محمد الخضر حسين.. مفكر وشاعر وأديب بلا حدود
بقلم: عبدالوهاب قتاية-
ما لي لا ألمح من ذي الجمال- سوى الخيال- هلا يعاطيني كئوس الوصال- بلا ملال-فالحب ألقى مهجتي في نضال ماضي النصال ماذا ترى والهجر فيما يقال داء عضال؟ هذه الأبيات الرقيقة، التي تتناغم فيها أصداء الغناء الشجي، وألحان الموشحات المطربة، تتراءى لنا كأنها نفثة قلب عاشق يناجي محبوبته البعيدة بحنين وشجن. لكن الحقيقة أنها مطلع قصيدة في حب الوطن، جاشت بها نفس شاعر وهو بعيد عنه، يكابد الحنين إليه.
الوطن هو «تونس» الخضراء، أما الشاعر، فإنه في الأوساط الثقافية العربية لم يشتهر بأنه تونسي، ولا بأنه شاعر، وإنما عرفه الناس والتاريخ الثقافي الإسلامي الحديث، مفكراً إسلامياً مرموقاً، مناضلاً غيوراً على قضايا الإسلام، رائداً من مؤسسي الجمعيات والصحف المعنية بالدعوة والإصلاح، وعالماً لغوياً من الصفوة الذين كانوا الرعيل الأول لمجمع اللغة العربية عن إنشائه سنة 1932. وغطى على ذلك كله شهرته كإمام أكبر، وأول شيخ للأزهر في عهد ثورة يوليو 1952، وهو الشيخ محمد الخضر حسين. كان الطريق إلى كل هذا الذي اشتهر به، طريقاً حافلاً بالعلم والأدب، والعطاء السخي في خدمتهما وخدمة الوطن والنهضة العربية والإسلامية، كما كان حافلاً بالسفر والترحال والإقامة في غير بلد عربي وإسلامي وأوروبي، حتى ألقى عصا الترحال في القاهرة. فكان بذلك ــ عن جدارة واستحقاق ــ مفكراً وشاعراً وأديباً بلا حدود.
ولد الشيخ محمد الخضر حسين بمدينة نفطة بالقطر التونسي، في سنة 1877، في أسرة كريمة أصلها من الجزائر، وذات مكانة جليلة في العلم والحياة العامة.
وفي مسقط رأسه حفظ القرآن الكريم، وشدا جانباً من الأدب والعلوم الشرعية واللغوية. ثم انتقل مع أسرته إلى تونس العاصمة، حيث التحق بجامع الزيتونة، وبرز نبوغه، ونال شهادة العالمية.
كانت نفسه منعمة بهاجس الترحال، فبدأ برحلة لم تطل إلى طرابلس عام 1899، عاد بعدها إلى تونس ولزم الزيتونة يفيد ويستفيد، ثم أنشأ مجلته السعادة العظمى والتي يعدها بعض الباحثين أول مجلة أدبية علمية في شمال إفريقيا، وعلى صفحاتها أشرقت كتاباته، كما علت في المنتديات خطبه، صوتا من أصوات النهضة العربية السياسية والثقافية.
وتقلب في وظائف عدة كالقضاء والتدريس في الزيتونة والخلدونية، وكانت محاضرته «الحرية في الإسلام»، ومحاضرته «حياة اللغة العربية» التي بيّن فيها أطوار اللغة وفصحاة مفرداتها وحكمة تراكيبها وتعدد أساليبها وما تفردت به من إعجاز وخصائص جمالية، دليلاً على غزارة علمه وقوة أدبه وسعة أفقه ووعيه الحر النهضوي:«.. والحرية تؤسس في النفوس مبادئ العزة والشهامة، فإذا نظمت الحكومة منهم جنداً استماتوا تحت رايتها مدافعة ولا يرون القتل سبة، إذا ما رآه الناكسو رؤوسهم تحت راية الاستبداد..».
في عام 1906 رحل إلى الجزائر، وزار أمهات مدنها، وألقى فيها دروساً، ثم عاد إلى تونس فنشر عن ذلك لونا بديعاً من أدب الرحلات بلغ قمة الإجادة الفنية والثراء المعرفي بما تضمن من معلومات عن الأماكن وعن العلماء والأدباء فيها.
وعندما دهيت طرابلس بالغزو العدواني الإيطالي، كان في مقدمة الدعاة لتأييد الجهاد الليبي، واستنهاض الوعي العربي والهمم الإسلامية، من خلال مقالاته وشعره في «السعادة العظمى»:
ردوا على مجدنا الذكر الذي ذهبا
يكفي مضاجعنا نوم مضى حقبا
وفي عام 1912، انطلق العالم الأديب بلا حدود في رحلة طويلة إلى مصر، فدمشق، فالآستانة. وعندما عاد إلى تونس، ورأى تفاقم الظلم والاستبداد، عاد إلى الترحال: إلى مصر فدمشق فالآستانة.. وتقلب في أعمال عدة، وابتعثه الأتراك في مهام رسمية إلى ألمانيا أكثر من مرة، ثم استقر في دمشق، وساهم في معركة النهوض باللغة العربية التي كادت تقضي عليها حملات التتريك.
وفي دمشق، عانى ــ مع رموز العروبة والحرية ــ السجن والتعذيب، وزاد الأمر سوءاً بعد الاحتلال الفرنسي لسوريا. فقرر أن يشد رحاله إلى القاهرة، حيث صفوة العلماء والأدباء من مشرق الوطن ومغربه، وأجواء الحرية، وركب النهضة الصاعد، وحيث حصل على الجنسية المصرية.
كان وصوله إلى القاهرة في عام 1921 بدء أزهى مراحل حياته وعطائه، الذي تعددت مجالاته وإن دارت كلها حول خدمة العروبة والإسلام واللغة العربية، فراح يبحث ويدرّس ويكتب، ومن ثمار تلك المرحلة رسالته القيمة «الخيال في الشعر العربي»، ورسالته «القياس في اللغة العربية» التي نال بها عضوية جماعة كبار العلماء بالأزهر.
و«رسائل الإصلاح» في ثلاثة مجلدات تبين منهجه في الدعوة الإسلامية ووسائله النهوض بالعالم الإسلامي، و«آداب الحرب في الإسلام»... على أن من أعظم ما تذكره له الحياة الثقافية في مصر والعالم العربي والإسلامي مبادراته ومساهماته في تأسيس الجمعيات الثقافية والإصلاحية، ومنها «جمعية الشبان المسلمين»، والتي كان لها دور فعّل في قيادة وإثراء الحياة الثقافية العربية والإسلامية، و«جمعية الهداية الإسلامية» ومجلتها، وجمعية «تعاون جاليات إفريقيا الشمالية». وعندما أنشأ الأزهر مجلته التي كانت باسم «نور الإسلام» تولى رئاسة تحريرها.
وهكذا صار الشيخ الشاعر الأديب بلا حدود أحد أبرز أقطاب الأرحية في الحياة الثقافية الإسلامية في مصر، ومن أبرز مظاهر ذلك، أنه حين ظهر كتاب: «الإسلام وأصول الحكم» للشيخ علي عبدالرازق، لم تمنعه صداقته بمؤلفه من نقض أفكاره فقرة فقرة بكتاب شهير بعنوان: «نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم».
وفي السنة التالية ظهر الكتاب الزلزال: «في الشعر الجاهلي» للدكتور طه حسين، الذي يدور حول إنكار أصالة الشعر الجاهلي وادعاء أنه منحول، فتصدى الشيخ الأديب محمد الخضر حسين بكتابه القيم: «نقض كتاب في الشعر الجاهلي» وحين أنشئ مجمع اللغة العربية بالقاهرة سنة 1932، كان اسم الشيخ اللغوي الأديب بلا حدود محمد الخضر حسين، ضمن الرواد العشرين الذين بدأت بهم مسيرة مجمع الخالدين، وفي سبتمبر 1952 ــ عقب ثورة يوليو ــ توج عطاؤه ومكانته باختياره إماماً أكبر وشيخاً للجامع الأزهر.
«لقد سقطت المشيخة في حجري من حيث لا أحتسب..»، هكذا كان تعليقه على اختياره شيخاً للأزهر، لبعض خلصائه. وقد ولي الرجل منصبه وفي ذهنه برنامج إصلاحي شامل للنهضة به. ولقد أخلص الرجل في إعطاء منصبه حقه، فما كان يتخاذل أمام حاكم، ولا كان يجامل على حساب العقيدة، ولم يكن متشبثاً بالمنصب، وكان من أقواله المأثورة الدالة على عفة نفسه وزهده: «يكفيني كوب لبن وكسرة خبز، وعلى الدنيا بعدها العفاء..».
أما عن دوره في الأزهر فيؤثر قوله: «إن الأزهر أمانة في عنقي، أسلمها ــ حين أسلمها ــ موفورة كاملة. وإذا لم يتأت أن يحصل للأزهر مزيد من الازدهار على يدي، فلا أقل من ألا يحصل له نقص..». لذلك لم يكن غريباً حين أضناه ما لم يعجبه من الأحوال، زيادة على اعتلال صحته وأعباء شيخوخته أن يستقيل في يناير 1954. وتفرع للكتابة والمحاضرة والبحث العلمي والأدبي واللغوي، ولسان حاله كما يصور نفسه في قوله:
يرى الهمام، وما عير العلا هدفاً
ولا يباكر إلا الروضة الأنفا
والناس كالشعر إن وافيت تنقده
ألفيت سبك القوافي منه مختلفا
كم بين شهم يدوس الصعب في شمم
وخامل بات في مهد الهوى دنفا
طوال مسيرة الشيخ محمد الخضر حسين، وترحاله بلا حدود، كالمشعل المتنقل يرسل نوره هنا وهناك، كان الرجل مخلصاً لعقيدته، وأدبه، ولغته. وفي الأدب كانت قريحته الشاعرة واحة نفسه في التعبير عن عواطفه وأفكاره معاً.
في مطلع شبابه، لفت الأنظار والأذهان بأسلوبه الأدبي المحكم، وشعره البديع. ومن ذلك رائعته «الشعر العصري» التي نشرها في مجلته السعادة العظمى في تونس عام 1904، وجاء فيها:
أيعاتب الزمن الذي لا يسعد
وبنوه في مهد البطالة هجد؟
كنا بدور هداية ما من سنا
إلا ومن أنوارها يستوقد
كنا بحور معارف مدمن حلى
إلا ومن أغوارها يتصيد
ما صافحت راحاتنا دوحا ذوى
إلا وأينع منه غصن أغيد
فسلوا متى شيتم سراتهم فما
من أمة إلا لنا فيها يد
أبناء هذا العصر، هل من نهضة
تشفى غليلا حره يتصعد
هذه الصنائع ذللت أدواتها
وسبيلها للعالمين ممهد
وكذاك بذر العلم أخرج شطأه
ودنا جناه، فما لنا لا نحصد
إن المعارف والصنائع عدة
باب الترقي من سواها موصد
في الثاني من فبراير 1958، ودع الشيخ الحياة، وأسلم الروح، «لم يخلف من حطام الدنيا شيئاً» كما قال الشيخ عبدالحليم محمود، وهو من أبرز من تأثروا به. ولكنه خلف تراثاً علمياً نافعاً، وبحوثاً لغوية فذة، وأدباً صافياً سامياً، وشعراً بديعاً وديواناً جميلاً بعنوان «خواطر الحياة». وفوق ذلك سيرة رائعة جسورة للأديب بلا حدود.