المكّي عبادة.. شيخ الوسطيّة وحاقن الدماء ومؤسّس الحركة الإسلاميّة النسويّة
بقلم: عبد الحميد عثماني / زهيرة مجراب
اسمه الشيخ أحمد المكي عبادة، ينحدر من منطقة بني فرقان بجيجل، كان والده حافظا لكتاب الله ولمختصر خليل في فقه المالكية، فتتلمذ عليه ثم رحل إلى قسنطينة، حيث تتلمذ على الشيخ عبد الحميد ابن باديس، رُفقة المفتي الكبير أحمد حمّاني، وابن عمّ هذا الأخير الشيخ الصادق حماني، اللذين رافقاه بعد ذلك إلى جامع الزيتونة بتونس، حيث تتلمذوا جميعا على العلاّمة الكبير محمد الطاهر بن عاشور.
بعد عودته من تونس، شرع في أداء رسالة التربية والتعليم والإصلاح بعدة مناطق من الوطن، من أبرزها سريانة بالشرق الجزائري، ثم استقدمه صديقه الشيخ المكي النُّعماني، وهو أحد أعلام جمعية العلماء، إلى العاصمة ليساعده في النشاط الإصلاحي، فجاء الشيخ “المكي” ليستقر مدة في عين طاية، ثم انتقل إلى بلدية رويبة، حيث افتتح بها مدرسة حرة تابعة لجمعية العلماء، وأشرف على إدارتها والتعليم بها، ولكن الاحتلال الفرنسي عجّل بإغلاقها وسجنه بتهمة التعليم من دون رخصة.
بعد خروجه من السجن لجأ إلى الجزائر العاصمة، فدرّس مدة بحي القصبة العريق، حيث تعرّف على رفيقي دربه في النضال الدعوي بعد الاستقلال، وهما الشيخ أحمد سحنون والشيخ عبد اللطيف السلطاني، وتعرّف كذلك على الشيخ عبد الرحمان الجيلالي والشيخ الشاعر الشهيد عبد الكريم العقون، والشيخ قادة بن يوسف والشيخ عمر العرباوي وغيرهم، ثم انتقل بعد ذلك إلى حي المرادية بأعالي العاصمة، وتعرف على عائلة الشهيد ديدوش مراد، وعمل رفقة الشيخ الشهيد عبد الكريم العقون والشيخ محمد الحسن فُضلاء – رحمهما الله – على تأسيس وإدارة مدرسة التربية والتعليم، ثم أشرف على بناء مسجد الثورة ومدرسته بحي المرادية، (سُمّي مسجد الثورة بعد الاستقلال لأن تدشينه تزامن مع اندلاع الثورة التحريرية الكبرى) ولكن الشهرة التي غلبت على هذا المسجد، هي مسجد الشيخ المكي، لأنه كان يؤم المصلين فيه ويقيم لهم فيه الدروس والخطب والحلقات العلمية، وبين جُدرانه أشرف على تكوين جيل كامل من طلبة العلم وإطارات الدولة والناشطين الفاعلين في المجتمع المدني، فكان له بعد الاستقلال تلاميذ كُثُر يؤمّون مسجده ليغترفوا من هذا النبع الصافي الغزير، نبع العلم الشرعي المؤصّل ومنهج الوسطية والاعتدال وإكمال رسالة الشهداء، وقد ساهم مع إخوانه العلماء في دعم أعمال الثورة وتحريض فئات الشعب على مناصرة المجاهدين بالتنسيق مع الشهيد العربي بن مهيدي والشهيد عبان رمضان، والمناضل الكبير عبد المالك تمّام – رحمهم الله – وأدّى ما عليه تجاه وطنه، خاصة خلال معركة الجزائر، ثمّ كانت له مواقف ناصعة في نصرة الإسلام والحفاظ على كيان الدولة وشخصية المجتمع من خلال نشر العلم والتربية الدينية الصحيحة والدفاع عن اللغة العربية وقانون الأسرة، فقد كان خطيبا مصقعا ومُفوّها، وداعية حكيما يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، حيث ساهم بجهد كبير في تهدئة الأوضاع خلال أحداث أكتوبر 1988م، ثم ابتلاه الله عز وجل بالمرض الذي أقعده عن الحركة، ولكن قلبه بقي ينبض بالحيوية ولسانه بقي ناطقا بالنُّصح والتوجيه، إلى أن لقي ربه في ليلة الجمعة المباركة 26/05/2016. رحمه الله وأغدق على قبره شآبيب الرحمة والرضوان.
الكاتب والباحث في التاريخ الإسلامي الدكتور الهادي الحسني: "الشيخ عبادة … ذهب لم يتغيّر طعمه ولا لونه ولا ريحته”
وصف الدكتور الهادي الحسني، الشيخ المكّي عبادة، الذي عرفه سنة 1962، بـ”الذهب الذي لم يتغيّر طعمه ولا لونه ولا ريحته”، مضيفا أنّ “الله خلق للأرض جبالاً تمسكها كي لا تميل، وخلق للأمم والمجتمعات رجالاً يحافظون عليها، منهم الشيخ عبادة المكي”، واستطرد الباحث في التاريخ الإسلامي أن “الشيخ الراحل لم يكن يحب الظهور، بل يعمل ببساطة ويسر، فكان له بذلك دور أساسي في المعركة الكبيرة التي خاضتها الجزائر منذ 1830 إلى الآن”.
وأكّد الدكتور أن فرنسا عند احتلالها الجزائر خطّطت لهدفين: هما إسقاط الدولة الجزائرية، ثمّ محوُ الأمّة، لكنّ “الدولة من السهل إعادتها، أما الأمة فلا”، وخلال حقبة الاستعمار، عمل الكثير بمفردهم على مقاومة المشروع الفرنسي، مضيفا “ولو عدنا لعلماء الجزائر حينذاك، فيمكننا تقسيمهم لأربع مجموعات: الأولى لم تتحمل حكم الفرنسيين للبلاد فهاجرت إلى دول أخرى كمصر، المغرب، تونس، ليبيا، وأفتت بجواز هجر الديار، ومجموعة ثانية لم تغادر الأرض لكن عملها حُوصر بعد السيطرة على الوقف والجامع الكبير، فانعزل العلماء، ومجموعة ثالثة أضلّها الله على علم، فقالت إنّ الاستعمار قدر الله على الأمة، فركنوا إلى فرنسا مثل الشيخ بلموهوب، أمّا المجموعة الرابعة والأخيرة، فقد عملت فرادى قبل العمل المنظم الذي بدأه ابن باديس في 1914، واستمر فيه حتّى الوفاة، فعرفت الإسلام وفهمته وعملت به، وقابلت العدو بالعمل والعلم، حيث كان “بن باديس” يدرس 13 ساعة يوميّا.
وفي ذات السياق، يكشف الدكتور الحسني أنّه درس عام 1956 عند مصطفى عبادة، ابن عم الشيخ المكي عبادة، في مستودع وسط الروائح الكريهة، لأنّ الهدف لدى هؤلاء العلماء العاملين كان إفشال المخطط الإجرامي لفرنسا، حتى أن عدوهم شهد بفضلهم وعملهم، مثلما يروي ضابط في المخابرات الفرنسية عن آثار جمعية العلماء المسلمين في إجهاض مشروع الاحتلال.
رئيس مجلس الصلح بولاية تيزي وزو الدكتور السعيد بويزري: الشيخ عبادة جمع بين تنوير الرؤوس وتزكية النفوس
من جهته، أكّد الدكتور السعيد بويزري، أن الشيخ المكّي عبادة كان حاضرا، ولم يكن غائبا يوما في حياته، فهي صفحات مشرقة من الأعمال الجليلة في جميع المجالات: التعليم، الوعظ، والإرشاد، فعلينا الآن أن نتعلم من تلك المدرسة ما ينفعنا.
وأردف المتحدث في مداخلته، بأنّ الرجل كان من رموز الوسطية التي افتقدناها كثيرا، ونحن بحاجة إليها على جميع المستويات، في الأحياء أو المساجد، فالعلوم – على حدّ قوله- أصبحت متاحة حاليا ومتوافرة، والشهادات لا تعد ولا تحصى، لكن بركتها غير موجودة، غير أنّ الشيخ عبادة جمع بين العلوم والتربية، موضّحًا أنّ العلم أصبح في زماننا هذا سهلاً ومتاحًا، لكنّ الأخير ينصرف للرؤوس، أما التزكية فهي دواء النفوس.
وأثنى المتحدث في ختام الكلمة على مبادرة مجمّع “الشروق” بتكريم العلماء، معتبرا ذلك من شيم الوفاء، قائلا “كنا نسمع عن مشايخنا ولا نعرفهم، لكن الشروق عرفت قدر الرجال، ولا يعرف قدر الرجال إلا الرجال”، فالأمة إذا ضاعت مراجعها تضيع، ومن خلال هذا العمل سيساهم المجمّع في حفظ مراجعنا، مثلما أضاف بويزري.
خرّيج الجامعة الإسلامية بماليزيا الدكتور محمد بلغيث: "هو صاحب الفضل في تكوين الأئمة والدعاة”
قال الدكتور محمد بلغيث، إنّ مسجد الشيخ المكي عبادة بالمرادية كان حيّا وحيويّا، يعج بمختلف البرامج والدروس، فعرف إقبالا كبيرا في بداية الصحوة الإسلامية خلال السبعينيات، إذ كانت حلقات القرآن والتربية والتعليم التي يقوم عليها الشباب الناشط في المسجد، وكان المتحدث واحدا من هؤلاء، لذا فقد بدأ الشيخ المكي يستخلفه في غيابه لإلقاء الدروس بين المغرب والعشاء، ثمّ الخطابة مع بداية الثمانينيات إلى أواخرها، قائلاً عن شيخه عبادة “لديه من السمات، ما جعلهم يحبون مواعظه، فقد كانت له مقدمة رائعة يفتتح بها درس الجمعة، لذا يحرص الجميع على الحضور معه”.
وشدّد الدكتور بلغيث على أنّ تلامذته قد أخذوا من سمات معلّمهم قبل علمه، فقد كان معروفا بصمته وهدوئه، ولديه القدرة على التوريث لوعظه وإرشاده لمن يقبلون على مسجده، كما رحّب في وقته بكل العلماء والدعاة، لأنه رفض احتكار المساجد مثلما قام به بعض الأئمة آنذاك، وفي أواخر السبعينيات إلى التسعينيات، أغنى وأثرى البرامج المسجدية، حتى أن مسجد “الثورة” أصبح يصدر الأئمة والدعاة والخطباء وقراء القرآن لكافة مساجد العاصمة، على حدّ كلامه.
وأقرّ المتحدث بفضل الشيخ عبادة في تكوين مجموعة كبيرة من الشباب، عبر 9 أقسام فتحها بالمسجد، حيث تُدرّس اللغة العربية والعقيدة، مردفًا أن من براعته في الخطاب، تطويع العامية للفصحى، فلم يكن يستخدم الكلمات السوقيّة، كما استعمل التعبير التلميحي لا التصريحي، فلم يجرح هيئة قطّ، إذ أنّ جلّ نصحه اعتمد على التلميح، مع جرأة الطرح في الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر.
ومن إبداعات الشيخ عبادة يقول تلميذه بلغيث، استعمال الأسلوب القصصي، كما رأى أنّ تربية المجتمع من الأولويات، لذا كان مجلسه فيه هيبة، وفي صلاة الجمعة التي يؤمها، يمتلئ المسجد قبل منتصف النهار، فلا يمكن أن يقوم أحد من المصلين بحركة والشيخ يخطب فوق المنبر، لأنّ الجدية تغلب عليه، لافتًا إلى عدم خلو الأمر من مدح أو قدح، فالعلماء يخطئون ويصيبون، وحريّ بالناس دفن الأخطاء في بحر الحسنات، على حدّ قوله.
الأستاذ الإمام عمار مايدة: الشيخ المكّي مدرسة في الوعظ والإرشاد والنصح
اعترف الأستاذ عمار مايدة، بفضل شيخه المكي عبادة، وما تعلمه منه، فالمربي – حسبه- لديه سمات ومواصفات، وكل ذلك توفّر في الشيخ عبادة، فقد كان يحسن الاستقبال، ثم يوجه محدثه بكلمتين أو ثلاثة كافية، لذا ما زال يحفظ عن ظهر قلب بعض الخطب ودروس الشيخ منذ 1976 إلى غاية 1991، لأنّه جلس عند قدميه فأحسن الاستماع والتعليم.
وأضاف المتحدّث أنّ الشيخ المكي كان يحسن الوعظ والترغيب والترهيب واستغلال المناسبات وضرب الأمثال، وهي الآثار التي تتجلّى في ثلّة من تلاميذه، مثلما قال.
وأوضح مايدة في شهادته، إنّ المدرسة القرآنية التي أشرف عليها الشيخ، كان يسمع لها دبيب مثل دبيب النحل، حيث تنظم خمس حلقات في آن واحد، ومما يذكره، عن الشيخ، أنه في حال أخطأ، يناديه على انفراد، فيصحح له الخطأ في النحو والإعراب، مشجّعا إياه على الاستمرار، فكان الشباب على عهده يتناوبون على آذان الظهر وصلاة العصر، والشيخ عبادة يقدمهم للدروس والمواعظ والخطب، ويدفعهم دفعا.
الأمين العام للتنسيقية الوطنية للأئمة جلول حجيمي: الشيخ المكي طهّر يديه من دماء الجزائريين
قال الأمين العام للتنسيقية الوطنية للأئمة وموظفي الشؤون الدينية جلول حجيمي، إنه عرف الشيخ المكّي عبادة في ساعة العسرة والضيق، عندما اختلط الحابل بالنابل، وكان الدم يراق، في تلك الفترة عيّن حجيمي إماما بمسجد الثورة سنة 1992، وبعد إذن الإدارة، قصد الوافد الجديد على المسجد منزل الشيخ المكّي للحصول على إذنه، فوجد منه كلّ الترحيب والتشجيع، بل ساعده على البقاء في المسجد بأمان، مؤكدا أنه “كان حازما، عاملا في الميدان، مدرسته عامرة، تخرّج منها جيل من الدعاة، ومنهجه وسطي، وظل كذلك رغم ما حدث”.
وأكمل الشيخ حجيمي حديثه عن محاسن الشيخ المكّي، فقال عنه “لقد عرفته ثائرا، مثابرا، مربيّا بامتياز”، مردفا أنّ “أمثاله مازالوا موجودين، إلا أننا أهل المغرب من عاداتنا، ومنذ قرون سابقة، لا نبجّل علماءنا”، فالشيخ عبادة سعى واجتهد خلال العشرية السوداء على نزع يديه وأيدي معارفه من دماء المسلمين، فلمّا خرج من المسجد، تركه في أمان، مثلما أضاف حجيمي.
الناشط السياسي سعيد مرسي: الشيخ المكي سعى لإنشاء معهد للدعاة
وصف الناشط السياسي سعيد مرسي، الشيخ عبادة بأنه “عالم بارز، ما زال يقدم للأمة، من خلال ما خلفه من آثار”، معتبرا أنّ “الصحوة الإسلامية في الجزائر قد قامت على خمسة أركان، والشيخ المكي أحد أعمدتها الرئيسية، ففي الستينيات، كان همّه الوحيد، هو كيف يهيّئ للأجيال مستقبل الدعوة، فكان شغلهم الشاغل العثور على معهد لتكوين الدعاة”، مردفًا في ذات السياق أنه “بعد 1966، عندما اشتدّ التضييق على المشايخ، وتم تهميشهم، كما فرضت وزارة الشؤون الدينية على الخطباء والأئمة توجيهاتها في خطب مكتوبة، حتى تكون منسجمة مع خيارات السلطة، حزّ ذلك الإجراء في نفس المشايخ الكبار، فانسحبوا من الخطابة، دون أن يتخلّوا عن الدعوة، بل جعلوا من المساجد منابر للتربية والتعليم والدعوة، وبذلك استطاع الشيخ عبادة أن يغرس غرسا طيّبا، فقد كان مسجده ثورة وثروة، وبمجهودات الشيخ المكّي تمكن من ترسيخ مفهوم المدرسة الحقيقية”، على حدّ تعبيره.
وأردف المتحدث في ذات السياق، أنّ مسجد “الثورة” الذي أشرف عليه الشيخ المكّي، أصبح ثروة حقيقية في صناعة الأئمة، كما تحوّل لمنتوج علمي ودعوي كبير تشدّ إليه الرحال في بدايات السبعينيات، إذ شهدت تلك الفترة تحوّلات كبرى، جعلت الكثير من طلبة الجامعات العليا عندما يقصدون العاصمة، يتوجهون لزيارة المسجد المذكور، وملاقاة الشيخ المكي، كي يتربوا على منهجه في صمت وهدوء، فالشيخ – حسب مرسي- كان نعم المربي، عرفناه متسامحًا مع من أساؤوا، لأنه عاش رجلا شهما، كريما.
واعتبر الناشط سعيد مرسي أن ما يقوم به مجمع “الشروق” من تكريمات للأعلام مثل الشيخ المكّي عبادة، يؤسس لإنشاء مكتبة معارف للأجيال من الباحثين، ستكون نبراسا للمجتمعات الإسلامية كافة.
المهندس بلجودي عبد الكريم: المكّي عبادة.. شيخ الوسطيّة والوطنيّة
عاد “التلميذ” بلجودي عبد الكريم في كلامه عن الشيخ عبادة، إلى سنّ 7 و8 سنوات من عمره، حينما طرق باب مسجد الثورة، فوجده بنظامه المرتّب، ومقصورة الشيخ نقشت عليها الآية الكريمة: “إن أريد إلا الإصلاح ما استطعت وما توفيقي إلا بالله”، حيث قضى سنوات طفولته، فقد وجد الشيخ المكي في المسجد، يشبه في هندامه ومشيته والده، لكنّه كان شخصا آخر، يترك مسافة تواصل بينه وبين الناس، فليس بإمكان أي شخص الاقتراب منه، كانت له هيبة، إذ أنّ مجالسته صعبة جدا، فبمجرد أن تدق الباب، يسألك عن حاجتك، ثم يأتي الجواب، لتنصرف مباشرة، موضّحا أنّ الشيخ كان يسكن حي “لارودوت ” الشهير بشهدائه، حيث كانت تقيم عائلة ديدوش التي قدمت 73 شهيدا.
وعن يوميات الشيخ المكّي، ذكر بلجودي أنه “يأتي بعد شروق الشمس للمسجد بالزيّ العاصمي، قميص وسروال والجلابة على أكتافه، يسلم على الناس بأصبع التشهد، فقد كان قدوة في هندامه، مثلما كان يحسن السباحة، كما كانت له رحلة واحدة في السنة إما لحمام ملوان أو حمام مريغة، وهناك يرتاح من التعب وزخم الحياة”، مضيفا أنه “كان يحرص على وضع النظارات من الحياء، فلم يكن بالإمكان النظر لعينيه، وهي هيبة ربانية”.
وقال المتحدّث إنّ الشيخ المكّي كان يشعر بارتياح كبير عندما يسمع أصوات المقرئين في المدرسة القرآنية لمسجد الثورة، وذكّر بنشاطه الدعوي الدؤوب، حين أقام حلقة عامة للشباب، وأخرى للحزب القرآني الراتب للشيوخ، كما كان أوّل من أطلق دروس الدعم في الرياضيات لطلبة البكالوريا التي قدّمها الأستاذ محمد بوقرة، (الآن من علماء الرياضيات في دبي)، لذا، فقد أنتجت تلك المدرسة أساتذة عظام، على حدّ قوله.
واستطرد المتحدّث أنّ الشيخ المكّي عبادة، خرّيج مدرسة التربية والتعليم، فقد كان أستاذا في متوسطة ديار السعادة، “اعترف الجميع بفضله وقيمته وهيبته، فقد علّمهم الروح الوطنية، وغرس فيهم حب الوطن، كان حريصا على وضع “شاشية إسطنبول” على رأسه، وعليها نجمة وهلال”، ليختم كلامه بالقول: “الشروق” مشكورة على هذه المبادرة.
أستاذة الإعلام الآلي بلكوش هجيرة: هو مؤسس الحركة الإسلاميّة النسوية في الجزائر
سجّلت أستاذة الإعلام الآلي بجامعة الجزائر بلكوش هجيرة، حضورها في الحفل التكريمي لشيخها المكي عبادة، لعلّها تكون صوت النساء اللواتي تربّين على دروسه في مسجد “الثورة”، فهي من بنات الحيّ وتعوّدت على مرافقة جدتها رحمها الله للصلاة، منذ أن كان عمرها 8 سنوات، وعندما وصلت للمرحلة الثانوية التزمت بالحجاب الشرعي بفضل النشاط الدعوي النسويّ في تلك الفترة، إذ تقول المتدخّلة بهذا الصدد “كان للشيخ عبادة رؤية ثاقبة في أهمية دور المرأة وفهمها الصحيح للدين، فكان يقيم حلقات وعظيّة للنساء، فشكّلت دروس الشيخ النبع الصافي لتكوينهن الديني منذ 1985”.
وأضافت المتحدّثة، أنه بمرور الوقت، اندمجت الأخوات في النشاطات المسجدية، لأنّ الشيخ عبادة فتح المجال بكل حرية عبر الحلقات العامة، وتعليم القرآن، ودروس السيرة والعقيدة، وبذلك، تحوّل مسجده إلى قبلة لتلميذات الثانوي وطالبات الجامعة وكلّ نساء العاصمة، وفي تلك الفترة، ارتدت العشرات من مرتادات المسجد الحجاب، لا زلن – حسبها- ينشطن حاليّا في عديد المنابر الدعوية والاجتماعية، فهنّ ثمرات جهوده، موضّحة أنهنّ “عندما يواجهن إشكالا، يستقبلهن في بيته ليوجههنّ لطريقة التصرف، فالشيخ أسّس للحركة النسويّة الإسلامية في الجزائر، وكان فاتح الأبواب أمام النساء في وقت جرى تغييبهن في الكثير من المساجد، مثلما كان أول منْ أطلق دروس التقوية لتلاميذ البكالوريا”.
مدير المركز النفسي والبيداغوجي بالمدنيّة جمال آيت عيسى: الشيخ المكّي هو خيرُ منْ تعلّم القرآن وعلّمه لجيلنا
أقرّ مدير المركز النفسي والبيداغوجي بالمدنيّة، الإمام المتطوّع جمال آيت عيسى، بفضل الشيخ عبادة عليه وعلى أقرانه، فهو أوّل من فتق لسانه على كتاب الله، فقد التحق بمسجد الثورة بتوجيه من والده، بعد أن حفظ على يديه مجموعة من المتون، ثم دفعه للمسجد في أوائل 1973. حينها كان الشيخ المكّي يشرف على برنامج ثري جدا، فمسجد الثورة في بداية 1974 شكّل مهدًا لإعداد الوعاظ والمدرسين، حيث انضمّ المتحدّث لتلك المجموعة، تحت إشراف الشيخ عطية، وطارق شكيري، وعبد الرزاق بن سبع، وعبد المجيد درياس ومسعد زيان، وغيرهم، إذ كانوا يكلفونهم بإعداد موضوع معيّن، ثم في آخر الأسبوع يحضرون الحلقة، وكل واحد له مهمة، مثل توظيف الآيات، الأحاديث النبوية، الأمثال، وهناك الجانب اللغوي، وتقنيات الإلقاء، وبفضل تلك الجهود، فقد تلقّى آيت عيسى مبادئ الوعظ والإرشاد وحفظ القرآن الكريم في 13 من العمر.
وشرح الأستاذ جمال آيت عيسى طريقة الشيخ المكي في تحفيظ كتاب الله، بتوزيعه على 4 أجزاء، إذ يحفظ كل مُريد الربع الخاص به في مدة لا تتجاوز 45 يوما، مع الأربعين النووية، ثم يخضع للامتحان، وقد نال وقتها المتحدث “جائزة الحفظ” بقيمة 400 دج، ولا زال يذكر أنّ “الحاج محمود”، الصديق الوفي للشيخ المكّي، هو منْ ساهم في توفير الجوائز، ما حفّزهم على مواصلة حفظ القرآن الكريم إلى أن منّ الله عليهم بحفظه كاملا، وإثر ذلك، عمدوا لنهل مختلف العلوم الشرعية.
وعبّر المتحدث عن سعادته الكبيرة بحيازته شهادة تزكية مخطوطة بيد الشيخ المكي عبادة، أعدها له عندما همّ بالالتحاق بإحدى الجامعات في الخارج، فشجّعه الشيخ المربّي، حيث تجلت ثمار عمله بتطوّر المتحدث من حافظ للقرآن الكريم لمحفظ لغيره، ذلك أن مدرسة الشيخ عبادة كانت تزخر بالحفظة، حتى أنها اشتهرت بتصديرهم، فقد كان مريدوها يشرفون على 5 مساجد، يبعثون إليها بالمقرئين، ثم صارت 10 مساجد، مبديًا الأسف على الوقت الحالي، حيث انعدم حتى الاكتفاء الذاتي، مثلما قال.
وعن وقار الشيخ المكّي، حمد آيت عيسى المولى عز وجل على فضل مصاحبة الرجل، فقد كانت النظرة إليه تذكر بالله، وتميّز بوقفة مهيبة على المنبر، فهو لا زال يحفظ جل خطبه، وقد تعلم منه فن الخطابة، وقال إنه شجعه كثيرا، لما بدأ يدرّس تفسير القرآن الكريم، وقد استرجع المتحدث شريط الذكريات، عندما كان كل أربعاء، يقدم دروسه، لكنه يرتبك حين يشاهد الضوء مشتعلا في مقصورة الشيخ المكّي، لأنه سيستدعيه في اليوم الموالي على العاشرة صباحا، طالبًا منه إعادة قراءة الآية الفلانيّة، كما يصحح له الخطأ بكل حكمة ورفق، فقد كان كلامه همسٌ يتطلّب التركيز حتى تسمعه، ولا يتحدث بصوت عال، لكنه في دروسه وخطبه يسمعُ الأصم، على حدّ تعبيره.
الداعية والمختصّة في علم الاجتماع مليكة خنوش: الشيخ عبادة مدّ لنا يد العون وشجعنا على ارتداء الحجاب
اعتبرت الداعية مليكة خنوش نفسها ثمرة من ثمار الشيخ المكّي عبادة وإخوانه من العلماء، الذين أنقذوا الجزائر من ويلات التخلّف، الجهل والأمية، حين أرسوا جذور الدين والعقيدة، فقد غرسوا القيم والأخلاق عبر المساجد التي عمرت على أيديهم، واستحضرت المختصة في علم الاجتماع جهود تلك الفترة من الثمانينيات، حيث شجعهنّ الشيخ المكّي على ارتداء الحجاب والتزام شرع الإسلام، كما حفّزهم في آن واحد على طلب العلم وارتياد الجامعة.
وعادت المتحدثة لتسرد قصتها الشخصية بين عامي 1972 و1973، حيث لبست رفقة 10 فتيات أخريات الحجاب الشرعي بفضل توجيهات الشيخ المكّي، فكنّ بعد ذلك يشاورنه في كل أمورهن الخاصّة، حتى طريقة خياطة الحجاب، وعندما تحاصرهنّ المشاكل يلجأن إليه، فكان همّه توعية المرأة المسلمة، الوقوف معها ومساندتها في الميدان.
المصدر: جريدة الشروق بتصرف.