ابن باديس والدّيسي… لقاءٌ وثلاثُ رسائل

بقلم: محمد بسكر-

ما زالت جوانب من علاقات الشيخ عبد الحميد بن باديس مع وسطه العلمي في حاجة إلى الكشف والدّراسة، وخاصّة قبل تأسيس جمعية العلماء، فالوثائق التي يعثر عليها الباحثون بين الفينة والأخرى، توضح متانة تواصله مع رجال العلم باختلاف مشاربهم، فتمسكه بمرجعتيه المذهبية التي نشأ عليها، باعتباره أثيل أسرة توارثت العلم، واحترام أهله، جعلته يتواصل مع محيطه الثقافي، فقد زار مراكز التعليم والزوايا الأكثر نفوذا، المهتمة بتدريس القرآن ونشر العلوم، وخاصة التابعة للطريقة الرحمانية، وتذهب بعض الروايات الشفهية إلى أنّه زار زاوية الهامل، كما رتّب زيارة إلى الزاوية العثمانية بطولقة في حدود سنة 1925م، وله قصيدة في مدح شيوخها نشرتها جريدة النجاح سنة 1926م.

تؤكد الوثائق أنّ عبد الحميد بن باديس كان على اتصال بالشيخ محمد بن عبد الرحمن الديسي، أحد أبرز رجال العلم مطلع القرن العشرين، وعميد التدريس بالزاوية القاسمية، فبينهما مراسلات متبادلة قليلة، على الأرجح كانت مطلع سنة 1920م، ولم يعش بعدها الدّيسي إلّا فترة زمنية لتوافيه المنية بتاريخ 27 أوت 1921م.

لا يحتاج الإقرار بفضل الغير إلى لقاءات متكررة أو رسائل كثيرة، فما جمعهما هو الاحترام المتبادل، وبذل الجهد في نشر العلوم وإحياء الأمة، واشتركا في التَّعلُم عن الشيخ حمدان الونيسي القسنطيني، وكان الديسي السّابق لمجالسته والأخذ عنه، فقد أشار تلميذه الحاج محمد بن السنوسي أثناء ترجمته له إلى تَتَلمُذه على يديه بقسنطينة، وقد يكون ذلك حوالي سنة 1874م لمّا أكمل تعليمه بزاوية أبي داود، وتحدّث عن ذلك تلميذه عبد الرحمن بيوض في رسالةٍ تَرجمهُ فيها، وإن كانت مؤلفات الديسي لا يوجد فيها ما يثبت أخذه عنه، وقد يكون مجرد لقاء جمعهما، فالشيخ حمدان من أترابه، فسنه آنذاك 17 سنة، وبعض الدّراسات تذهب إلى أنّه بدأ التدريس سنة 1881م، فاحتمال الأخذ عنه يبقى بعيدا، كما لا ندري ما العلوم التي حصّلها منه، بينما تلقى ابن باديس علومه الأولى على الشيخ الونيسي قبل أن يلتحق بجامع الزيتونة سنة 1910م، وقد أجازه مشافهة قبل هجرته إلى المدينة المنورة، ثمّ كِتابَةً بعد اجتماعه به سنة 1912م.

تندرج الرسائل الثلاث المتبادلة بينهما ضمن الرسائل الإخوانية العلمية، وكلّها بعد اللّقاء الذي جمعهما بمدينة سطيف سنة 1920م، وبالتالي فصلتهما ببعضهما لم تدم إلّا سنة واحدة ، فابن باديس كان في أوج عطائه العلمي، ولم يستقر للتدريس في قسنطينة بصفة رسمية إلّا سنة 1912م، وفي خلال سنوات قليلة شاع ذكره داخل القطر، وبلغت مسامع الشيخ الديسي ثورته العلمية في الجامع الأخضر بقسنطينة، حيث استقطبت مجالسه الطلبة من مختلف الجهات، فبلغ عددهم سنة 1916م حوالي مائتي طالب،أمّا الشيخ محمد بن عبد الرحمن فبلغت شهرته ذروتها وشاع علمه وفضله في عموم المغرب العربي، وفي عهده الأخير كان يميل بذوقه وفكره العالي إلى النهضة الحديثة الأدبية الجديدة التي شهدتها الجزائر على يد بعض علمائها، أمثال عبد القادر المجاوي وابن مهنا، وعبد الحليم سماية وابن الموهوب وغيرهم، ومع أنّه منافحٌ عن الطّريقة الرحمانية، وأكثر من ألّف فيها مطلع القرن العشرين، غير أنّ ذلك لم يمنعه من مجاراة هذه الهبّة الحديثة، وإبداء حبّه لها فيما لا مخالفة فيه للمشرب الصوفي الذي نشأ عليه، ومثله لا يخفى أمره عن ابن باديس، فقد وصفه في آخر رسالة بينهما بـ «علامة القطر الجزائري، الوحيد علما وعملا وإخلاصا».

لقاء علمي

سافر الشيخ الديسي إلى مدينة سطيف سنة 1920م برفقة تلميذيه، محمد الأخضر حساني وعبد الرحمن بيوض، فالتقى هناك بالشيخ عبد الحميد بن باديس، وهو اللّقاء الوحيد الذي جمعهما، ويبدو أنّه لم يكن مخططا له، وإنّما كان محض صدفة، فالرسالة الأولى المرسلة إلى الشيخ ابن باديس يتحدث فيها الديسي عن عودته من سفره خالي الوفاض، ((فقد عدنا من سفرنا الذي ليته ما كان))، فيُفهم من ذلك أنّ سفره كان لغرض آخر، وقد سجله الدكتور عمر بن قينة في كتابه «الديسي حياته وآثاره وأدبه» سماعًا من الشيخ محمد بن الأخضر حساني، وذكر بأنّ اللقاء تمّ بحضور محمد البشير الإبراهيمي، حيث دار بين الشيخين نقاش علمي ماتع، اكتفى جُلّاسهُ فيه بالاستماع، وينقل عبد الرحمن بيوض في ترجمته للشيخ الديسي(ص7/8) بعض من أجازهم شيخه، فذكر إجازته للشيخ ابن باديس، ولعلّها إجازة شفوية تمت في هذا المجلس، لأنّنا لا نجد نصها ضمن الإجازات المنشورة له. عاد الديسي إلى بلدته فكتب مقطوعة شعرية مكونة من عشرة أبيات، أفشى فيها عواطفه تُجاه ابن باديس، وهي منشورة في ديوانه «منّة الحنان»، مدحه فيها تقديرا وإعجابا بنشاطه في نشر العلم والثقافة، جاء في مطلعها: (إلى عبد الحميد مزيد شوقي…فريد العصر نبراس الزمان)، وأقرّ بباعه في المعارف والمعلوم، فهو أصيل أسرة كريمة الحسب والنسب توارثت العلم والمجد، (لهم من الفضل أخبار عوال…تعنعن بالصّحاح وبالحسان)، أمّا في وصفه لعلمه فقال فيه: (لقد ملك العلوم فما عصته… أطاعته المباني والمعاني).

موقف ابن باديس من كتاب هدم المنار

عاد الديسي إلى بلدته محبطا من سفره، فقد كان يعيش ظروفا قاسية بعد تأليفه لكتابه هدم المنار، واستقواء الدهماء عليه بسببه، فأرسل رسالة مختصرة إلى ابن باديس، تأسّف فيها لفوات العلاقات بينهما، ومدح الأسرة الباديسية، التي هي من البيوتات العريقة في المجد والعلم، ومقتطفات هذه الرسالة – غير المؤرّخة- تظهر القدر والاحترام الذي يكنّه للبيت الباديسي، فهو يصفه بأنّه « الصّدر بل البدر، الحبر بن الحبر، العلّامة الوحيد الأستاذ الكامل، سيّدي عبد الحميد ووالدكم المبرور، ذو القدر الشامخ، والسّعي المشكور، خلاصة آل باديس، ذلك البيت الذي له في المجد والعلم أقدم تأسيس»، وأبدى فرحه بما سمعه من النشاط العلمي الذي يبذله في جامعه الأخضر بقسنطينة، الذي أصبح قبلة للطلبة، فقال: «هذا وإنّي لمسرور جدا ببذلكم الهمّة في نشر العلم وخدمته التي هي أفضل خدمة، خصوصا في هذه الأزمنة المظلمة المدلهمة، أبقاكم الله محفوظين، وبعين العناية ملحوظين،»، لكن ما أثلج صدره هو مناصرة ابن باديس لآرائه الواردة في كتابه هدم المنار، لا نجد للأسف نص ابن باديس الذي أبان فيه موقفه من الكتاب، وقد يكون الديسي بلغته نصرته لآرائه، فأشار إلى ذلك في رسالته بقوله: «وقد بلغني نصرتك للنقد الذي ما قصدنا به إلّا نصيحة الشّرفاء وعوام المسلمين الذين وصلهم كتاب عاشور»، وشكره على وقوفه مع الحقّ، فقال: «فللّه درّك في نصرة الحق وقول الصدق، مثلك من لا يخاف في الله لومة لائم، ويعرف الحق لأهله، وإن كنتم تحتاجون نسخة من النقد فأخبرنا». وكتابه «هدم المنار» يندرج ضمن المؤلفات النقدية، رد فيه على الشيخ عاشور الخنقي مؤلف كتاب (منار الإشراف على فضل عصاة الأشراف ومواليهم من الأطراف) المطبوع سنة 1914م، انتهى الديسي من تأليفه أواخر سبتمبر سنة 1919م، ولم يطبع في حينه، وإنّما انتشرت نسخه الخطّية، ولعل ابن باديس وقف على إحداها، كما اطّلع الشيخ عبد الحي الكتاني على نسخة منه، أوقفه عليها القاضي شعيب التلمساني، كما أشار في رحلته التونسية، وساق بعض ما عابه الدّيسي على عاشور، لكنه لم يبد رأيه لا في المنار ولا في هدمه، واكتفى بعرض بعض أغلاط عاشور، وختمها بالإشارة إلى أنّ «عاشور» أساء الأدب مع «الديسي» في الترجمة التي نشرها لنفسه آخر مؤلّفه المذكور، وعقب قائلا:« والله يسامح الجميع». فلم يبين وجه الصواب، وكأنّ محمد بن عبد الرحمن ما كتب نقده إلّا انتقاما لنفسه، لا لبيان ما احتواه كتاب عاشور من مغالطات دينية وتاريخية لا ينبغي السكوت عنها.

وأما الرسالة الثانية فمبعوثة من ابن باديس بتاريخ 17 يونيو 1921م، يتجلى فيها مدى الاحترام الذي يكنّه ابن باديس للديسي، فوصفه بقوله: «علامة القطر الجزائري، الوحيد علما وعملا وإخلاصا»، وما كان لابن باديس أن يضعه في هذه المرتبة لو لم ير أحقيته التي تؤهله لذلك، وموضوع رسالته علمي بحت، فقد وجّه ابن باديس نص فتوى صادرة منه متعلقة بحكم تحمل شهادة ثبوت شهر رمضان من الهاتف، وطلب من الديسي أن ينظر فيها، راجيا أن يقوم بتنقيحها وتأييدها، «بما تعلمونه من أدلة الموضوع فيها، تحقيقا وبيانا شافيا وإرشادا كافيا»، لم نعثر على فتوى ابن باديس في هذه الواقعة، غير أنّ الإشارة إليها موجودة في جواب الديسي الموثق ، فردّ عليه برسالة بتاريخ 23 يونيو 1921م، ومع أنّه كان طريح الفراش، والمرض أخذ منه مأخذه، غير أنّه لم يقطع صلته بالعلم وأهله، فجاوبه في أقل من أسبوع، وأيّده فيما ذهب إليه وزاد على ذلك بأن أصّل المسألة وعضّدها بأدلة عقلية، وذكر بأنّه وجد جوابه « كافيا شافيا؛ لأنّكم بارك الله فيكم قد أعطيتم المسألة حقّها من النظر والتحقيق، وأوفيتموها ما تستحقه من البحث والتدقيق، بما يكفي المنصف ويردع المتعسف».

لا تعليقات

اترك تعليق

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.