ابن نبي والإبراهيمي.. كيف حارب جزائريَّان الاحتلال الفرنسي بالفكر والقلم؟
بقلم: محمود خالد-
في عام 1830م، حطَّ الاحتلال الفرنسي رحاله في الجزائر، وقد كان الفرنسيون طيلة تاريخ التجاذب بين الشرق الإسلامي والغرب الأوروبي رأس حربة الصراع وسادته، وبذلوا ما في وسعهم لسحق أي تقدُّم للشرق الإسلامي أمام الآلة الفرنسية وأفكارها. ولمَّا نزلوا الجزائر واحتلوها في النصف الأول من القرن التاسع عشر ارتكبوا في سبيل أهدافهم أفظع الجرائم وأشدها نكالا، لكنهم لم ينسوا أن نشر "التفرنس" والتغريب يحتاج إلى ثلة من العلماء والمستشرقين ليُوجِّهوا بوصلة جهدهم العسكري والسياسي، فاهتموا على الدوام بعلمائهم ومستشرقيهم.
كان على رأس هؤلاء العرَّابين المستشرق الشهير "لويس ماسينيون" (1883-1962م) الذي امتلك مشروعا استشراقيا عتيدا هدف إلى صناعة نخبة من شباب تونس والمغرب والجزائر ممَّن تعلَّموا في فرنسا ليحملوا لواء المشروع الفرنسي في بلادهم. وقد تنبَّه العديد من أبناء شعوب المغرب العربي لهذه الإستراتيجية وخطورتها على وحدة الثقافة والمصير، بل وعلى مشروع التحرُّر الوطني لبلدانهم وشعوبهم. وكان على رأس هؤلاء رجلان من أشهر رجالات الإصلاح وأعظمهم، لا في الجزائر والمغرب العربي فحسب، بل في العالم الإسلامي كله منذ القرن العشرين وحتى يومنا هذا، وهما من أبناء مدينة "قسنطينة" شرقي الجزائر: العالم الشيخ "محمد البشير الإبراهيمي" (1889-1965م)، والمفكر "مالك بن نبي" (1905-1973م).
البشير الإبراهيمي وجمعية العلماء المسلمين
يُعَدُّ الإمام الإبراهيمي واحدا من أهم العلماء المسلمين الجزائريين في العصر الحديث، وقد وُلد ونشأ في مدينة "سطيف" القريبة من قسنطينة سنة 1889م، وتعهَّده والده في شؤون التربية والتعليم، فنشأ على الدرس والتعلُّم وحفظ القرآن الكريم، ولما رأى فيه والده النباهة والإقبال على العلم، ساعده على الخروج لاستكمال تعليمه في الجزيرة العربية والشام، وذلك في رحلة علمية سنة 1911م، إذ أقام بالمدينة المنورة حتى سنة 1917م آخذا على يد علمائها وكُبرائها، ومنها انتقل إلى دمشق التي نهل على يد شيوخها حتى سنة 1921م، ثم عاد إلى الجزائر إبَّان نشاط الحركة العلمية الإصلاحية لصديقه العلامة الشيخ المجاهد "عبد الحميد بن باديس".
انطلقت هذه الحركة مطلع القرن العشرين، ثم تطوَّرت حين عمل الشيخ ابن باديس بالتدريس في قسنطينة غداة تخرجه في الجامعة الزيتونية بتونس سنة 1913، وكان لها أعظم الأثر في المجتمع الجزائري الذي رزح تحت مجازر الاحتلال الفرنسي العسكرية والثقافية على السواء. وقد نضجت هذه اليقظة الروحية والإصلاحية مع عودة بعض العلماء من مهجرهم بالشرق العربي إلى الجزائر، وعلى رأسهم "أبو يعلى الزواوي" و"الطيب العقبي" و"البشير الإبراهيمي"، ثم تبلورت بإنشاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين عام 1931، غداة احتفال فرنسا بالعيد المئوي لاحتلال الجزائر، اعتقادا منها أنها قضت على الشخصية الجزائرية نهائيا بقضائها على الإسلام والعروبة فيها.
شكَّلت جمعية العلماء المسلمين في الجزائر منذ إنشائها في ثلاثينيات القرن العشرين وحتى انجلاء الاحتلال الفرنسي في الستينيات ثورة ثقافية ساعدت على تصحيح التشوُّه الثقافي والديني في البلاد، وقد وقف الشيخ الإبراهيمي صادحا إبَّان تأسيسها بأهم أهدافها أمام علماء الجزائر، فقال لهم: "إن جمعيتكم هذه أُسِّست لغايتين شريفتين، لهما في قلب كل عربي مسلم بهذا الوطن مكانة لا تساويها مكانة، وهما إحياء مجد الدين الإسلامي وإحياء مجد اللغة العربية. فأما إحياء مجد الدين الإسلامي فبإقامته كما أمر الله أن يُقام بتصحيح أركانه الأربعة: العقيدة والعبادة والمعاملة والخلق"[1].
انتُخب الشيخ ابن باديس رئيسا للجمعية والإبراهيمي نائبا عنه، غير أن الاحتلال الفرنسي سرعان ما ضاق ذرعا بنشاط الجمعية المناهض لأهدافه، فقرَّر اعتقالهم. وقد توفي ابن باديس في قسنطينة سنة 1940م، وفي عام 1943م أُفرج عن الإبراهيمي، فخرج الرجل بنشاط زائد وهمة بالغة، حيث أسهم في إنشاء 73 مدرسة وكُتَّابا في عام واحد كان الهدف من ورائها نشر اللغة العربية عبر حفظ القرآن الكريم.
على إثر هذا النشاط تهافت الجزائريون على بناء المدارس فزادت على 400 مدرسة في تلك الفترة، الأمر الذي جرَّ حنق الفرنسيين عليه من جديد، فقبضوا عليه سنة 1945م، لكن أُفرج عنه لاحقا، حيث قام بجولات في شتى أنحاء الجزائر لتجديد نشاط إنشاء المدارس والأندية، ثم اضطر إلى السفر خارج البلاد فاستقر سنة 1952م في القاهرة حتى عام 1954م، وهي السنة التي اندلعت فيها الثورة الجزائرية الكبرى. ساعتها، قرَّر الإبراهيمي أن يكون لسانا للثورة ومُعبِّرا عنها في الخارج، فاضطلع برحلات إلى الهند وغيرها من بلدان العالم يستمد منها المساعدة لعموم الثوار، ثم عاد إلى الجزائر بعد انتصار ثورتها، ورفض الانحياز لطرف ضد آخر من أطرافها، ثم أصدر بيانه الشهير في إبريل/نيسان عام 1964م مُنتقِدا السلطة القائمة برئاسة "أحمد بن بلة" لابتعادها عن المبادئ الإسلامية وتهديدها وحدة البلاد، فصدر قرار بوضعه تحت الإقامة الجبرية، وظلَّ كذلك حتى وفاته في مايو/أيار عام 1965م.
الإبراهيمي وفضح مشروع "فرانس-إسلام"
كان الشيخ الإبراهيمي من أشهر العلماء الجزائريين الذين وقفوا ضد التوغل الثقافي الفرنسي في بلاده، وقد أدرك حقيقة كذب دعاوى باريس وزيفها، وقلَّما خلت رسائله من توضيحات بالأدلة والبراهين على حقيقة الخداع الفرنسي وأهداف الاحتلال في بلاده، وعلى رأسها طمس الهوية العربية والإسلامية، لكن أخطر تلك الدعوات التي رد عليها الشيخ الإبراهيمي كانت توصية رفعها ماسينيون إلى إدارة الاحتلال الفرنسي في الجزائر، ودعت إلى إنشاء لجنة "فرانس-إسلام" التي أراد منها ماسينيون التوفيق بين الإسلام والدولة الفرنسية، واللافت أن الدعوة انطلقت عام 1950م، وتُشبه إلى حدٍّ ما الرؤية الفرنسية الحالية للإسلام المتوافق مع مبادئ الجمهورية الفرنسية، التي يُروِّج لها الرئيس الفرنسي الحالي "إيمانويل ماكرون".
استندت دعوة ماسينيون إلى ضرورة التدخُّل الفرنسي في القضية الفلسطينية بعد نكبة عام 1948م، وأن ذلك التدخُّل سيؤدي إلى تقارب الإسلام والمسلمين مع فرنسا، وضرورة مواجهة الاحتلال اليهودي الإسرائيلي بالحديث عن عالمية القدس وتدويل قضيتها، وبَيَّن لحكومته أن ثمة آليات يمكن بها ممارسة النفوذ، ومنها استخدام وتأمين وقف "أبي مدين الجزائري" المُقام في القدس الشريف، بحُكم تبعية الجزائر لفرنسا.
تعجَّب الإمام الإبراهيمي من دعوة ماسينيون وأغاليطه، فثمة تناقض شاسع بين أجندة فرنسا في الجزائر وإظهار احترامها للإسلام ومقدساته ومواجهة الاحتلال الإسرائيلي في القدس الشريف: "في الجزائر إسلام مُستباح الحمى، منتهك الحرمات، وفي الجزائر أوقاف دينية منقوضة العقود، مهدومة الحدود، وفي الجزائر مشرَّدون شبعوا بالجوع، واكتسوا بالعري، وعلموا بالجهل، وتداوَوا من المرض بالمرض، واستجاروا من الموت بالموت.. في الجزائر أصوات تتصاعد بطلب الحق من فرنسا غاصبة الحق.. فلماذا لم تقع عينك على الشر القريب، ووقعت على الشر البعيد؟ ولماذا لم تعطفي على الإسلام هنا، وعطفتِ عليه هناك؟ ولماذا لم تبدئي بتحرير أوقاف الإسلام في الجزائر، وبدأت بوقف أبي مدين في فلسطين؟ أم أن قلب المستشرق كالإبرة الممغطسة لا تتجه إلا إلى اتجاه واحد وهو الشرق؟"، هكذا تساءل الإبراهيمي[2].
يمكننا القول إن ماسينيون يومئذ كان أشهر مستشرق فرنسي تناول قضايا التراث الإسلامي تناولا مختلفا عن أقرانه من مبتدئي المستشرقين، وقد عُرِف بالعديد من دراساته المهمة حول التصوف والتشريع الإسلامي، وعلى رأسها دراسته عن "الحلاج" التي اشتهرت في الأوساط الشرقية والغربية معا، وكان لماسينيون جولات مع كثير من المفكرين العرب والمسلمين، لكن حقيقة استشراقه التي لم تكن علمية صرفة لم تخفَ على العلامة الإبراهيمي الذي وصف ماسينيون وغيره بأنهم "مستشرقون حكوميون" يجعلون العلم خدمة للاحتلال، فهو ممَّن "يجعلون الاستشراق ذريعة لاستهواء الشرقيين المفتونين بالغرب، الخاضعة عقولهم وأفكارهم لعقوله وأفكاره، وأنا أُسمي ثلة من هؤلاء المستشرقين حكوميين تسمية صادقة، فما هم إلا أذناب لحكوماتهم، وما هم إلا موظفون أو مستشارون حكوميون، وما هم إلا تراجمة للحكومات الاستعمارية، يترجمون لها معاني الشرق، ويدلُّونها على المداخل إلى نفوس أبنائه وإلى استغلال أوطانه"، على حد وصف الإبراهيمي[3].
مالك بن نبي.. من المهد إلى الوعي
إذا كان الشيخ الإبراهيمي قد فضح استشراق ماسينيون وعرَّى أهدافه، فإن عملاقا آخر من عمالقة الجزائر، وابنا آخر من أبناء قسنطينة، قد فضح ماسينيون في عُقر داره باريس، وبسبب ذلك عانى من الاضطهاد هو وعائلته أعواما عديدة. ذلك العملاق هو المفكر الكبير مالك بن نبي، أحد أعمدة مشروع الإصلاح في الجزائر الحديثة أثناء الاحتلال الفرنسي وبعد جلائه.
في يناير/كانون الثاني عام 1905م، وفي مدينة قسنطينة، أم المدن شرقي الجزائر، وُلد مالك بن الحاج عمر بن الخضر بن مصطفى بن نبي لأسرة جزائرية فقيرة، مُتشبِّثة بأهداب الإسلام، وقد أصرَّ والداه على تعليم ابنهما، حتى إن أمَّه اضطرت ذات يوم أن تدفع إلى معلم القرآن سريرها الخاص بدلا من المال[4].
يرى ابن نبي أن ولادته في تلك الفترة من الزمن مَكَّنته أن يكون شاهدا على القرن العشرين، حيث أُتيحت له فرصة الاتصال بالماضي والمستقبل كما يصف في مذكراته: "إن مَن وُلد بالجزائر سنة 1905م يكون قد أتى في فترة يتصل فيها وعيه بالماضي المُمثَّل في أواخر شهوده، وبالمستقبل المُتمثِّل في أوائل صائغيه. وعلى هذا قد كان لي حين وُلدت تلك السنة الحظ الممتاز الذي يُتيح لي أن أقوم بدور الشاهد على تلك الحقبة من الزمان"[5].
لعل هذه الجدلية والنزاع بين الماضي والحاضر في سياق وحياة ابن نبي تجلَّت منذ اللحظة الأولى التي التحق فيها بالمدرسة الابتدائية ثم الثانوية "الإسلامية الفرنسية"، إذ تعلَّم على أيدي مدرسين مسلمين وفرنسيين، ونال الثانوية عام 1925م. وبسبب حالته المادية القاسية، حاول ابن نبي أن يجد عملا في موطنه لكن بلا جدوى، فسافر إلى باريس للبحث عن عمل، ومكث بها عاما واحدا فقط، ليعود مرة أخرى إلى الجزائر بعد أن خانه التوفيق، ثم اضطر مرة أخرى سنة 1930م للسفر إلى فرنسا بهدف دراسة الحقوق، بيد أن الفرنسيين لم يوافقوا على قبوله بالكلية لأنه جزائري مسلم معارض لوجودهم في بلاده.
اضطر ابن نبي إلى الالتحاق بمعهد الهندسة والميكانيكا، كما درس الكيمياء التطبيقية في أحد المعاهد الليلية بجوار دراسته للهندسة، وفي عام 1931م تزوج من امرأة فرنسية أسلمت على يديه. وفي فرنسا، قام ابن نبي بجوار دراسته بنشاط تثقيفي وتوعوي كبير وسط الطلبة المغاربة، حتى لقَّبوه باسم "زعيم الوحدة المغربية"، وحرص على مقابلة أعلام الإصلاح العربي الذين درسوا في فرنسا أو زاروها مثل المصري العلامة "محمد عبد الله دراز"، والمفكر والمؤرخ اللبناني "شكيب أرسلان".
كانت الجزائر حينذاك قد أتمَّت قرنا كاملا تحت سلطة الاحتلال الفرنسي، ورأى ثلة من الجزائريين أن طريق الإصلاح ومقاومة وجودهم يبدأ بالعودة إلى الأصول الإسلامية والحضارية للشعب الجزائري، فالتقطت فئة من علماء الجزائر ذلك الخيط وعلى رأسهم العلامة "عبد الحميد بن باديس" و"البشير الإبراهيمي" وآخرون، ورأوا أن يُعيدوا سلوك طريق الدعوة ونشر التعليم والتربية الإسلامية التي حاربها الفرنسيون، فأقاموا المدارس والجمعيات، وأحيوا دور المساجد والجوامع، وعملوا على نشر المجلات والصحف، وتأثروا في ذلك بأئمة الإصلاح في المشرق مثل "جمال الدين الأفغاني" و"محمد عبده" و"رشيد رضا" و"بخيت المطيعي" وغيرهم[6].
تابع ابن نبي هذه التطورات الإصلاحية والوطنية من باريس، وقد منحته دراسته العلمية في فرنسا، مع دراسته الشرعية والقرآنية في الجزائر، رؤية أرحب وأوسع، ورغم شظف العيش وصعوبة العمل ومحاربة الفرنسيين له في سلك التعليم، فإنه وجد راحته مع أبناء شمال أفريقيا من طلاب تونس والمغرب والجزائر في فرنسا، متناولا معهم أطراف الحديث عن الوضع في المغرب العربي، وعن طريق الإصلاح المرجو، وسرعان ما أسَّسوا "نادي المؤتمر الجزائري الإسلامي للثقافة"[7].
في بيت العنكبوت
حرص الاستشراق الفرنسي آنذاك على فصل شعوب شمال أفريقيا عن محيطهم العربي والإسلامي بواسطة أدوات الاستشراق اللغوي والإثني، لا سيما بين أبناء الجاليات المقيمة في فرنسا، وهم النخبة التي أراد الفرنسيون عبرها بثَّ أفكارهم الاستعمارية في تونس والجزائر والمغرب. وقد أدرك ابن نبي هذه الحقيقة، ففضح "شبكة العنكبوت" الاستشراقية هذه كما يصفها في مذكراته، مُسمِّيا إياها بـ "العفن". وكتب ابن نبي: "عندما أخبرني صديقي ’بن ساعي‘ برغبة ماسينيون في لقائي كنتُ أجهل أن جميع الخيوط التي تُحرِّك عالمنا الصغير (عالم الطلبة المسلمين لشعوب شمال أفريقيا بباريس) كانت بين يدي هذا الأخير، وكان هو نفسه خفيّا متواريا كالعنكبوت في بيتها، ويجب أن أقول من جهة أخرى إنني أخذت وعيا في الحين لماذا تسعى هذه العنكبوت لاجتذابي في شبكتها"[8].
كانت محاضرات ابن نبي للطلبة المسلمين، ولا سيما للتونسيين والمغاربة والجزائريين، صداعا مزمنا في رأس ماسينيون الذي حاول اجتذاب ابن نبي بالإغراء والتلطُّف في بادئ الأمر: "أدركتُ إذن أنه يريد أن يقابلني لأني كنتُ بمنزلة الذبابة التي يزعجه طنينها وقد تقطع بأجنحتها نسيج بيت العنكبوت التي نسجها؛ إذ ليس المهم عند عنكبوت من فصيلة جيدة اصطياد الذبابة، ولكن القبض عليها دون أن تُمس خيوط بيتها بأذى"[9].
أدرك مالك أن أفضل وسيلة للهجوم على أفكار ماسينيون والاحتلال الذي أراد إسلاما على مقاس الفرنسيين، وشعوبية تخدم مصالحهم في مستعمراتهم بشمال أفريقيا، أن يتكئ على التاريخ والثقافة المشتركة لهذه الشعوب، فيقول: "بالفعل ألقيتُ محاضرة في جمعية الطلبة عنوانها ’لماذا نحن عرب؟‘". ويستطرد موضِّحا: "كانت أطروحتي تقع على طرفَيْ النقيض من آراء ماسينيون البربرية واللاتينية والتنصيرية والمفرنسة"[11].
لكن ماسينيون بعدما فشل في ضم ابن نبي إلى صفه وقف له بالمرصاد، فتتبَّع تحرُّكاته وحاصر طموحاته الدراسية والمهنية داخل فرنسا عبر الشرطة والمخابرات، بل وامتدت جهوده إلى الجزائر، إذ أُقيل أبوه من عمله بإشارة من ماسينيون، لتعيش أسرته وضعا صعبا، ولكن ابن نبي كان عنيدا لا يخضع، بل يظهر من خلال ما سرده في كتابه أن محاولات الإدارة الاستعمارية إيذاءه لم تزده إلا إصرارا وعنادا[12]. وحين فشل ابن نبي، وهو الطالب المتميز والمهندس الكهربائي المكين، في أن يجد فرصة عمل يسد بها رمق عائلته، قرَّر أن يذهب إلى الحجاز لعل دراسته الهندسية تمنحه وظيفة يعيش منها هناك، لكنه حين وصل مصر وقدَّم للتأشيرة تفاجأ برفض طلبه، وقد عرف أن ذلك بسبب توصية من ماسينيون. هذا وعاد ابن نبي إلى بلاده بعد استقلالها عام 1963 وشغل منصب مدير التعليم العالي لأربع سنوات، وقد ظلَّ نشطا في العمل على الإصلاح العربي والأفريقي والإسلامي حتى توفي عام 1973.
هكذا وقف رجلان من كبار رجالات الإصلاح الفكري والثقافي في الجزائر في القرن العشرين أمام أخطر مشاريع الاحتلال الفرنسي الثقافية، التي وقف خلفها "مستشرق حكومي" بتوصيف الإمام البشير الإبراهيمي، أو "عنكبوت" أراد نشر البربرية والتنصير والتفرنس كما وصفه المفكر مالك بن نبي، وقد كان لجهودهما بالكتابة والمحاضرات والندوات أثرها في كشف هذا الزيف والخداع الفرنسي اللا محدود رغم التضييق والقسوة التي كابدها كلاهما على يد الاحتلال ورجالاته.
المصادر
1- البشير الإبراهيمي: جمعية العلماء، دعوتها وغايتها، مجلة الشهاب، أغسطس 1933م.
2- الإبراهيمي: جريدة البصائر، العدد 115، إبريل 1950.
3- السابق.
4- الإبراهيمي، لجنة فرانس – إسلام، مجلة البصائر، العدد 114، إبريل 1950م.
5- حازم ماهر: مالك بن نبي، مجلة المسلم المعاصر
6- مالك بن نبي: مذكرات شاهد للقرن ص9.
7- الشيخ عبد الحميد بن باديس باعث النهضة الإسلامية ص99-140.
8- مذكرات بن نبي ص271-272.
9- مالك بن بني: العفن 1/26.
10- بن نبي: السابق 1/27.
11- السابق.
12- أحمد البان: كتاب العفن أو انفعالات مالك بن نبي، إسلام أون لاين.