الشيخ محمد الطاهر آيت علجت.. سمْتُ المؤمن ووقارُ العالم
محمد بوالروايح

الشيخ محمد الطاهر آيت علجت.. سمْتُ المؤمن ووقارُ العالم

بقلم: محمد بوالروايح-

مائة عام أو تزيد قضاها الشيخ محمد الطاهر آيت علجت مجاهدا بالسنان وباللسان وهو بين الجهادين كالعلامة الهادية التي يهتدي بها كل من ضل به قلمه وزلت به قدمه ووقف حائرا يتلمس طريقه في زمن القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر. إن الشيخ آيت علجت رجلٌ من خيارنا، صلب العريكة، قوي الشكيمة لا يخشى في الله لومة لائم ولا يشتري بآيات الله ثمنا قليلا.. رجلٌ تجلت فيه نخوة المسلم وسمت المؤمن ووقار العالم، لا يُرى في المجالس إلا مُطرِقا أدبا، له مهابة ظاهرة وقبول لدى العامة والخاصة، ليس بالمتصنع في خطابه ولا بالمتلكئ في كلامه، ولا بالمجادل المكابِر ولا بالرجل الذي يستثقله مجالسه ويمله مرافقه.

الشيخ آيت علجت سحابة من المهابة يقصد في مشيه وكأنه يحاكي في ذلك من وصفهم الله تعالى بقوله: “وعباد الرحمن الذين يمشون على الأرض هونا وإذا خاطبهم الجاهلون قالوا سلاما” (الفرقان 63). لقد أخذ الشيخ عن بلاد القبائل طيبة سكانها وعراقة أهلها واغترف من ينابيع علمها يوم كانت منارة عامرة تغبطها على ذلك إمارات الشرق والغرب.

للجزائر رجالها الذين صنعوا مجدها ورفعوا رايتها وذابوا عن حياضها، ومن هؤلاء الرجال الشيخ محمد الطاهر آيت علجت، نحسبه كذلك ولا نزكي على الله أحدا، فللرجل سجلٌّ حافل من المآثر في الماضي والحاضر لا ينكره إلا مكابِر، سجلٌّ يزينه جهاده بمعية إخوانه من الجزائريين من الرعيل الأول في سبيل الله والوطن، فحسبهم فخرا أننا جيل الاستقلال ومن جاء بعدنا صنعة أيديهم وثمرة نضالهم.

قرأت في سيرة الشيخ ما أدهشني وتمنيت لو أنني أوتيت معشار ما أوتي ولكنه فضل الله يؤتيه من يشاء من عباده. ليس في سيرة الشيخ آيت علجت مقالاتٌ كثيرة ولا مؤلفات غزيرة ولكن فيها مناقبَ كثيرة يفتقدها كثيرٌ من أصحاب التآليف والتصانيف، فالرجل ممن يناضلون من أجل الفكرة ويستميتون في الدفاع عنها وليس ممن يبدعون في صناعة الأفكار ثم يدعونها سائبة هائمة على وجهها، يتلقفها العوام ويتصيَّدها لصوص الأفكار.

إن العبرة ليس بكثرة العلم ولكن بالعمل به ولو على قلته، فالإنسان إنما يُسأل عن علمه ماذا عمل فيه، كما جاء في حديث ابن حبان والترمذي في جامعه: “لا تزول قدما عبد يوم القيامة حتى يسأل عن أربع.. وعن علمه ماذا عمل فيه”. ليس هناك مهانة أكبر من مهانة عالم أوتي نور العلم ولكنه حُرم حسنُ العمل فكان حاله أشبه بمن قص علينا القرآن الكريم قصته: “واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان فكان من الغاوين ولو شئنا لرفعناه بها ولكنه أخلد إلى الأرض واتبع هواه” (الأعراف 175). إن العلم الذي لا يكون له أثرٌ على حياة الفرد ونهضة الأمة علم لا فائدة منه لأنه بابٌ إلى الغواية وطريق إلى الضلالة، وقد ابتليت أمتنا الإسلامية في قرونها العجاف بهذه المصائب فأصابها ما أصابها من الهوان لولا جهد بعض العلماء العاملين الذين علموا فعملوا،  ونحسب الشيخ آيت علجت من هذه القلة القليلة التي سمت بعلمها فصارت مثلا يحتذى.

لقد بلغ الشيخ آيت علجت من الكبر عتيّا، عمر أفناه في محاريب العلم وميادين العمل، وفي حديث أبي صفوان الأسلمي: “خيركم من طال عمرُه وحسُن عمله”. إن مجرد طول العمر ليس فيه ما يُمدح إذا لم يصاحبه حسن العمل. إن الإنسان لا يملك عمره ولكنه يملك حسن العمل فيه، كما قال الشيخ محمد بن صالح العثيمين رحمه الله في تفسير الحديث سالف الذكر: “.. أما طول العمر فإنه من الله، وليس للإنسان فيه تصرُّف؛ لأن الأعمار بيد الله عز وجل، وأما حسن العمل؛ فإن بإمكان الإنسان أن يحسن عمله؛ لأن الله تعالى جعل له عقلا، وأنزل الكتب، وأرسل الرسل، وبيّن المحجّة، وأقام الحجة، فكل إنسان يستطيع أن يعمل عملا صالحا”.

إن أكثر المصائب التي ابتليت بها الأمة العربية والإسلامية مردها إلى غياب ثقافة العمل، وأما العلم فقد بلغت فيه شأوا بعيدا وخاصة في قرونها الذهبية، وقد ترتب على غياب ثقافة العمل فقدان الصدارة في ميزان الحضارة ولا مخرج من هذه المحنة إلا بالاقتداء بسلف هذه الأمة في الجمع بين الحسنيين، العلم والعمل، وقد أدرك شيخنا آيت علجت حفظه الله هذه الحقيقة فأخرج العلم الذي تعلّمه في الجوامع إلى المجامع وانضمّ إلى كوكبة العلماء العاملين الذين كانوا في فترة الاستعمار مصابيح للهدى تنير درب السائرين وتُرشدهم إلى روضة السالكين.

وُلد الشيخ محمد الطاهر في قرية “ثاموقرة بني عيدل” وقد أقام هناك نظاما تعليميا أقرب إلى النظام الزيتوني والنظام الباديسي وتحولت “معمرة ثاموقرة” إلى محجّة يقصدها طلاب العلم من كل حدب وصوب، وقد كان عمل الشيخ في هذه المعمرة العامرة شكلا من أشكال النضال الثقافي الذي كانت منطقة القبائل والجزائر بصفة عامة في أمسِّ الحاجة إليه لمقاومة تيارات التغريب التي يتولى كبرها رهبانُ الكنيسة بدعم من الإدارة الاستعمارية

. و”ثاموقرة بني عيدل” لمن يعرفها هي قرية صغيرة من قرى منطقة آقبو، كانت منطقة معزولة جغرافيا ولكنها كانت قلعة من قلاع العلم، في زاويتها زاوية الشيخ “يحيى العيدلي”، حفظ الشيخ آيت علجت حفظه الله القرآنَ الكريم وألمّ بأمهات كتب الفقه والتفسير ومنها انطلق في الجزائر واعظا ومدرِّسا ومفسِّرا. هذه هي “ثاموقرة بني عيدل” في احتضانها لأهل القرآن تماما كما هو شأن أخواتها في منطقة القبائل كلها التي كانت ولا تزال شوكة في حلق الكائدين وصخرة تتحطم عليها مكائد المتربصين بالدين والوطن.

ولأن حرمة الأوطان من حرمة الأديان لم يتردد الشيخ آيت علجت حفظه الله في الاستجابة لنداء الوطن وتجند في صفوف جبهة التحرير الوطني، وهذا مقتطف مما جاء في موسوعة “عريق” عن النضال الثوري للشيخ: “.. شارك في الثورة الجزائرية، هو وسائر طلبة زاوية سيدي يحيى العبدلي الذين التحقوا كلهم بركب المجاهدين بعد أن فجّر الاحتلال الفرنسي زاويتهم في أغسطس 1956م. سافر إلى تونس في أواخر سنة 1957م بإشارة من العقيد عميروش الذي كان الشيخ يتولى منصب القضاء في كتيبة جيشه، كما كان يتولى فصل الخصومات. ثم انتقل إلى طرابلس الغرب بليبيا حيث عيِّن عضوا في مكتب جبهة التحرير هناك”.

تتلمذ على الشيخ علجت حفظه الله كثيرٌ من الأخيار، منهم مولود قاسم نايت بلقاسم رحمه الله الذي استمتعنا بفكره العميق وفقهه الدقيق، ولغته الرصينة، وقد عُرف عند الجزائريين بأنه مهندس برامج التعريب التي أرادها وثلة من رجال هذا الوطن أن تكون سدا منيعا لمقاومة تيارات التغريب التي زحفت على الجزائر على غرار كثير من الدول العربية في مرحلة كان فيها الجزائريون حديثي عهد بالاستقلال لم يكملوا بعد تحصين بيتهم الداخلي ضد العدو الداخلي والخارجي. ومن تلاميذ الشيخ أيضا محمد الشريف قاهر الذي غادرنا قبل سنوات وكتبت عنه في جريدة الشروق اليومي مقالا بعنوان: “محمد الشريف قاهر.. عالم آخر يرحل إلى العالم الآخر”. كان الشيخ قاهر أنموذجا فذا في الدعوة وفي الفتوى وقد كان أشبه رفاقه بالشيخ آيت علجت في سمْتِه ووقاره وسعة صدره وغزارة علمه. ومن تلاميذه أيضا الشيخ الوقور أبو عبد السلام الذي يجمع الجزائريون على حبّه وحب الاستماع إليه، رجل عرفته شخصيا فأكبرتُه وجالسته فأحببته، وأسأل الله أن يطيل في عمره ويبارك في جهده وأن يجزيه عن الجزائر وعنا خير الجزاء.

الشيخ محمد الطاهر آيت علجت رجلٌ سكن حبُّه قلوب الجزائريين ووردت سيرته في كتابات المؤرخين، وقد تناول سيرته الفكرية والثقافية وسيرة ثلة من علماء الجزائر المؤرخ يحيى بوعزيز في كتابه: “أعلام الفكر والثقافة في الجزائر المحروسة”. وأهيب بالباحثين والمؤرخين الشباب في الجامعات على وجه الخصوص أن يختطوا نهج يحيى بوعزيز وأبي القاسم سعد الله وآخرين في التعريف بأعلام الجزائر، فإنما الأمم بعلمائها وإن فقدَهم ثلمة لا يسدّها إلا من ساروا سيرتهم وناضلوا نضالهم ونالوا شرف الانتساب إليهم.

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.