آفرو آسيوية مالك بن نبي وتطلعه لحضارة نصف المعمورة
بقلم: لونيس بن جبل-
أفذاذ تمكنوا من صيغة الكلم الدال ، والمحلل لأوضاع الأمة ، فكانت كتاباتهم نبراسا يسطع لإنارة العقول وإثراء أفكار البناء و التقدم ، وجاءت هذه الإسهامات متعددة بتعدد الخامات الفكرية لهذه الأمة، وكان حبر مالك بن نبي رحمة الله تعالى عليه فعالا في تشخيص الأوضاع وتقييمها ، فكان ولا يزال النموذج المتطور في معادلة البناء الحضاري ونسج مقومات الهوية الحقة التي أراد لأمته أن تنبض بها لتعلو وتقوى وتتقدم ، هي إسهامات إستراتيجية ذات عمق حضاري كبير في إصلاح أوضاع الأمم المقهورة التي تعاني من حركات الاستدمار والعاكسة لسياسة الدول الكبرى المهيمنة عليها واستغلال ثرواتها ، وشل كل محاولات التطور فيها والوعي ، بن نبي قدم العديد من الأفكار ذات البعد التاريخي المتأصل في ثقافة السلام و الحرية بمنهج مبدع ببراعة تامة يضع اليد على الجرح النازف ، فصاغ معادلات حضارية وأفكار بنائية هي الحصن المحصن من حملات الهيمنة التي شهدها العالم ولازال يشهدها فقدم نموذج من أهم ما جاد به فكره القيم وهو أنموذج الفكرة الآفرو آسيوية .
الفكرة الآفرو آسيوية هي عبارة عن مقدمة فكر حضاري ورؤية بعيدة ومتكاملة لزاد أراد به مالك بن نبي أن يواجه رغبة الحملات الساعية للسيطرة وتخليد الفكر الاستعماري على الشعوب المسروقة و المسلوبة، من جهة ومن جهة أخرى أراد أن يكرس مبدأ الإنسانية والأخلاق ، في عالم فقد هذين المحركين الأساسيين في قيام تواصل بشري منصف وعادل ، فتناول بن نبي تصوير تلك المخططات التي سادت والتمويهات التي مورست للهيمنة على شعوب عالم آخر يرونه أنه المتأخر ، وكانت إفرازات ما بعد الحرب العالمية الثانية متمحورة حول مواصلة الدوس على آمال وأحلام شعوب سلبت حتى أحلامها وآمالها ، وواصلت هذه القوى فرض تقليد متمثل في فرض النفوذ و الإخضاع والسيطرة ، فحللت كتابات مالك المفكر الواعي ، الذي كان يعي جيدا ما يكتب وما يرسمه من دلائل عن ذلك المد الزاحف على حرية الشعوب وحقها في العيش و التفكير ، ويتم ذلك حسب رؤية بن نبي العميقة في إطار أن لا تصل تلك الشعوب و الأمم إلى مرحلة الرشد ، فتبقى متحكم فيها ، منطوق عنها ومستغلة لكل ما فيها من خيرات أوطانها وأبناءها .
ولعل كل ما يصدر من هذه الشعوب من أفكار مناهضة لهذا المد الاستغلالي المسيطر ينظر إليه من طرف القوى المستعمرة على أنه خطر يهدد كيانها هناك، ومصالحها ويمس سباقها ومنافستها القطبية ،وكانت نظرة مالك بن نبي واعية لكل ما واجه فكرة التكامل هذه حيث أنه رأى وشخص نيتهم السيئة اتجاه فكرة مشروع مبني على البناء والسلام(1)، هذه النية التي سعت أن تجعل الشعوب الحرة عبيدا في خدمة مساعي السباق القطبي ، وفي الفكرة الأفرو آسيوية ذهب مالك بن نبي إلى التفاعل العدائي اتجاه كل فكرة تأتي معارضة لتوجهها تولد داخل مستعمراتها من أبناءها الذين عانوا تبعات تلك السياسة الاستعمارية الممنهجة المبنية على مبدأ العادة و التقليد القديم، ذلك التقليد المشحون بروح السيطـرة والهيمنة، والذي يراه مالك بن نبي أنه مشبع بنفسية السيطرة والقوة التي يعامل بها العالم من يعتبرهم درجا ليصل لفرض قطبيته ، حيث أوضح مالك بن نبي في فكرته القيمة أن فلسفة ممارسة القوة كانت تطبع كل تعامل لهذه القوى الاستعمارية، والتي أضحت قانونا مفروضا على كل جهود توجه نحو إقرار تنظيم للعلاقات الإنسانية في العالم وهنا تظهر أهمية ذلك التكامل بين من يتشاركون المصير الواحد ، ويعانون من كأس المر نفسه ، وذلك عبر تتبعه لفروقات شاسعة وهوة كبيرة بين أبناء عالمين ينتميان لنفس الجنس ألا وهو جنس البشر.
وفكرة الآفرو آسيوية عند مالك بن نبي جاءت نتيجة توفر لمجموعة من العوامل المشتركة التي تلوح في الأفق ، والتي تلعب دورا في تشجيع الفكرة ودفعها إلى مجال التحقيق و التجسيد ،وبالرغم من أن مالك بن نبي تطرق إلى جملة العوائق التي قد تعترض هذا المسعى إلا أن إيمانه العميق بالمسعى وبضرورته الملحة جعلت منه يبدع في تقديم منهاج لتطبيق ذلك وتجسيده، وقد بين عظيم أهمية الفكرة التي أتى بها حتى على المستوى الاقتصادي وما يلعبه ذلك التكامل من دفع وقوة لأطرافه . ولعل مؤتمر باندونغ كان من بين الأحداث التي ألقت بظلالها على فكرة بن نبي من جانبين : الأول إيجابي ، وهو أن المؤتمر كان نوعا ما تجسيدا بطريقة أو أخرى للأفكار القاعدية التي بنى عليها مالك بن نبي فكرته ، ومن جانب ثاني كان تأثيرها سلبي وهذا حسب رأيي الشخصي وكان الجانب السلبي كون المؤتمر ليس ربما تجسيدا كاملا لرؤية مالك كما أرادها أن تكون ، ولعل تتبع أفكار الرجل المفكر لاحقا وحتى في نفس التناول (الفكرة الآفرو آسيوية)، توحي ذهابه إلى أبعد من نتائج مؤتمر باندونغ بكثير وأهم ما يمكننا الاستدلال به حاليا هو عدم سير الأحداث والنتائج كما أراد لها بن نبي أن تكون وأن تساهم ، فما أراده بن نبي هو الذهاب إلى أبعد من تعاون إفريقي آسيوي هادف إلى التكتل وتشكيل الكتلة الثالثة فقط، فمالك قفز إلى تعبيد الطريق لبناء حضارة تفاعلية، وأساس هذا التفاعل هو التنظيم الإنساني المبني على السلام والرقي والحصانة فالمتأمل لأفكار مالك بن نبي وهو يتفنن في ربطها في وجهة واحدة وهدف واحد وهو الانسجام والتكامل لبناء حضارة كبيرة وقوية تكون اتحادا لثقافة وأفكار قارتين، فالغوص التحليلي في بحور فكر مالك بن نبي ومحيطاته ليس بالأمر الهين، وإنما هذا فقط فيما تعلق بتلك الرؤية العظيمة لهذا الفذ في فكر بناء الحضارات، حيث شحن الكلمات بأفكار جعلت منها ثقيلة في عالم البناء الفكري و الحضاري ، رحمة الله عليك يا مالك وعلى كل أفذاذ أمتنا من المفكرين وحملة مشعل العلم لإنارة الطريق لأمتنا الأبية.
التهميش:
(1) : مالك بن نبي ، فكرة الأفريقية الآسيوية في ضوء مؤتمر باندونغ ( مشكلات الحضارة ) ، ترجمة عبد الصبور شاهين ، دار الفكر المعاصر ، بيروت - لبنان ، دار الفكر ، دمشق - سورية ، ط 3 ، 2001م ، ص 60.