الشيخ عبد الحميد بن باديس وحركة المجتمع المدني الجزائري
عبد الله بوخلخال

الشيخ عبد الحميد بن باديس وحركة المجتمع المدني الجزائري

بقلم: أ.د. عبدالله بوخلخال-

ولد الشيخ عبد الحميد ابن باديس يوم 04 ديسمبر 1889 بقسنطينة وهو الولد البكر لأبويه محمد بن مصطفى المكي ابن باديس وزهيرة ابنة علي بن جلول، تعود أصول عائلته إلى بني زيري مؤسسي مدينة الجزائر والمعز ابن باديس صاحب المكانة الرفيعة في عصره.

تتلمذ عبد الحميد في مساجد قسنطينة على يدي مشايخ أفاضل فحفظ القرآن وعمره لا يتجاوز ثلاثة عشرة عاما، فصلى بالناس صلاة التراويح، ودرس العلوم الإسلامية واللغة العربية وآدابها والتاريخ والجغرافيا وكان لشيخه حمدان لونيسي أكبر الأثر عليه. رحل إلى تونس سنة 1908 م، ودرس بالزيتونة حتى نال شهادة التطويع سنة 1911م، ثم درّس مدة سنة بالزيتونة لنبوغه وفطنته، ثم أجيز بشهادة العالمية عام 1913 من الأزهر الشريف، عند عودته من البقاع المقدسة بعد أدائه فريضة الحج أين التقى بمجموعة كبيرة من علماء العالم الإسلامي.

وعند عودته إلى الجزائر سنة 1913 واستقراره بقسنطينة وقد نضج وعيه الإسلامي وتأثر بأفكار كثير من العلماء الذين التقى بهم في الحجاز والشام ومصر. أدرك أن طريق الإصلاح تبدأ في أعماق المجتمع الجزائري، وتبدأ بالتعليم لأنه لا يمكن للمجتمع الجاهل أن يفهم معنى التحرر ومحاربة الاستعمار وأعوانه ومحاربة جميع الآفات والأمراض المتجذرة في المجتمع الجزائري في النصف الأول من القرن العشرين. فبدأ بتأسيس المدارس، وتولى بنفسه مهمة التربية والتعليم والتثقيف والتوعية الاجتماعية.

وركز على محو أمية الكبار بمظاهرها المختلفة، كما اهتم بالمرأة من خلال المطالبة بتعليم الفتيات وتربيتهن، وأعتبر تعليم المرأة وتربيتها من شروط نهضة المجتمع، كما ساهم الشيخ عبد الحميد بن باديس في فتح النوادي الثقافية والأدبية، وتأسيس الجمعيات الرياضية والفرق المسرحية، وأفواج الكشافة الإسلامية الجزائرية بمساعدة كثير من رفاقه وتلاميذه.

منهج ابن باديس في بعث المجتمع المدني الجزائري

اعتمد ابن باديس على عقلية التحاور والتسامح والإقناع في دعوته لإصلاح أوضاع المجتمع الجزائري السيئة جدا؛ دينيا وسياسيا واقتصاديا واجتماعيا وثقافيا حيث واجه عدة جبهات :

-العادات والخرافات والشعوذة والدجل والتقاليد التي لا تتماشى وتعاليم الإسلام الصحيحة.

- الخلافات الهامشية سواء كانت دينية أو عرقية أو سياسية أو قبلية.

-التقليد الأعمى لكل ما هو آت من فرنسا والارتباط بالإدارة الاستعمارية ودعاة الاندماج وصنائعهم.

وقد اختصر مشروعه في شعار : "الإسلام ديننا و العربية لغتنا و الجزائر وطننا"، فقاوم كل هذه الظواهر السلبية بعقلية متفتحة وفكر ثاقب تمثل في دروسه ومحاضراته وآرائه التي كان ينشرها في الجرائد التي أسسها  لهذا الغرض، بالإضافة إلى اهتمامه بنشر ثقافة التسامح وجمع الشمل في جميع نشاطاته الدعوية والفكرية والثقافية والسياسية والصحفية دفاعا على الهوية الجزائرية بكل مقوماتها. فقد كان الشيخ عبد الحميد مسكونا بمشكلات شعبه، فقد كان سياسيا من الطراز الرفيع، لكن ممارساته السياسية كانت تجمع بين الفكر النظري الرفيع المستوى والممارسة الميدانية من أجل جمع كلمة الشعب الجزائري بكل أطيافه على قلب رجل واحد.

المجتمع المدني الجزائري في النصف الأول من القرن العشرين

تميزت الفترة الممتدة مابين 1830-1900 بما يسمى المقاومة الوطنية التقليدية للسلطة الاستعمارية الفرنسية، وتمثلت هذه المقاومة في الثورات التي قامت بها القبائل ورجال الدين من شيوخ الزوايا وقد تمكن الاستعمار الفرنسي وأعوانه من القضاء على هذه المقاومة التقليدية المسلحة نهائيا مع حلول القرن العشرين ونتج عن ذلك ركود شبه كلي للمقاومة الوطنية، ومن ذلك حرمان الشعب الجزائري من حقه في ممارسة أي نشاط سياسي، وركن المجتمع الجزائري إلى السكون، ومراجعة كل حساباته مع السلطة الاستعمارية ومخططاتها، والإعداد لوسائل أخرى حسب متطلبات المرحلة، حيث انصب التفكير على الإعداد لمقاومة سياسية وثقافية وإيديولوجية بدل المقاومة المسلحة التي أثبتت عدم جدواها أمام القوة العسكرية الفرنسية المجهزة بأحدث الأسلحة. وكان نتيجة ذلك ظهور الحركة الوطنية العصرية التي اتخذت من المدن قاعدة لنضالها السياسي والثقافي والحضاري وتحولت تدريجيا من التعاون مع الاستعمار إلى حركة معارضة له.  وفي هذه المرحلة برز مجتمع مدني منظم ومؤطر استطاع أن يفرض نفسه على الساحة رغم مضايقة السلطة الاستعمارية وأعوانها له وقد كانت شرائح هذا المجتمع المدني غير متجانسة، فقد كانت لها أفكار متباينة حول المستقبل السياسي والثقافي والانتماء الحضاري للجزائر انطلاقا من قناعتها وتصوراتها الأيديولوجية المختلفة إلا أنها ساهمت بطريقة أو بأخرى في صناعة  الوعي الوطني للمجتمع المدني الجزائري.

ابن باديس والحركة الجمعوية الجزائرية

يعد الشيخ عبد الحميد ابن باديس أحد أعلام الفكر الحديث والمعاصر الذي أشع بنوره على المجتمع الجزائري في النصف الأول من القرن العشرين هذا البلد الذي تآمرت عليه أيادي الفقر والجهل والاستعمار وأعوانه.

فجاء ابن باديس ورفاقه من جيله، فانتشلوه من وهدته، وأيقظوه من رقدته فانطلق كالمارد الجبار يحطم القيود ويحرر البلاد والعباد من خلال إشاعة القيم العلمية والفكرية والوطنية بين المواطنين وتجسيد مفهوم المجتمع المدني ودوره عمليا في التحولات لخلق الازدهار والحرية :سياسيا واجتماعيا وثقافيا واقتصاديا. وكانت مساهمة الشيخ عبد الحميد بن باديس في هذه الفترة متميزة في تشكيل المجتمع المدني الجزائري في النصف الأول من القرن العشرين وذلك بالتوعية والتدريس والوعظ والإرشاد وإنشاء الجمعيات الخيرية والدينية والثقافية والنوادي الأدبية والأفواج الكشفية والفرق الرياضية ...الخ. وقد كانت عبارة المجـتمع المدني تعرف ذيوعا وانتشارا هائلين فيما بين الحربين العالميتين ولو بمسميات مختلفة، وأضحت هدفا في أكثر المواقع اختلافا وتباينا وخاصة في الأوساط السياسية والمنظمات الاجتماعية والمهنية والهيئات الثقافية واهتماماتها. كما صارت الشغل الشاغل لوسائل الإعلام بمختلف أنواعها وتوجهاتها، وحظيت باهتمام السياسيين والمثقفين. ولقد كان الشيخ عبد الحميد ابن باديس يدرك جيدا أهمية المجتمع المدني لأنه يمثل بالنسبة إليه الثروة الحقيقية للمجتمعات الإنسانية الحية التي تصبو إلى التغيير والتحرير. وكان يدرك أن الاستثمار الحقيقي هو في الإنسان، لأنه أعز استثمار تهتم به الشعوب الحية، وهو أهم عامل نجاح، إذا ما قورن بسائر أنماط الاستثمارات الأخرى، لأنها في الحقيقة أقيمت في الأساس لأجل الإنسان وعزته وكرامته. وكان الشيخ عبد الحميد ابن باديس يدرك بعمق أيضا أن مكانة المجتمعات الحديثة الحية تنبع في الأساس من قيمة الإنسان فيها، لا مما تملكه من ثروات كثيرة ما في باطن الأرض وما فوقها ،والأمثلة كثيرة.

وكان يدرك أكثر أن أعلى هذه المجتمعات رتبة هي التي تعنى عناية فائقة بشبابها ذكورا وإناثا ،لأن الشباب هو ثروة الأمة التي لا تماثلها ثروة أخرى وحيوية المجتمع في حيوية شبابه، لأن الشباب هم أعمدة الوطن وحماته وهم الشموع التي تضيء دروب البلاد وتقود الأمة إلى النصر والتحرر، و إلى الهدف الأسمى والطريق السوي المضمون النجاح، وذلك لا يكون إلا بالاهتمام به ورعايته وتعليمه وتوعيته وتكوينه وتنظيمه في جمعيات ثقافية وأدبية ورياضية و تربوية و خيرية ... الخ.

هذا ما فعله رحمة الله عليه وأصحابه في التربية والتعليم والإعلام والجمعيات الكشفية والرياضية والفنية والأدبية في كامل الوطن شرقا و غربا منذ بداية نشاطه سنة 1913 حتى التحاقه بالرفيق الأعلى في 16 أفريل 1940م. وكانت إسهامات الشيخ ابن باديس ورفاقه واضحة المعالم في تقوية الروابط الثقافية والفكرية والعلمية والفنية بين أبناء الوطن الواحد لتزداد تقاربا واتحادا وتعاونا وتضامنا فيما بينها أملا في السعي رويدا نحو استعادة الجزائر لاستقلالها ومكانتها المتميزة تحت الشمس، أليس هو القائل في صرخته المشهورة في وجه الاستعمار وأعوانه الذين كانوا يعملون على تشتيت صفوف الشعب الجزائري وتفريقه إلى طوائف وعروش وقبائل وأعراق وعرب وأمازيغ...الخ. «إنّ أبناء - يعرب – وأبناء مازيغ - قد جمع بينهم الإسلام منذ بضعة عشر قرنا - ثم دأبت تلك القرون تمزج ما بينهم في الشدة والرخاء، وتؤلف بينهم في العسر واليسر وتوحدهم في السراء والضراء ،حتى كونت منهم خلال أحقاب بعيدة عنصرا مسلما جزائريا أمه الجزائر وأبوه الإسلام " الشهاب فيفري 1936".

لا تعليقات

اترك تعليق

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.