البيئة الثقافية من أهم عوامل تكوين شخصية ابن باديس
بقلم: د. علي الصلابي-
وقد تمثلت هذه البيئة في الحركة الفكرية الناهضة في التأليف والنشر والاهتمام بالعلم والإصلاح والحرية، فكانت بيئته تموج بتيارات ومذاهب متباينة، أبرزها: تعدد الحركات الإصلاحية، والطرق الصوفية، وانقسام أصحاب الرأي، إما إلى الوهبية والسلفية وإما إلى المادية الغربية، فكان على ابن باديس أن يختار الطريق والمنهج الصحيح الملائم لظروف مجتمعه، فجمع حوله العلماء، وأسس جمعية باسمهم في محاولة لمواجهة هذه المتناقضات الفكرية، واتفاقهم في الرأي حول ضرورة الرجوع إلى السلف الصالح، وتغيير ما بالنفس من آثار الانحطاط.
ويؤكد عمار الطالبي على أن الواقع الثقافي زمن ابن باديس وظهور بعض الشخصيات العلمية المتأثرة باراء محمد عبده التي نقلتها مجلة العروة الوثقى والمنار إلى المغرب العربي وخاصة الجزائر ؛ كان من أبرز العوامل التي أدت إلى تكوين شخصيته الفكرية.
كما يصف الأثر الإيجابي لزيارة الإمام محمد عبده إلى الجزائر، وزيارته للجامع الكبير بقسنطينة، في إحداث الاتصال والتواصل الفكري، ثم ظهور مجموعة من العلماء يحملون أفكار محمد عبده ومدرسة المنار ويقومون بتدريسها ونشرها، منهم: عبد الحليم بن سماية، وعبد القادر المجاوي، ومحمد بن مصطفى بن الخوجة وغيرهم.. فهؤلاء كانوا على صلة برشيد رضا ومدرسة المنار، وكانوا يدرسون رسالة التوحيد للإمام محمد عبده، إلى جانب دلائل الإعجاز للجرجاني، والاقتصاد في الإعتقاد للغزالي بالمدرسة الثعالبية بالجزائر.
ومن هنا كان تأثر ابن باديس بهذه البيئة، فظهرت منهجيته بوضوح في أسلوبه ودعوته إلى الاهتمام بالعقل والمنهج في رد الفروع إلى الأصول والأصول إلى مستنداتها، واهتمامه بأصول الفقه والبلاغة حيث اعتبر أن كتاب الموطأ للإمام مالك هو خير مناهج الاستدلال، ولذا قام بتدريسه بعد أن أتم حفظه، كما حرص على تدريس كتب الأمالي، وديوان الحماسة، وديوان المتنبي، ومقدمة ابن خلدون، والعواصم من القواصم، ودلائل الإعجاز ، وأسرار البلاغة إلى جانب القرآن وعلومه.
وكانت الحركة الإصلاحية في مصر وتونس والجزائر بيئة ثقافية مؤثرة في تكوين شخصية ابن باديس، حيث الاتصال المباشر بينه وبين رجال الإصلاح خاصة رشيد رضا وأتباع المنار في مصر، ومع عبد العزيز الثعالبي في تونس، فكانت هذه الحركات تعبر عن أفكار العصر، وتسعى لتحليل الأوضاع الاجتماعية ووضع طرق مواجهتها. فكان ضرورياً تباحث واتفاق زعماء الإصلاح حول أسس الدعوة الإصلاحية وكيفية انتشارها وتطبيقها، فكان التشابه والاتفاق بين منهج وأسلوب جمعية العلماء في الجزائر، والحركة الإصلاحية في مصر والمشرق العربي وإتفاقهم حول:
ـ ضرورة أن يكون العلم وسيلة للبناء الفكري والحضاري وتنمية القوى الروحية للفرد.
ـ ضرورة مواجهة الواقع الاجتماعي والخلقي المتدهور الناتج عن انتشار الجهل والبدع والضلالات.
ـ ضرورة توحيد الكلمة في الخير والسعي إلى الكسب وعمران البلاد مع الاقتصاد في المعيشة.
ـ ضرورة نشر العلم والدين والجد في تحليل كافة العلوم الدينية والتربوية.
ـ ضرورة القضاء على عوامل الجمود والجهل وبعث الشعور بالحياة والثقة في الرجال ومن بيدهم الحل والعقد.
ولهذا كان حرص ابن باديس على إبراز هدف جمعية العلماء وخطتها، وكان يقول بأن التعليم العام لابد وأن يكون أول ما نهتم به من شؤون إصلاحنا، ولابد من انتشار العلم على مستوى العامة مع حرية الفكر واستقلاله، وأن خطة الجمعية علمية دينية هدفها نشر العلم والفضيلة ومحاربة الجهل والرذيلة، وأن القرآن الكريم إمامُنا والسنة سبيلُنا والسلف الصالح قدوتنا.
ويصف لنا عمار الطالبي هذه البيئة الثقافية المتنوعة التي عاشها ابن باديس فيقول: إذا كانت الأوضاع الاجتماعية والأخلاقية تمثل جانباً من العوامل الداخلية التي أثرت في ابن باديس ورفاقه ؛ فإن هناك عوامل خارجية أيضاً، كان لها أثرها المباشر في تفكيره، وهي ابتداء النهضة في المشرق، وعودة الاتصال الفكري والثقافي بينه وبين المغرب عن طريق الصحف والكتب والمجلات والحج، هذا بالإضافة إلى الرحلات العلمية إلى جامع القرويين بالمغرب والزيتونة بتونس والأزهر بمصر، ثم كان من رواد هذه النهضة الفكرية السيد قدور بن مراد التركي الذي أسس المكتبة الثعالبية، والشيخ صالح بن مهنا بمؤلفاته الوطنية، والشيخ عبد القادر المجاوي بمؤلفاته التربوية والمدرسية. فهذه المؤلفات كان لها أثرها في رجال الإصلاح والنهضة، وفي مقدمتهم أستاذ ابن باديس حمدان الونيسي، ومن غريب المصادفات أنه في السنة نفسها توفي فيها الشيخ عبد القادر المجاوي ابتدأ عبد الحميد بن باديس حركته العلمية بمدينة قسنطينة، فاتصلت حلقات الإصلاح متطورة إلى مرحلة القوة والنضج.
كما كان للحياة السياسية والإعلامية التي حفلت بها تونس أثناء دراسته بها أثر بارز في حياته، لقد شهدت الفترة التي عاشها ابن باديس في تونس «1908م ـ 1912م» حياة سياسية نشيطة قادتها الشبيبة التونسية بزعامة علي باش حانيه ومعه عبد العزيز الثعالبي في 19 أكتوبر 1911م وتأسيس جريدة «الاتحاد الإسلامي» للدفاع عن القضية الليبية والدعوة إلى وحدة النضال وتضافر جهود المسلمين لدحر المستعمر من بلاد الإسلام، فازداد الشباب التحاماً بالقادة وفي مقدمتهم علي باش حانية وعبد العزيز الثعالبي وفي 7 نوفمبر 1911م جدّت أحداث الزلاج التي تعتبر بحق انتفاضة شعبية كبيرة، وقد تمرس فيها التونسيون على أساليب النضال واعتمدوها لمزيد إحكام التنظيم ولنشر الوعي بين المواطنين ومن ثم أصبح العمل السياسي عملاً شعبياً وليس عملاً نخبوياً كما كان في السنوات الماضية، وعطلت السلطات الاستعمارية الصحف التونسية عدا جريدة الزهرة دون أن تستطيع دفعاً لما حققته الحركة السياسية. ولم تفلّ أحداث الترامواي في 9 فيفري 1912م من ساعد الحركة، بل إن الحركة ازدادت في ظل هذه الأحداث صلابة ورسوخاً وانبرى الزعماء، وفي مقدمتهم علي باش حانية يحضون المواطنين على مقاطعة الترامواي، ومواصلة الكفاح. فعمدت السلطات الاستعمارية إلى نفي الزعماء السبعة.
في غمرة هذه الأحداث المتعاقبة عاش ابن باديس فشارك في الحركة الطلابية، وانحاز إلى التيار الإصلاحي في الزيتونة، وشهد التحول الحاسم للحركة الوطنية واستخلص العبرة من الأحداث التي عرفتها البلاد، ومما امن به الزعماء وفي مقدمتهم علي باش حانية وعبد العزيز الثعالبي من حتمية وحدة النضال في المغرب العربي، ومن أن الدفاع عن أي بلد مغاربي هو جزء لا يتجزأ من الدفاع عن تونس.
في مطلع جويلية 1937م قدم ابن باديس إليها ممثلاً لجمعية العلماء لتحية الزعيم، فزاره في بيته يوم 23 جويلية 1937م وأبلغه رسالة جمعية العلماء. وإن ما كتبه عن الثعالبي في مجلةالشهاب ليدل على عمق ارتباطه به واعترافه بزعامته وإكبار نضاله.
إن الفترة التي قضاها ابن باديس في تونس كانت فترة حافلة بالأحداث وضروب النضال، وتجربته فيها كانت ثرية في مجالات التعليم والإعلام والسياسة، وبعد أن انقضت السنة الدراسية «1911م ـ 1912م» التي تطوّع فيها للتعليم بجامع الزيتونة سافر إلى الجزائر حاملاً في قلبه هوى لتونس لم يبرحه، وفتح بنضاله وبمنهجه الإصلاحي افاقاً جديدة لم يعهدها وطنه من قبل. وحين كان يغذوه الشوق إلى الخضراء يفر إليها منشرح الصدر، مغتبط القلب مشبوب المشاعر لاستعادة ذكرى فترة حافلة من حياته، وللقاء النُخب التي بدت بها تونس حسب تعبيره «عروس الشمال الإفريقي وواسطة عقد وحدته».
ولما زار تونس في ديسمبر 1936م أقيمت له احتفالات عديدة أشارت إليها المجلة الزيتونية وأوردت له قوله: إن منبع السعادة والهداية في هذا الشمال الإفريقي هو جامع الزيتونة عمّره الله، وإنه المنبع الفيّاض الذي تصدر عنه كل حركة علمية أو إصلاحية.
لقد توطن في قلبه هوى لتونس لا يعادله إلا هوى تلمسان، ففي مقال نشره في «الشهاب» سنة 1937م بعنوان «في تونس العزيزة» ورد نصه: حقاً إن لتونس هوى روحياً بقلبي لا يضارعه إلا هوى تلمسان، أعرف ذلك من انشراح في الصدر، ونشاط في الفكر، وغبطة في القلب لا أجد مثلها إلا في ربوعها.
ففي رحاب الخضراء تشكل فكره وتألق وجدانه وتنوعت تجاربه، فظلت الخضراء بالنسبة إليه موئل حنين وواسطة عقد وملاذ هوى روحي لا ينقطع.
من كتاب كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي(ج2) - رجب 1442 هـ/ فبراير 2021