المفكر والسياسي الثائر خوالدية صالح (1880- 1914) رائد قبل الرواد
بقلم: فوزي حساينية-
عندما يتعلق الأمر بالحديث عن الشخصيات الفكرية والسياسية التي كان لها دور في التأسيس لبدايات الوعي الوطني والتمهيد لظهور الحركات الوطنية في الجزائر أو في مختلف أنحاء المغرب العربي تبرز مباشرة بعض الأسماء التي كان لها دورها الحاسم ، ولكن هناك أسماء وشخصيات أخرى يبدو أنها لم تنل بعد حظها من الاهتمام ، وهو ما يجعل من الواجب أن نحاول التعريف بها استكمالا للصورة وإنصافا لذكرى هؤلاء الرُّواد، وفي هذا الصدد أودُ الوقوف على سيرة ونضال المفكر والسياسي خوالدية صالح الذي ذاع صيته في وقته ذيوعاً كبيراً ولكنه لايكاد يُذكر في وقتنا، إذ لولا دراسة المرحوم الدكتور عمار هلاّل حول هذه الشخصية الرائدة ودورها في التعريف بالقضية الجزائرية، لظلت صفحة ناصعة من تاريخنا الحديث نسياً منسياً ولذلك فقد استعنت بدراسة دكتورنا الراحل في كتابة هذا البحث الذي آمل أن يُضيف شيئا حول مُتَرْجَمِنَا الكبير، فمن هو خوالدية صالح ؟ وما هي أبرز المحطات في نضاله السياسي والفكري؟ وكيف كانت خاتمة أيامه؟
ولد خوالدية صالح يوم الثامن ماي سنة 1880بقرية بني مزلين على بعد عشرين كيلو مترا شرقي مدينة قالمة، وبمسقط رأسه التحق بإحدى المدارس القرآنية أين حفظ شيئاً من القرآن الكريم،ولما بلغ سن الدراسة القانونية أدخله والده مدرسة التعليم الاستعماري الوحيدة من نوعها في قالمة يومذاك، وقد أظهر منذ البداية شغفا كبيرا بالدراسة والتحصيل وأبدى تفوقا ملحوظا على أقرانه من أبناء الجزائريين وأبناء الكولون على السواء مما مكنه من إتمام المرحلة الابتدائية والمتوسطة بتفوق واضح، ليلتحق سنة 1895بمدينة قسنطينة لمتابعة دراسته الثانوية أين وجد المجال أمامه واسعا لتثقيف نفسه وتعميق معارفه،فكان إلى جانب دراسته الثانوية يتردد على المدرسة الكتانية لمتابعة بعض الدروس التي كان معنيا بها ومهتما بتحصيلها، كما كان يداوم على حضور الدروس التي كانت تنتظم في بعض مساجد وزوايا المدينة،وهذه الازدواجية في الدرس والتحصيل تُبْرِزُ بوضوح إحدى مزايا الشاب خوالدية صالح الذي لم يقف به طموحه عند مجرد الاكتفاء بتعلّمُ اللغة الفرنسية وما ينتج عن ذلك من مركز ثقافي واجتماعي كما هو حال زملائه الآخرين، بل إنه اعتبرَ أن تجاهل المرءِ لأصوله من خلال الانقطاع عن دراسة اللغة العربية من الأمور التي تُنافي الحكمة وتُجافي الروح العربي الخالد، خاصة بالنسبة لشاب مثله يبحث عن ذاته وعن مستقر لقلق الضمير وتضارب الأفكار وسيطرة المتناقضات في ظل واقع عنصري استغلالي رهيب كرسته الإدارة الاستعمارية في يوميات الجزائريين بل في كل لحظة من لحظات حياتهم ، ومن بين الوظائف التي اضطلع بها اشتغاله لمدة لدى وزارة المستعمرات الفرنسية كمترجم محلف لشؤون الأهالي بمنطقة السنيغال-غامبيا-النيجر- قبل أن يجري تسريحه من منصبه في الفاتح جوان 1903 وذلك فيما يبدو بسبب عدم الاطمئنان إلى التزامه وولائه،ولكن الشاب المتحمس لم ييأس وواصل تكوينه الذاتي بكل جد وإصرار، فكان من البديهي أن يُفضي هذا التوجه الواعي والجهد الصادق المتحمس الذي ما انفك صالح يبذله في التحصيل والتثقيف الذاتي في عصامية مثيرة للإعجاب إلى نتيجتهِ المحتومةِ، إذ أصبح صالح يتمتع بثقافة رصينة واسعة منحته القدرة على العمل السياسي والحركي ومكَّنته من الوقوف على حقيقة وأبعاد السياسات الاستدمارية الأوربية ومخططاتها لضرب العروبة والإسلام فشن بين سنتي1903-1906 حملة قلمية واسعة النطاق ندَّدَ فيها بالمظالم والمخازي التي يقترفها الاستدمار الفرنسي سراً وعلانية في حق الجزائر والجزائريين وفي حق مختلف المستعمرات الإفريقية التي كان خوالدية صالح قد زار الكثير منها وتعرف ميدانيا على واقعها المُفْجِعْ تحت وطأة الاستغلال والوحشية الاستدمارية الفرنسية والغربية بصفة عامة ، إذ أنه ألقى سنة 1903تحت إشراف الجمعية الجغرافية لمدينة الجزائر محاضرة علمية هامة حول الرحلة التي قام بها إلى كل من بحر الغزال( السودان حاليا) ومنطقة وَدّاي ( شمال التشاد)، وذلك تمهيدا فيما يذكر بعض الباحثين لخطوات سياسية كان ينوي القيام بها، وكما هو منتظر في تلك الظروف فإن كثرة تحركاته وكثافة اتصالاته مع مختلف الهيئآت والشخصيات السياسية والفكرية الأوربية والعربية قد أثارت حفيظة الإدارة الاستدمارية عليه وجعلها ترتاب فيما كان يُبيِّتهُ من أهداف وغايات فاعتقلته بوهران في أوائل شهر أوت من عام 1903لتدينه محكمة الردع الخاصة بالأهالي بالحبس النافذ مدة خمسة عشرة يوما وغرامة مالية قدرها خمسين فرنكا، وقد جاء الحكم في صورته المخففة هذه بسبب تدخل عدة شخصيات سياسية لصالحه، وبعد إطلاق سراحه سافر إلى تونس التي مكث بها بضعة أشهر حسب البعض أو مدة ثلاث سنوات كما يذكر البعض الآخر، وانطلاقا من تونس نشر تصريحا طويلا باللغة العربية والفرنسية، وقد أصدر تصريحه ذاك باعتباره رئيسا لهيئة سياسية تُدعى ” الإتحاد الإسلامي” مؤكدا من خلال هذا التصريح على حقيقة أن أوربا لن تكفَّ عن نهجها العدواني تجاه العالم الإسلامي وأن فرنسا وبريطانيا هما أكبر عدو للإسلام والمسلمين موضحا أن وحدة المسلمين هي الأساس وهي المنطلق المضمون لكل محاولة جادة ترمي لإخراج العالم الإسلامي من مأزق الضعف والسيطرة الغربية مبرزا في ذات الموضع أن التاريخ الإسلامي المجيد هو المنبع الذي يتوجب على المسلمين أن يستقوا منه مواقفهم وتطلعاتهم ليكون التاريخ أداة التعامل مع الحاضر وقوة فاعلة وديناميكية لتوجيه المستقبل وإعادة رسم معالم الوجود الإسلامي على الخريطة العالمية لا مجرد أداة للتخذير والعيش الراكد على أمجاد الماضي.
ومن المفيد أن نقرأ شيئا من تصريح الكاتب فهو يقول: “.. إن الإسلام يجتاز في هذا الوقت أزمة من أكبر الأزمات وأعنفها وأخطرها لأنها تهديد جاد ومباشر لوجوده لدرجة أن الإنسان المطلع الذي يلقي نظرة على ماضي الإسلام لن يعثر على فترة بلغ فيها الإسلام هذا الحد من الذل والانحطاط الذي يقارب الموت مثلما يبينه الوضع المعقد الذي يوجد عليه اليوم ” ثم يواصل قائلا : ” إن من واجب كافة أبناء الإسلام أن يتحدوا ويحشدوا كل قواهم وجهودهم من أجل إبعاد الخطر الذي يهددهم ويجرفهم إلى الهاوية، لأنه إذا ما طال هذا الوضع ولم يظهر أي إصلاح فلن يعود مفيدا أن نبكي لوفاة ميت أو ميلاد طفل لأن أوربا كلها مجندة ضد الإسلام الدين الذي يعد سدَّاً منيعا يقف في وجه مشاريع أوربا ومخططاتها..” وبعد أن يستشهد ببعض الأحاديث النبوية مثل ” المؤمن للمؤمن كالبنيان المرصوص يشد بعضه بعضا ” يضيف :” إن خمولنا وعقمنا هو انحطاط لأمتنا ” ثم يتساءل: ” هل بقي من السلف الصالح لأولئك المسلمين الذين كانوا أسودا ؟ أم أن عناكب الشرق نسجت لهم الفخ لدرجة أنهم وقعوا في شباك أوربا مثل وقوع الذئاب في فخ النسيج العنكبوتي ؟ ولم نعد نسع اليوم من أحد صرخة إغاثة أو احتجاج رغم أنهم يساقون إلى الموت مثل الخروف الذي نقوده إلى المذبح وحينئذ يصرخُ ويحاول دفع الموت حتى الرمق الأخير، نحن اليوم نحاول إعطاء الخلافة إلى الخديوي في مصر أو إلى شريف مكة أو ملك صنعاء أو ابن سعود وقبيلته وإذا ما استطاعت أوربا أن تُقنع النفوس الضعيفة وتجر إلى جانبها خونة الإسلام، مثلما كانت تفعل باستمرار وتجد في هؤلاء كل التواطئ لتنفيذ رغبتها السيئة فستكون بذلك قد حققت حلمها الكبير، ووقتها سيكون خليفة المسلمين إدوارد السابع بلندن أو أولوبيت الأول بباريس وهذا بدل عبد الحميد الثاني بالقسطنطينية…” وختم صالح خوالدية نداءه بالدعوة إلى الثورة بالعبارة التالية : ” وعندما يحينُ وقت الجهاد الأكبر فسنحتل الصدارة نحن الشرفاء المكونين للجنة المركزية للإتحاد الإسلامي لقيادة المعارك وسنقودكم نحن إلى النصر المحقق…”.
وقد وُجِّه نداء مماثل من باريس بتاريخ 28 ديسمبر 1905من طرف هيئة الاتحاد الإسلامي – كان مقرها بباريس- وَوُزِعَ هذا النداء على نطاق واسع وبالأخص في القرى والأرياف الجزائرية وذلك رغم صرامة وشمولية الرقابة الاستدمارية، وقد حظي هذا النداء بتعاليق الأوساط المهتمة بشؤون العالم الإسلامي، ولا عجب في ذلك فصاحب النداء خوالدية صالح معروف وقتذاك في مختلف الأوساط فهو الرجل الذي ورد اسمه ألف مرة في الجرائد الإنجليزية والمجلات الاستعمارية، فلم يكن غريباً والحال هذه أن يحظى نداءه ذلك باهتمام مختلف الأوساط خاصة الأوساط الاستدمارية الفرنسية التي كانت تعتبر أن أدنى بادرة للوعي لدى الجزائريين نذيرا خطيرا ينبغي قمعه ودفنه في المهد، فما بالك بنداء قوي ودعوة صريحة للثورة والتمرد على المستدمرين وتحطيم هيمنتهم؟
ولم يكن بد من أن يغادر صالح خوالدية تونس بعد إصداره لهذا التصريح الخطير للنجاة من قبضة إدارة الحماية الفرنسية في تونس فتوجه إلى ليبيا والتقى هناك بالسنوسيين في إحدى زواياهم ببنغازي أين رحبوا به واعتبروه من كبار رجال العصر واتفقوا معه على المُضي قدماً في تنفيذ خطة هيئة الإتحاد الإسلامي، وهذا الاستقبال الحار الذي حظي به صالح في ليبيا يدل على الأقل أن شهرته كسياسي مسلم معارض وثائر على الاستعمار الفرنسي، كانت تسبقه إلى كل مكان يحل به، وبعد بضعة أيام قضاها ببنغازي في ضيافة السنوسيين واصل طريقه إلى مصر ونزل بالقاهرة وهناك كتب العديد من المقالات السياسية التي تناول فيها بالنقد والتحليل الأوضاع المأساوية التي يحياها الجزائريون تحت وطأة السيطرة الفرنسية منددا مرة أخرى كما سبق وأن فعل بتونس بالتآمر الأوربي على الإسلام والمسلمين ومساعيه الحثيثة لتنصيب خليفة عربي مكان السلطان العثماني، حاثا المسلمين على ضرورة الوحدة واستلهام سيرة وإرادة الأسلاف الاماجد، والاستفادة من تجربة اليابان الذي حقق نجاحه المعروف في ظرف قياسي إذ انتقل في مدة نصف قرن من بربرية البربريات إلى عصر العلم والتقدم والازدهار فارضا نفسه على أوربا وعلى العالم الغربي بأسره.
وقد شدَّ خوالدية صالح بمقالاته التي نشرها في مختلف الصحف المصرية أنظار رجال الفكر والعلم إليه ومنهم كاتب مصري يدعى خليل أفندي الذي أعجبته كتابات الخالدي فقدمه وعرّفهُ إلى القراء العرب في مقال نشره بجريدة المؤيد الصادرة يوم 04 أفريل1906ومما ورد في تلك المقالة قول الكاتب: ” هو شاب في مقتبل العمر لا يعرف الكلل ولا الملل يزخر حيوية ونشاطا وتتمثل فيه كل صفات الرجولة والمروءة العربية، تجوّل في أوربا طولا وعرضا وزار كثيرا من البلدان الإسلامية مخترقا الصحاري الإفريقية والعربية واعترافا بما بذله من جهود لنصرة الإسلام والمسلمين خصص السلطان العثماني لضيفه إقامة دامت عدة أشهر..” ومن الأهمية بمكان أن نتوقف عند العبارة الأخيرة الواردة في مقال الكاتب المصري، إذ أنه يشير إلى أن السلطان العثماني قد خصص لخوالدية صالح إقامة لعدة أشهر وذلك امتنانا منه لهذا السياسي الشاب على ما قدمه من خدمات للإسلام والمسلمين، وبإمكاننا نحن اليوم إذا استحضرنا الظروف العالمية والإسلامية التي كانت سائدة آنذاك أن نفهم الوضع على الوجه الصحيح، وأول ما يمكن تقريره أن صالح كان من ضمن الشخصيات العربية والإسلامية البارزة آنذاك والمناصرة لسياسة الجامعة الإسلامية التي دعا إليها وبشر بها المصلح العظيم جمال الدين الأفغاني .
وقد كان مصير الخلافة العثمانية آنذاك في وضع جد خطير إذ كانت أوربا وفرنسا بنوع خاص تمول وتشجع الحركة القومية العربية، وتحتضن الكثير من الجمعيات العربية الداعية إلى فصل البلاد العربية عن الخلافة العثمانية، لذلك كان السلطان العثماني يهتم بكل الشخصيات الإسلامية المناصرة لدعوى الجامعة الإسلامية، وفي هذا الإطار يمكننا أن نفهم استقبال السلطان العثماني لخوالدية صالح وإقامته مدة في إسطنبول، كما سبق وأن دعا السيد جمال الدين الأفغاني، وقد يبدو اهتمام خوالدية بالخلافة العثمانية بالنسبة لنا اليوم غير ذي معنى،إذ أن موضوع الخلافة كفكرة سياسية لا يعني لنا اليوم شيئا، ولكنَّه في تلك الفترة كان موضوعا أساسيا يستقطب اهتمام كل المعارضين للقوى الاستعمارية باعتبار أن الخلافة العثمانية كانت تمثل رمزا للوحدة و سدا للصمود الأخير أمام الوحش الاستعماري الغربي الذي تمكَّن من القضاء على هذا السد بمساعدة كبيرة مما عُرف بالثورة العربية لسنة 1916 وهو الأمر الذي استشرفه خوالدية صالح وحذر منه، ولكن المكر الغربي والغباء العربي أديا إلى النتائج المعروفة، اتفاقيات سايكس بيكو، ووعد بلفور،أي تمزيق البلاد العربية، وضياع فلسطين…
و الملاحظ أنه وخلافا للنداء الأول الذي وجهه من تونس لم يدعو في مقالاته بالقاهرة إلى الثورة على الاستعمار، وإنما قام بلفت النظر إلى ضرورة إدراك الأوضاع المأساوية التي يتخبط فيها المسلمون ! ما سر هذا التغيير؟ الراجح أن خوالدية صالح وبعد مسيرة معتبرة وتجربة ممتدة أدرك أن السخط على الاستعمار والدعوة إلى الثورة عليه لا يكفيان، وإنما لابد من التريث واللجوءِ إلى حكمة التنظيم وعامل الزمن والتعويل على مزيد من التحضير والتحفيز، لأن الجماهير كقاعدة عامة حتى وإن كانت مداسة تحت أقدام الغزاة المستدمرين، فهذا لا يعني أن لديها استعدادا طبيعيا للثورة والتغيير، وإنما لابد مما ليس منه بد في مثل هذه الحالات من إعداد مادي ومعنوي وانتظار الفرصة التاريخية المواتية، وفضلا عن ذلك ربما كانت رغبة خوالدية صالح في مراعاة وضعيته في القاهرة ومحاولة تجنب الاحتكاك بالسلطات الانجليزية والملكية هناك قد زاد في قناعته بحتمية تغيير لهجة خطابه وتركيزه على ضروة بث الوعي وتعميق السخط على الاستدمار قبل الدعوة للثورة، والدليل أن الخالدي وبمجرد مغادرته مصر في اتجاه المغرب الأقصى عاد إلى لهجته الأولى القوية ضد الاستدمار والجهر بضرورة الثورة في وجهه.
وهكذا نقل نشاطه السياسي من القاهرة إلى المغرب الأقصى، وتحديدا إلى مدينة طنجة وذلك مع بداية صيف سنة 1906 أين سعى إلى تأسيس جريدة لمحاربة النفوذ الفرنسي غير أنه وإن كان مسعاه هذا لم يكلل بالنجاح فإنه قد كشف عن وعيه بأن المعركة ضد الاستعمار يجب خوضها في كل مكان وبكل وسيلة ممكنة، فأقام علاقات عديدة مع شخصيات مغاربية وراح يعقد تجمعات مع الوطنيين المغاربة يُحرضهم خلالها على الثورة ضد الاستدمار الفرنسي، كما كانت له اتصالات مكثفة مع صحفي إسباني يدير صحيفة ” أفريكا اسبانيول” والذي أُعتبر هو الآخر من المعادين للاستدمار الفرنسي، و قد تزامن وجود خوالدية صالح في طنجة مع زيارة الإمبراطور الألماني “غليوم الثاني” للمغرب الأقصى مرفوقا بالمستشرق الالماني المعروف ” فون أوبنهايم ” الذي كان خوالدية قد تعرف إليه أثناء انعقاد ملتقى المستشرقين بالجزائر سنة 1904. وقد التقى الرجلان للمرة الثانية هذه تحت المراقبة الدقيقة لأعوان المفوضية الفرنسية بطنجة، ويعتبر هذا اللقاء القطرة التي أفاضت الكأس إذ عدّتهُ السلطات الفرنسية دليلا واضحا على استمرارية النشاطات المعادية لفرنسا التي ما انفك صالح خوالدية يضطلع بها في المشرق والمغرب، ونظرت إليه بصفة خاصة على أنه الرجل الذي يُعرقل مشروعها الاستدماري في المغرب الأقصى الذي كان محل تنافس استدماري شرش بين كل من فرنسا وإسبانيا وألمانيا، وهكذا بادرت السلطات الفرنسية بإلقاء القبض عليه يوم 06 أوت 1906 واقتادته مكبلاً في باخرة متجهة من المغرب إلى وهران، وقد حاول الفرار لكن محاولته لم تنجح، ومن هنا يبدأ اختلاف الروايات وتضاربها في رسم مسيرة الأحداث، لكن قبل إيراد خلاصة تلك الروايات نُحبُ أن نقف عند أربع نقاط هامة تتعلق بسيرة وكفاح هذا السياسي والمفكر والمناضل الكبير.
أولا: ان أبرز ما تميز به صالح هو شعوره العميق والصائب بهشاشة حال الإسلام والمسلمين وشدته وجرأته التي أظهرها في نقده للاستدمار الأوربي عامة والاستدمار الفرنسي الانجليزي خاصة والدعوة الحارة للثورة عليه وقلب الأوضاع في وجهه، وهو من هذه الناحية ولاشك أشبه ما يكون بالسيد جمال الدين الأفغاني(1838-1897) الذي امتاز هو الآخر بشخصية حركية ونفسية ثائرة لاتهدأ ولاتُهادن عندما يتعلق الأمر بمحاربة جمود المسلمين وسيطرة الغربيين، فقد كان خوالدية صالح في كرهه وحقده على الاستدمار الفرنسي والانجليزي يشبه تماما جمال الدين الأفغاني في مقته وحقده على هاتين الدولتين الاستدماريتين وإن كان تركيز الأفغاني على محاربة ومناوئة الاستدمار الإنجليزي أوضح بحكم معرفته به منذ شبابه الباكر في بلاده أفغانستان أولا ثم في الهند وإيران وسائر الدول الأسيوية وفي مصر والسودان بعد ذلك، على عكس ماكان الحال مع خوالدية صالح الذي انصب أكبر تركيزه على محاربة الاستدمار الفرنسي الذي عرفه منذ شبابه الباكر في بلاده الجزائر وفي بلدان المغرب العربي والقارة الإفريقية، وحبذا إنجاز دراسة مقارنة بين سيرة وشخصية الرجلين لأن هذا النوع من الدراسة المقارنة يمكنه أن يقدم لنا الكثير من النتائج الهامة لجهة تعميق معرفتنا بأفكار وأعمال هذا الجزائري الثائر الذي لا يزال كما ذكرت في البداية مجهولا بصورة تكاد تكون تامة.
ثانيا: بعض الباحثين يعتبرون أن ما قام به خوالدية رغم أهميته وجدارته بالتنويه يندرج ضمن الجهود الفردية قليلة الجدوى والتي غالبا لا تأتي بثمارها، إلا أنه ومع ضرورة التسليم بأن الجهود الجماعية المنظمة هي الأقدر على المجابهة والتحدي وبث الماء الجديدة في الجماعات وتحريك الأوضاع نحو الأفضل، إلا أن العمل والتحرك الجماعي لا يكون السبيل ممهدا دائما أمامهما، فيكون من شأن بعض الأفراد الذين يمتازون بالحيوية والقدرة على الصبر والمواجهة أن يُبادروا إلى الإعلان عن أفكارهم والتنديد بالمظالم والدعوة إلى التغيير والثورة غير آبهين بالموانع ولا حافلين بالعواقب.
وقد سجلَّ تاريخ الكفاح ضد السيطرة الاستدمارية في الجزائر كما في الكثير من الدول أسماء العديد من الشخصيات الفكرية والسياسية التي قامت بمجهود فردي استمد قيمته وفعاليته من قوة شخصياتهم وسلامة توجهاتهم وفهمهم العميق لنفسيات شعوبهم ومتطلبات المراحل التي عاصروها، كما سجل التاريخ الوطني والإسلامي – الحديث- أسماء العديد من الذين رفضوا أسلوب الدعوة المباشرة والمواجهة السافرة وآثروا سبيل التربية والإصلاح مثل الشيخ محمد عبده في مصر والإمام عبد الحميد بن باديس في الجزائر والشيخ النخلي في تونس، وليس مجديا أن نتساءل هنا أي السبيلين أفضل وأيهما أليق بالإتباع ؟ لأن كلا السبيلين كانا مطلوبين لإنقاذ الشعوب المُسْتدَمَرَةِ وإعادتها إلى حالة الوعي بذاتها ووجودها المُصادر، وقُصارى ما يمكن قوله أن أسلوب الدعوة المباشرة والمواجهة السافرة يناسب بعض النفوس وأسلوب التربية والإصلاح الهادئ يلائم نفوسا أخرى، لكن وكما أثبت تاريخ النضال الجزائري فإن كلاً من الأسلوبين مطلوب ومُكمل للأخر، وإن بدا بينهما بعض التعارض أو التصادم ، ثم إن الجهود الفردية عادة ما تكون مقدمة للأعمال الجماعية، فالنشاط السياسي للأمير خالد بعد الحرب العالمية الأولى مهد لنشوء نجم شمال إفريقيا، ونشاط العلامة بن باديس وبعض المصلحين والعلماء كان مقدمة لتأسيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين وكلا الحركتين كان لهما دور وشأن في التحرير النهائي للجزائر.
ثالثا : يُعد خوالدية صالح من أبرز الشخصيات المغاربية والإسلامية التي اهتمت بالتاريخ ودعت إلى فهمه وتوظيفه في النضال السياسي والنهوض الحضاري، وكان مشغولا بمحاولة الإجابة على سؤال مركزي مؤداه كيف نجعل من التاريخ وهو أساسا يتعلق بدراسة الماضى قوة من أجل المستقبل؟ ولكن ما السِّرُ في هذا الاهتمام بالتاريخ لدى خوالدية صالح ؟ يصحُ أن نَردَّ ذلك إلى ثقافته التاريخية الواسعة وإلمامه العميق بماضي الإسلام والمسلمين بما يتضمنه من دول ومنجزات حضارية كبرى، ويصح أيضا أن نعزو ذلك إلى منطق الأشياء فكل المصلحين والثائرين في كل الأمم يتخذونَ من التاريخ منطلقا وأساسا متينا لمشاريعهم السياسية والفكرية ، فمن الماضي المجيد تُستمدُ الطاقة ويُزرعُ الأمل في إمكانية تجاوز الحاضر الأليم، ومن أمجاد الماضي يكون الانطلاق نحو أمجاد جديدة في الحاضر والمستقبل، كل ذلك صحيح ومقبول، لكنه يبقى مع ذلك غير كافٍ لتفسير هذه الحرارة وهذا الوعي الذي اتسم به خوالدية صالح في دعوته المُلحة لدراسة التاريخ الإسلامي، والذي يمكن إضافته أن خوالدية كان على دراية بالفكر الألماني الحديث- الذي أولى أهمية كبرى للتاريخ- وقد إطَّلع على مصادره الكثيرة المترجمة إلى اللغة الفرنسية،كما أن علاقته بالمستشرق الألماني ” فون أوبنهايم ” قد شكلت إحدى النوافذ التي تعرَّف من خلالها على جوانب من أراء كبار المفكرين الألمان وعلى الكفاح المرير الذي خاضه الألمان من أجل تحرير وطنهم وبناء وحدتهم القومية، وهذه العلاقة بالألمان لا تُساهمُ فقط في تفسير اهتمامه بالتاريخ وتأكيده المستمر على الاستفادة منه، بل وتجعلنا نفهم لماذا كانت السلطات الفرنسية تُتابع كلَّ علاقاته وتحركاته خاصة وقد تزامن نشاطه مع الفترة التي سبقت الحرب العالمية الأولى وهي فترة مليئة بالمساومات والتنافس والتوترات خاصة بين فرنسا القوة الاستعمارية العالمية، وألمانيا الإمبراطورية القوية التي كانت تُريدِ الانتصاف من حيف ولا عدالة التاريخ.
رابعا :لقد كان الشيخ عمارة بن يعلا – والد خوالدية صالح- الذي توفي في 26 ديسمبر1893من أكبر المتعاونين مع الاستدمار الفرنسي إذ أنه قضى أربعين سنة من عمره في خدمة فرنسا وساهم في قمع إحدى أبرزِ الانتفاضات الشعبية بمنطقة هُوارة الواقعة شرقي قالمة مما أهلّهُ ليكون حاملا لأرفع الأوسمة الفرنسية، وقد كان في وُسْعِ الابن أن يحذو حذو أبيه مع ما يجلبه ذلك له من امتيازات ومنافع، ولكن الابن اختار طريقا مضادا تماما لسيرة والده،وهو ما يدفعنا حتما إلى مزيد من التعمق والتحليل لفهم هذه الشخصية السياسية الفكرية الرائدة التي أجهضت منطق التوقعات وقدمت نموذجا حيا عن مكرِ التاريخ وأساليبه المعقدة في تحقيق التفاعل بين إرادات الشعوب ومبادرات النخب الوطنية الثائرة.
وبعد هذا الاستطراد الضروري أعود إلى ما ذكرته من اختلاف الروايات حول مصيره بعد إلقاء القبض عليه في المغرب ومحاولته الفاشلة للفرار من السفينة، فالبعض يذكر أنه وبعد أن حُوكم في مدينة وهران جرى نفيه إلى بلاد الشام، في حين تُرجحُ بعض المصادر أن تكون السلطات الفرنسية قد اغتالته غدرا في حادث مدبر لتُسْكِتَ قلمه الجريئ وتتخلص منه بصفة نهائية، وإلى أن يُرفع ستار الغموض ويُنفض غبار الزمن عن هذا المناضل السياسي المفكر، يجدر القول أن بعض الكتاب المختصين في تاريخ الحركة الوطنية قد اعتبروه أحد رواد الحركة الوطنية في بداية القرن العشرين، وينسبون إليه دورا بارزا في التعريف بالقضية الجزائرية مشرقا ومغربا، وتبقى آراؤه السياسية بنوع خاص بحاجة إلى الدّرس والتمحيص لأنها من العمق والسبق والثراء بمكان، فهي لا تزال تحتفظ بأهميتها وآنيتها، وتبقى حياته ككل دليلا على الصعوبات والعراقيل التي واجهها بعض المثقفين الجزائريين في سبيل الإعراب عن آرائهم والدفاع عن قضية بلادهم ، وتكشف عن بدايات الجهد الفكري والسياسي الذي دشنه الجزائريون في مطلع القرن العشرين على الدرب الطويل الشاق للقضاء على الاستدمار البغيض، واسترداد الوطن الجزائري السليب.
كاتب جزائري