الشيخ المكي عبادة
بقلم: محمد الهادي الحسني-
انتقل من الفانية إلى الباقية يوم الخميس (26-5-2016) شخصٌ نشهد –وما شهدنا إلا بما علمنا– أنه من الذين ينطبق عليهم حديثُ من لا ينطق عن الهوى – عليه أفضل الصلاة وأزكى السلام- القائل: “المسلم من سَلِم المسلمون من لسانه ويده”، إنه الشيخ المكي عبادة، الذي طال عمرُه، وحَسُن خلقُه، وصلُح عملُه، ولا نزكي على الله أحدا، و”هو أعلم بمن اتقى”، ومن حضر جنازته عَلم أيّ رجل هو.
عرفت الشيخ المكي في أكتوبر 1962، عندما جئت من مدينة جيجل إلى العاصمة لألتحق بأيّ مؤسسةٍ تربوية، وكنت آنذاك في العاصمة كفتى المتنبي في “شِعب بوان”، “غريب الوجه واليد واللسان”.
كنت مقيما عند أخي الأكبر محمد الربيع في حي لارودوت، الذي حمل فيما بعد اسم الشهيد مراد ديدوش، لأنه كان من سكانه، غير بعيد من مدرسة التربية والتعليم ومسجدها التابعين لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين..
توجّهت إلى المدرسة المذكورة حاملا رسالة من الشيخ محمد الطاهر ساحلي (الجيجلي) مدير “مدرسة الحياة” بجيجل، يوصي فيها خيرا بهذا التلميذ، حامل الرسالة، ويشهد له أنه – كما قال- “على خُلق حسن، وأنه لو تقدّم لامتحان الشهادة الابتدائية لنالها، بيد أن الظروف –يقصد ظروف الثورة- حالت دون ذلك”. وأذكر أن كلمة “بَيدَ” شغلتني كثيرا، لأنني لم أفهم معناها آنذاك…
كان المسجد والمدرسة تحت إشراف الشيخ المكي عبادة، الذي ترتبط أسرتُنا بأسرته عن طريق المصاهرة، فسلّمته رسالة التوصية، فطلب من الأستاذ الطاهر بلعبّاس أن يسجلني في القسم النهائي، أي القسم المرشح للشهادة الابتدائية.
لم يطل مكثي بالمدرسة، فقد أجريت مسابقة للدخول إلى السنة الأولى متوسط، وذلك في أواخر سنة 1962، حيث وفِّقت والتحقت بـ”ثانوية” ابن خلدون، في حي بلكور، التي كان مديرا لها الشيخ عبد المجيد حيرش..
لم تنقطع صلتي بالشيخ المكي منذ ذلك التاريخ، وكنت في طريقي إلى ثانوية ابن خلدون أمرّ -ذهابا وإيابا- على بيت الشيخ المكي، الواقع آنذاك في نهاية شارع الشهداء من جهة المدنية، ومما كان يُجرّئني على التردد على منزل الشيخ المكي سماحتُه واتساع صدره لبعض “تهوّر” مراهقتنا، ومخاللتي لأنجاله، وما كانت تتحفنا به زوجُه الطيبة “للاّهم” من شهيِّ الطعام، فإن لم يكن فمن لطيف الكلام، وظريف الابتسام.. شفاها الله، وأطال عمرها، وأفرغ عليها صبرا في مصيبتها في زوجها.
وُلد الشيخ المكي في 1918، وسُجل في الحالة المدنية في 1922، وكان مسقطُ رأسه في قرية “بني فرقان”، القريبة من “الميلية”، بولاية جيجل، وهو سليل أسرة طيّبة الأصل، كانت تشرف على زاوية لتحفيظ القرآن الكريم، وتعليم الناس أمور دينهم، وتصلح بينهم… فحفظ الشيخ القرآن الكريم، وتلقى مبادئ اللغة والدين… حتى استوى على ساقه، ونضج.. فالتحق –في منتصف الثلاثينيات- بدروس الإمام ابن باديس بقسنطينة، وما هي ببعيد من قريته التي دخلتها الدعوة الإصلاحية مبكّرا، لأن الإمام ابن باديس كان يتردد على تلك النواحي.
تلقى الشيخ المكي عن الإمام ابن باديس العقيدة الصافية الصحيحة، والعلمَ النافع، والخُلقَ القويم، ولما آنس منه الإمام رُشداً زوّده بنصائحه، ووجهه تلقاء جامع الزيتونة المبارك، الذي قضى فيه بضع سنين، وممن أثنى عليهم من أساتذته فيه الإمام محمد الطاهر ابن عاشور..
عاد الشيخ إلى مضارب أسرته، وكانت الحربُ العالمية الثانية قد اندلعت، فقلّ النشاط، وكان الشيخ يتنقل بحذر في القرى المجاورة، يبثّ ما تعلمه من علم، وينشر الوعي، منتهجا في ذلك نهج جمعية العلماء، مازجا بين العلم والوطنية، وذلك ممّا تميّزت وامتازت به جمعية العلماء.
تلقى الشيخ المكي عن الإمام ابن باديس العقيدة الصافية الصحيحة، والعلمَ النافع، والخُلقَ القويم، ولما آنس منه الإمام رُشداً زوّده بنصائحه، ووجهه تلقاء جامع الزيتونة المبارك، الذي قضى فيه بضع سنين، وممن أثنى عليهم من أساتذته فيه الإمام محمد الطاهر ابن عاشور..
كان الشيخ المكي على تواصل مع الشيخ المكي النعماني، فشجّعه الأخير على الانتقال إلى نواحي العاصمة.. وهو ما تم في سنة 1947.
استقر الشيخ في نواحي الرغاية، وسعى إلى تأسيس مدرسة بمساعدة السكان، ولكن السلطات الفرنسية لم تصبر على نشاط الشيخ في الرغاية وما حولها، فضايقته، وعرقلت عمله.. فاقترح عليه أن يدخل إلى حي القصبة، الذي تغلغل فيه “الإصلاح”، لوجود نادي الترقي، ومدرسة الشبيبة الإسلامية، والمركز العام لجمعية العلماء… وهو ما قام به في أوائل الخمسينيات..
كان اسم الشيخ المكي على أفواه الناس لِما كان يتمتع به من سمعة طيبة، وأخلاق حسنة، وكان في حي لارودوت (المرادية) جماعة من أنصار الإصلاح، على رأسهم الحاج الزبير الذين سعوا لينتقل الشيخ إلى حيِّهم، ليشرف –ومن معه- على تأسيس مسجد وبناء مدرسة… التي أدارها مع القيام بأمر المسجد من إمامة، وإرشاد.. واستمر في القيام بأمر المسجد إلى أن أقعده الكبر والمرض..
نجد كثيرا ممن هم في مستوى علم الشيخ المكي، ولكننا لا نجد كثيرا ممن هم في أخلاقه، وهو في ذلك لم يكن ممن يأمرون بالمعروف وينسون أنفسهم، بل كان لا يأمر بمعروف حتى يكون من أول العاملين به، ولا ينهى عن منكر حتى يكون من أول المنتهين عنه.. وأذكر أن أول مرة رأيت فيها كتاب “خُلق المسلم” للشيخ محمد الغزالي رأيته عند الشيخ المكي.. لا أذكر ممن عرفت ممن يعرفون الشيخ المكي أن واحدا ذكره بسوء أبدا، ولو لم يكن على رأيه.
ولم يكن الشيخ ممن يستهويهم الجدل، ولم يكن من “المتفيْقهين” الذين يَغرقون ويُغرقون غيرهم في الفروع الفقهية، معرِضا عن الخوض في الجزئيات.. مادام الإسلام يسع ذلك كله..
كان بسّاما في وجوه الناس، حديثه أقرب إلى الهمس، وكان مشيه هُونا.. ويمرّ باللغو مرور الكريم إذا خاطبه الجاهلون، وقال: “سلاما”.
رحم الله الشيخ المكي الذي علّم الناس الإسلام بخلقه أكثر مما علمهم بقوله.