَّريقَ الّتي رسَما مَعالمَها، بالتّضحِيةِ والعلم الغَزير، والفِقه لسُنَن اللهِ، والثِّقة بالنّصرِ المُبينِ، لأُمّةٍ أنهكَها احتِلالٌ خَبيث، بالتّجهِيل والإفقار، والعِلل المُقعِدةِ والآفات المُهلِكة.. وطغى في البِلاد، فأكثَر فيها الفسادَ، مُردّدًا قولا عن الشّافعيّ:

[أحبُّ الصّالحِين ولستُ مِنهُم وأرجُو أن أنالَ بهم شَفاعَة]

أيُّ تعبيرٍ يُمكِنُ أن يَصِفَ تِلكَ المَشاعرَ وأنت تنظُرُ إلى نادي التّرقِّي، أو تَجولُ في أروقَتهِ الّتي كان يجتمعُ فيها أولئكَ الأفذاذُ؟ ما الّذي حوّلَ البِناءَ البسيطَ إلى مَقامٍ رَفيعٍ تقشَعِرُّ لهُ الجُلودُ، وتَتلَهّفُ عندهُ الأفئدةُ؟ وقُل مِثل ذلك عن مَسجِد كتشَاوة، أو الجامِع الأخضَرِ، أو مدرسة دَار الحَديث؟.. لا تكونُ للمكان هيبَـتُه وبَرَكتُه إلا بحضُور أمثالِ أولئك الكِرام البرَرة، الصّالِحين الصَّادقِين.
كأنّ الشَّيخ يَقولُ لي: اجعَلُوا حياتَكُم هادِفةً، فلا تُهدِروها في مَطالب الأجسَاد، والانغِماس في مَسالكِ الدُّنيَا. احتَرمُوا دينَكم.. وقلِّلُوا التّركيز على أنفُسِكم وأولادِكم.. واشغلُوا قلوبَكُم بهِدايةِ الأسلَافِ مِن رجَالِكم، ونشِّئُوا على ذَلك أبناءَكُم.. تسلَمْ بكم هذِه الأمّةُ، وتَنجُو مِن الضَّلالِ والضَّياع. أنَسِيتُمونا يا بُنَيّ؟
لقَد وَعدتُ الشيخَ -في الرُّؤيا- بسَلّةٍ مِن الفَـواكِهِ.. فَذلِك دَينٌ أؤدِّيه – بحَولِ اللهِ- لِوَارثِ الفَرقَدَين.

لا تعليقات

اترك تعليق

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.