الشيخ المكّي عبادة
بقلم: أعمر عشاب-
وُلد الشيخ المكي في 1918، وسُجل في الحالة المدنية في 1922، وكان مسقطُ رأسه في قرية “بني فرقان”، القريبة من “الميلية”، بولاية جيجل، وهو سليل أسرة طيّبة الأصل، كانت تشرف على زاوية لتحفيظ القرآن الكريم، وتعليم الناس أمور دينهم، وتصلح بينهم.
فحفظ الشيخ القرآن الكريم، وتلقى مبادئ اللغة والدين… حتى استوى على ساقه، ونضج.. فالتحق –في منتصف الثلاثينيات- بدروس الإمام ابن باديس بقسنطينة، وما هي ببعيد من قريته التي دخلتها الدعوة الإصلاحية مبكّرا، لأن الإمام ابن باديس كان يتردد على تلك النواحي.
تلقى الشيخ المكي عن الإمام ابن باديس العقيدة الصافية الصحيحة، والعلمَ النافع، والخُلقَ القويم، ولما آنس منه الإمام رُشداً زوّده بنصائحه، ووجهه تلقاء جامع الزيتونة المبارك، الذي قضى فيه بضع سنين، وممن أثنى عليهم من أساتذته فيه الإمام محمد الطاهر ابن عاشور..
عاد الشيخ إلى مضارب أسرته، وكانت الحربُ العالمية الثانية قد اندلعت، فقلّ النشاط، وكان الشيخ يتنقل بحذر في القرى المجاورة، يبثّ ما تعلمه من علم، وينشر الوعي، منتهجا في ذلك نهج جمعية العلماء، مازجا بين العلم والوطنية، وذلك ممّا تميّزت وامتازت به جمعية العلماء.
في سنة 1947 استقدمه صديقه الشيخ المكي النُّعماني، وهو أحد أعلام جمعية العلماء، إلى العاصمة ليساعده في النشاط الإصلاحي، فجاء الشيخ “المكي” ليستقر مدة في عين طاية، ثم انتقل إلى بلدية رويبة، حيث افتتح بها مدرسة حرة تابعة لجمعية العلماء، وأشرف على إدارتها والتعليم بها، ولكن الاحتلال الفرنسي عجّل بإغلاقها وسجنه بتهمة التعليم من دون رخصة.
بعد خروجه من السجن لجأ إلى الجزائر العاصمة، فدرّس مدة بحي القصبة العريق، حيث تعرّف على رفيقي دربه في النضال الدعوي بعد الاستقلال، وهما الشيخ أحمد سحنون والشيخ عبد اللطيف السلطاني، وتعرّف كذلك على الشيخ عبد الرحمان الجيلالي والشيخ الشاعر الشهيد عبد الكريم العقون، والشيخ قادة بن يوسف والشيخ عمر العرباوي وغيرهم.
كان اسم الشيخ المكي على أفواه الناس لِما كان يتمتع به من سمعة طيبة، وأخلاق حسنة، وكان في حي لارودوت (المرادية) جماعة من أنصار الإصلاح، على رأسهم الحاج الزبير الذين سعوا لينتقل الشيخ إلى حيِّهم، ليشرف –ومن معه-على بناء مسجد الثورة ومدرسته بحي المرادية، (سُمّي مسجد الثورة بعد الاستقلال لأن تدشينه تزامن مع اندلاع الثورة التحريرية الكبرى) ولكن الشهرة التي غلبت على هذا المسجد، هي مسجد الشيخ المكي، لأنه كان يؤم المصلين فيه ويقيم لهم فيه الدروس والخطب والحلقات العلمية. واستمر في القيام بأمر المسجد إلى أن أقعده الكبر والمرض.
وقد ساهم مع إخوانه العلماء في دعم أعمال الثورة وتحريض فئات الشعب على مناصرة المجاهدين بالتنسيق مع الشهيد العربي بن مهيدي والشهيد عبان رمضان، والمناضل الكبير عبد المالك تمّام – رحمهم الله – وأدّى ما عليه تجاه وطنه، خاصة خلال معركة الجزائر.
ثمّ كانت له مواقف ناصعة في نصرة الإسلام والحفاظ على كيان الدولة وشخصية المجتمع من خلال نشر العلم والتربية الدينية الصحيحة والدفاع عن اللغة العربية وقانون الأسرة،
نجد كثيرا ممن هم في مستوى علم الشيخ المكي، ولكننا لا نجد كثيرا ممن هم في أخلاقه، وهو في ذلك لم يكن ممن يأمرون بالمعروف وينسون أنفسهم، بل كان لا يأمر بمعروف حتى يكون من أول العاملين به، ولا ينهى عن منكر حتى يكون من أول المنتهين عنه.
ولم يكن الشيخ ممن يستهويهم الجدل، ولم يكن من “المتفيْقهين” الذين يَغرقون ويُغرقون غيرهم في الفروع الفقهية، معرِضا عن الخوض في الجزئيات.. مادام الإسلام يسع ذلك كله..
كان بسّاما في وجوه الناس، حديثه أقرب إلى الهمس، وكان مشيه هُونا.. ويمرّ باللغو مرور الكريم إذا خاطبه الجاهلون، وقال: “سلاما”.
فقد كان خطيبا مصقعا ومُفوّها، وداعية حكيما يدعو إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة، حيث ساهم بجهد كبير في تهدئة الأوضاع خلال أحداث أكتوبر 1988م، ثم ابتلاه الله عز وجل بالمرض الذي أقعده عن الحركة، ولكن قلبه بقي ينبض بالحيوية ولسانه بقي ناطقا بالنُّصح والتوجيه، إلى أن لقي ربه في ليلة الجمعة المباركة 26/05/2016. رحمه الله وأغدق على قبره شآبيب الرحمة والرضوان.
رحم الله الشيخ المكي الذي علّم الناس الإسلام بخلقه أكثر مما علمهم بقوله.