مفهوم الوطن والـوطنية عند الشيخ ابن باديس
بقلم: أد. مولود عويمر-
لقد أولى رجال الفكر ورواد الإصلاح في العالم العربي أهمية بالغة لسؤال الانتماء، فظهرت أدبيات عديدة في الفترة المعاصرة عالجته من جوانب متعددة، وتناولته من زوايا مختلفة، وكان من بين هؤلاء العلماء: الشيخ عبد الحميد بن باديس (1940-1889).
يطمح هذا المقال إلى الإجابة عن مجموعة من التساؤولات في سياق الأفكار السابقة، وهي: ما هو مفهوم الوطن عند الأستاذ ابن باديس؟ وما هي العلاقة بين الوطن والوطنية؟ وما هي مقوّمات الوطنية؟
مـعـنـى الـوطـن
كان الشيخ ابن باديس من السباقين إلى الحديث عن موضوع الوطنية في الوقت الذي كان الكلام عنها ممنوعا أو خطيرا. وقد كان ذلك في عام 1925 حينما أصدر جريدته «المنتقد» وجعل شعارها: «الحق فوق كل أحد، والوطن قبل كل شيء». والوطن كما عرّفه ابن باديس هو: «قطعة من الأرض خلقها الله منها (الأمة) ومنحها لها، وإنها هي ربتها وصاحبة الحق الشرعي والطبيعي فيها، سواء اعترف لها من اعترف وجحده من جحد».
وعاد في عام 1937 لشرح شعار «المنتقد» والتأكيد على المعنى السابق في مقال عنوانه: «الوطن والوطنية». وقد اعتبر أن شعور الإنسان بالإنتماء إلى الوطن شعور فطري شأنه في ذلك شأن كل المخلوقات الحية، التي تشعر بحب الذات وغريزة البقاء، فقال في هذا السياق: «من نواميس الخلقة حب الذات للمحافظة على البقاء، وفي البقاء عمارة الكون. فكل ما تشعر النفس بالحاجة إليه في بقائها فهو حبيب إليها. فالإنسان من طفولته يحب بيته وأهل بيته، لما يرى من حاجته إليهم واستمداد بقائه منهم، وما البيت إلا الوطن الصغير، فإذا تقدم شيئا في سنه اتسع أفق حبه وأخذت تتسع بقدر ذلك دائرة وطنه».
ويصنف الشيخ ابن باديس الوطن إلى 3 أصناف: الوطن الصغير (البيت والأسرة)، الوطن الكبير (الوطنية)، والوطن الأكبر (الإنسانية). وكل هذه الأصناف يدركها الإنسان مع تطوّر إدراكه بالمحيط والبيئة والعوالم المختلفة.
مـفـهـوم الـوطـنـيـة
الوطنية هي تجسيد لمقولة: «حب الوطن من الإيمان» لكن كيف يكون الإنسان وطنيا أو كيف يتجسد حب الوطن؟ قال إبن باديس في الإجابة عن هذا السؤال: «أنا رجل مسلم ورجل وطني، كل حواسي وكل عقلي هو لخدمة وطني، نعم أخدمه وأدرجه حتى لا يكون هنالك انحدار ولا انهيار». الوطنية هي إذن مسؤولية، وتضحية في سبيل خدمة الوطن.
الوطنية هي شعور الإنسان بالحب تجاه «الذين يماثلونه في ماضيه وحاضره وما ينظر إليه من مستقبله ووجد فيهم صورته بلسانه ووجدانه وأخلاقه ونوازعه ومنازعه»، وهو ما نعبر عنه بلغة اليوم بـ «العيش المشترك».
أما مواقف الناس تجاه الوطن، فقد قسمها ابن باديس إلى 4 أصناف: صنف لا يقدر إلا وطنه الصغير، فهو أناني وعبء على المجتمع. صنف يقدر وطنه الكبير ويجهد للارتقاء به بوسائل غير مباحة تضر الأوطان الأخرى والأمم الأخرى، فهم مصيبة البشرية كالاستعمار. وصنف عرف الوطن الأكبر وتنكر للوطن الكبير والأصغر، فكانوا ضد الطبيعة. أما الصنف الرابع والذي يحبذه ابن باديس فهو ذلك الذي يعترف بكل الوطنيات وينزلها منازلها الطبيعية، ويعتبر كل مرتبة منها دعامة لما قبلها مؤمنا بأن «الإنسان يجد صورته وخيره وسعادته في بيته وطنه الصغير وكذلك يجدها في أمته ووطنه الكبير، ويجدها في الإنسانية كلها وطنه الأكبر».
وقد دعم ابن باديس رأيه بآيات قرآنية في هذا المعنى، وكذلك بمقالة مطوّلة لعبد الرحمان صدقي، ومقالين مختصرين لمحمد كرد علي ومحمد حسين هيكل، ومقال للمستشرق الفرنسي غوستاف لوبون..
والاهتمام بقضايا الأمة لا يعني إهمال للقضية الوطنية، لقد كان ابن باديس مشغولا القضية العربية والدفاع عن العروبة في كتاباته وخطبه ورسائله، لكنه لم ينس أبدا القضية الوطنية الجزائرية. والشيخ إبن باديس يعلّل التوافق بين الاهتمام بقضايا الوطن والأمة العربية بهذا الشكل: «وإنما نذكر المسلم الجزائري، لإشعاره بوجوده، فيعمل لإسلامه وجزائريته، فيكون ذا قيمة ومنزلة في المجموع».
المشاعر الثلاث:
اغتنم الشيخ عبد الحميد بن باديس تقريظ كتاب «محمد عثمان باشا» للأستاذ أحمد توفيق المدني لتصحيح الأخطاء التي تروِّج لها المدرسة التاريخية الاستعمارية حول الوطن الجزائري عبر العصور، وقال مخاطبا القُراء الذين يقدمون على قراءة ذلك الكتاب: «لا بد أن تخرج منه تحب من يجب أن تحب، وتبغض من يجب أن تبغض.. والحب والبغض سلاحان لازمان في الحياة ولا بقاء لأمة بدونهما إذا استعملتهما في غير محلهما». لكن كيف يحقق الانسان الجزائري هذه المعاني؟ تتشكل الوطنية من خلال المقوّمات الثلاث الآتية: الشعور بالاختلاف مع الآخر، الشعور بالظلم والعمل على التحرر منه، الشعور بالاعتزاز بالانتماء للوطن.
1- الشعور بالاختلاف مع الآخر:
كيف ينتمي الإنسان إلى مجموعة بشرية وهو لا يعرف خصوصياتها ولا يدرك عناصر الاختلاف والتشابه مع غيرها من المجموعات البشرية الأخرى. كاتب الشيخ ابن باديس رئيس تحرير جريدة «لوريبليكان» موضحا له وجهات النظر المختلفة حول بعض القضايا السياسية مصدرها الاختلاف حول الوطن والمصلحة الوطنية. فقال في هذا السياق: «لا ألومكم على ذلك ما دمتم ترونه إخلاصا لأمتكم ووطنكم كما كنت أنا مخلصا في منشوري لأمتي ووطني».
وسيبين ابن باديس هذه الخصوصية الجزائرية التي تختلف تماما عن الوطنية الفرنسية حينما يقول: «إن هذه الأمة الجزائرية الإسلامية ليست هي فرنسا، ولا يمكن أن تكون فرنسا، ولا تستطيع أن تصير فرنسا ولو أرادت. بل هي أمة بعيدة عن فرنسا كل البعد في لغتها وفي أخلاقها وفي عنصرها وفي دينها، لا تريد أن تندمج. ولها وطن محدود معين هو الوطن الجزائري بحدوده الحالية المعروفة».
2- الشعور بالظلم والعمل على التحرر:
الاستعمار يمثل أعلى درجات الاستبداد والاستعباد لما يمارسه من القهر والبطش فيستولي على أراضي الشعوب الأخرى، ويذل أصحابها المستضعفين ويستغل ثرواتها بغير وجه حق، ويمنع أبناءها من الاستثمار لمصلحتهم. ولا يكتفي ابن باديس بالتعبير عن تذمر الجزائريين من الظلم الاستعماري، وإنما كان يسعى دائما إلى كشف هذه المظالم ومحاربتها مهما كان حجمها أو مصدرها أو قوة فاعلها. وكان يفعل كل هذا لأنه ضد الاستعمار ونذر نفسه لمقاومته حتى يتحرر منه، مؤمنا بأن «الآلام هي مطهِّر الشعوب من أوضار الماضي، إلى نعيم المستقبل السعيد». ولا شك أن الظلم يؤدي حتما إلى الانفجار وكسر قيود الخوف، ويدفع المظلومين إلى انتزاع حقوقهم بالقوة.
3- الشعور بالاعتزاز بالانتماء إلى وطن ما:
وأقصد بذلك بأن تسود علاقة حب بين الإنسان ووطنه، ويعتز بالانتماء إليه، أما الإنسان الذي يخجل بوطنه وقومه فإنه يفقد طبيعته الإنسانية، ويصير كالشجرة التي لا جذور لها ولا أغصان، فلا يطمع منها الإنسان أن تورق في الشتاء وتثمر في الربيع وتحصد في الصيف.
وتقع المسؤولية على النخبة في الارتقاء بالوطن وتنمية الإرتباط به وخدمة مصلحته. ويتمثل دورها في شكل واضح في أن «تنشر العلم والفضيلة، وتحرير العقول والقلوب، والتسوية بين الناس في العدل والإحسان» والعمل على ذلك «في صدق وصراحة» والتحمل في سبيل ذلك «كل بلية».
مـن التحـرر إلى المحافظـة على الـوطـن
الاستعمار كما عرفه ابن باديس هو «استيلاء أمة على أمة لإذلالها واستغلالها، ومنعها من استثمار مواهبها الإنسانية، في مصلحتها ومصلحة البشرية جمعاء حتى تبقى أبدا موردا للأمة المستولية عليها» وعلى ضوء هذا المفهوم تعامل الشيخ ابن باديس مع سياسة سلطة الاحتلال الفرنسي في الجزائر، وناضل على مراحل وفرّق بين الجنسية السياسية المشتركة بالتراضي أو بالقوة والجنسية القومية الأصيلة، وساند الأمير شكيب أرسلان الذي اشترط الحرية والاستقلال لقبول إنضام أية دولة عربية إلى مشروعه حول الوحدة العربية. كما فرّق ابن باديس بين نظام الخلافة وروح الأمة الإسلامية التي دافع عنها بينما لم ينتفض على سقوط الخلافة الاسلامية في عام 1924 كما فعل جل العلماء المصلحين في عصره.
لقد كان ابن باديس مدركا قوة فرنسا العسكرية ونفوذها الاقتصادية والثقافية لكنه كان مؤمنا بزوالها لأنها استولت على الأرض واستعبدت أهلها الذين صبروا على كل ذلك وحافظوا دائما على دينهم ولغتهم وجزائريتهم رغم سياسة الجهل والتفقير والتنصير. وقد يفنى صبر الجزائريين يوما ويستعيدون كرامتهم ويحصلون على حقوقهم وينتزعون حريتهم ويسترجعون سيادة بلادهم.
أسهم الشيخ عبد الحميد بن باديس بكتاباته في تحديد العناصر المشكّلة للهوية، وضبط الأوعية التي تنصهر فيها لتصنع أشكالا سياسية واجتماعية وثقافية يعيش فيها الإنسان ويتطوّر في رحابها كالوطن. ولقد طرح أفكارا سياسية جريئة حول الوطن ومحدداته السياسية والثقافية، وناقش التصورات السائدة في عصره حول الوطنية، وحدّد طرق التعامل مع القوى المحتلة وفق شروط التغيير الممكنة والظروف القائمة.
ولم تكن نظرته متفقة دائما مع رجال الإصلاح في عصره، فقد اختلف أحيانا في الطرح خاصة في ما تعلق بالجنسية السياسية والجنسية القومية، وفكرة الخلافة والأمة، وكذلك تحديد سبل تعزيز الانتماء الحضاري للشعب الجزائري، وتقوية روابط الوحدة بين الجزائريين.