الشيخ محمد الأخضر بن الحسين الجزائري الذي تَوَلَّى مشيخة الأزهر
بقلم: محمد رميلات –
لمّا تقدَّم الشيخ محمد الأخضر بن الحسين لامتحان شهادة العَالِمية بالأزهر، وهي تعادل شهادة الدكتوراه في عصرنا، عُقدت له لجنة امتحان.. وأخذ أعضاء اللجنة في طرح الأسئلة، فكانوا كلما تعمَّقوا في السؤال، وجدوا من الشيخ عُمقًا أكثر وأكبر في الإجابة، والتي تنم عن فهم ووعي ودراية كبيرة، ورواية غزيرة، وأبدى للمُمْتَحِنِينَ ما أدهشهم وأبهرهم، فما كان منهم إلا أن منحوه شهادة العَالِمية، عن جدارة واستحقاق، وقال رئيس اللجنة بإعجاب: "هذا بحْرٌ لا ساحل له، فكيف نقف معه في حِجاج؟!". ...
الشيخ محمد الأخضر بن الحسين العَمْري ، عالم من كبار علماء المسلمين، وداعية، ومفكر، ومصلح لا تلومه في الحق لومة لائم... أصبح عضو بارز في هيئة كبار العلماء بمصر سنة 1950، وتوّلى مشيخة الأزهر في 16 سبتمبر سنة 1952م، فجدَّد لهذا الصرح العلمي العريق بعض شبابه، وبثَّ فيه روحًا من كرامة النفس، وكرامة العلم، وكرامة العلماء، لكنه ما لبث أن استقال من منصبه في 7 يناير عام 1954 م احتجاجاً على إلغاء القضاء الشرعي، من طرف الرئيس جمال عبدالناصر واستبداله بالقضاء الإنجليزي، وباستقالته هذه كان يريد المحافظة على هيبة الأزهر، ومكانة الأزهر، ودور الأزهر في الدين والحياة.. وكان يريد للشريعة الإسلامية أن تبقى المصدر الأساسي للتشريع .. و نشر الشيخ بيان استقالته في جريدة الأهرام ليعلم طلاب الأزهر وعلمائه ، وعامة الناس أن جمال عبدالناصر جاء بفاقرة قصمت ظهر الدولة والدين ...
يوم تنصيبه شيخًا للأزهر قال الشيخ محمد الأخضر بن الحسين : "إن الأزهر أمانة في عنقي ، أسلمها حين أسلمها موفورة كاملة ، وإذا لم يتأتَّ أن يحصل للأزهر مزيد من الازدهار على يدي ، فلا أقل من أن لا يحصل له نقص "...
ألف الشيخ ـ رحمه الله ـ تآليف عديدة ، وتصانيف مفيدة ، جدير بها أن تُكتب بماء الذهب ، أذكر منها " رسائل الإصلاح " في ثلاثة أجزاء " ، و" بلاغة القرآن " ، و" أديان العرب قبل الإسلام " ، " تونس وجامع الزيتونة " ، " تونس67 عامًا تحت الاحتلال الفرنساوي 1881-1948" ، " حياة ابن خلدون ومُثلٌ من فلسفته الاجتماعية " ، " دراسات في العربية وتاريخها " ، " الرحلات " ، " الحرية في الإسلام " ، و " الخيال في الشعر العربي " ، " آداب الحرب في الإسلام " ، وديوان شعري وسمه بـ "خواطر الحياة " ، و" تعليقات على كتاب الموافقات للشاطبي" ، وبحوث ومقالات نُشرت في مجلة الأزهر المسماة (نور الإسلام) ، ولواء الإسلام ، والهداية الإسلامية ...
كما ردّ الشيخ الأخضر بن الحسين ردًا قويًا على كتاب الشعر الجاهلي للدكتور طه حسين الصادر سنة 1927م الذي جاهر فيه باحتقار كل قديم دُوِّن في صحف الأدب ، وزعم أن كل ما هو شعر جاهلي إنما هو اختلاق ، وافتراء ، وانتحال ، ولم يكتف بهذه الفرية فجاهر بالهجوم على المقدسات الدينية حيث قال : " للتوراة أن تحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل ، وللقرآن أن يحدثنا عن إبراهيم وإسماعيل ، ولكن هذا لا يكفي لإثبات وجودهما التاريخي…" ، فرد الشيخ الأخضر بن الحسين على طه حسين بكتاب عنوانه " نقض كتاب في الشعر الجاهلي " أثبت فيه بالحجة والدليل أن الشعر الجاهلي أصيل غير دخيل ، وكشف عن مجافاة طه حسين للحق ... ولمّا صدر كتاب الشيخ علي عبدالرازق " الإسلام وأصول الحكم " سنة 1926م وأثار ضجة كبيرة بزعمه أن الإسلام ليس دين حكم ، وأنكر وجوب قيام الخلافة الإسلامية ، ونفى وجود دليل عليها من الكتاب والسنة ، انبرى له الشيخ محمد الأخضر بن الحسين وألف يرد عليه بكتاب عنوانه " نقض كتاب الإسلام وأصول الحكم " وفي كل فقرة من ردوده كان الشيخ الأخضر يكشف عن علم غزير وإحاطة متمكنة بأصول الفقه وقواعد المحاججة والمجادلة بالحق ، وأظهر ذكاء وقّادًا في معرفته بمقاصد التشريع الإسلامي ، وأبان عن وعي وفهم كبير للتاريخ الإسلامي ورجاله وحوادثه ...
وقبل ظهور جماعة الإخوان المسلمين التي تدعوا إلى عودة الخلافة ، وتحكيم كتاب الله وسنة رسوله ، كان الشيخ محمد الأخضر بن الحسين الصوفي ، الطرقي ، الأشعري ، قد بادر إلى تأسيس جمعية الشبان المسلمين ، ووضع لائحتها الأولى مع صديقه محب الدين الخطيب ، وقامت الجمعية بنشر مبادئ الإسلام والدفاع عن قيمه الخالصة ، ومحاربة الإلحاد العلمي ، والدعوة بالحسنى إلى تحكيم شرع الله ، وأنشأ أيضا جمعية الهداية الإسلامية وكان نشاطها علميًا أكثر منه اجتماعيًا ، وضمَّت عددًا من شيوخ الأزهر وشبابه وطائفة من المثقفين ، وكوَّن بها مكتبة كبيرة كانت مكتبته الخاصة نواة لها ، وأصدر مجلة باسمها كانت تحمل الروائع من التفسير والتشريع واللغة والتاريخ...
الشيخ محمد الأخضر بن الحسين العَمْرِي أبوه جزائري من طولقة ، ولاية بسكرة حاليًا ، وأمه جزائرية سوفية من واد سوف ، وخاله العالم الجزائري الكبير ، والعلاّمة الشهير ، الشيخ محمد المكي بن عزوز ... هاجرت عائلة الشيخ إلى تونس هربًا من مضايقات الإحتلال الفرنسي ، واستقرت في مدينة نفطة ، هناك ولد الطفل محمد الأخضر في 16 أوت سنة 1876م ... ولمّا تنقل بين دمشق ومصر وتركيا ، حُذفت الـ "بن" من اسمه على الطريقة المشرقية ، وغلب عليه اسم الخِضْر عوضًا عن الأخضر فأصبح اسمه الثلاثي محمد الخضر حسين ...
وكانت مدينة نفطة آنذاك موطن العلم ومهوى أفئدة العلماء ، وكانت تلقب بالكوفة الصغرى ، وبها جوامع ومساجد كثيرة ، وفي هذا الجو العلمي نشأ الطفل ... حفظ القرآن الكريم صغيرًا ، ولما بلغ الثالثة عشرة من عمره ارتحل إلى تونس العاصمة فاستقر هناك مع أسرته ، والتحق بجامع الزيتونة المعمور ، فأخذ علومًا جمّة عن خاله الشيخ محمد المكي بن عزوز و كان آنذاك أحد مشايخ جامع الزيتونة ، كما نهل من دروس مشايخ وأعلام آخرين لعل من أبرزهم الشيخ سالم بوحاجب الذي كان أحد أعمدة الإصلاح ...
وفي سنة 1898 تخرج في الزيتونة غزير العلم ، واسع الأفق ، فصيح العبارة ، وفي عام 1904م أنشأ صحيفة " السعادة العظمى" ، وهي أول مجلة عربية ظهرت في تونس ، وكانت تصدر في منتصف كل شهر، طُبع منها 21 عددًا ثم انقطع صدورها ، وكان الشيخ يكتب أغلب مقالاتها ليرشد الناس إلى مبادئ الإسلام وشرائعه ، ويوقظ الغافلين من أبناء أمته ، و وقف الشيخ قلمه ولسانه للدفاع عن دولة الخلافة ، وفضح مؤامرت الفرنسيين والطليان والإنجليز على بلاد المسلمين ... وعندما عرضت عليه حكومة الاحتلال الفرنسي منصب في محكمة فرنسية رفض الاشتراك فيها ، وفي عام 1905 تولى الشيخ القضاء الشرعي في مدينة بنزرت بطلب من أهلها ، ودَرّس في جامعها الكبير ، ثم ما لبث أن استقال وعاد إلى تونس ..
عُيّن مدرسًا رسميًا بجامع الزيتونة ، وقام خلال هذه الفترة بالتدريس والخطابة في الجمعية الخلدونية... وكان بين الحين والآخر يزور الجزائر لصلة أرحامه ، والتدريس والخطابة في زوايا وجوامع الجزائر ، وقد زار جل مدنها الكبرى ، وبقي يتردد بين الجزائر وتونس بضع سنين ... وفي هذه الأثناء كانت مضايقات الاحتلال تزداد عليه تضييقًا ، فقد وجه الفرنسيون إليه تهمة بث روح العداء للغرب ، فاضطر الشيخ محمد الأخضر بن الحسين إلى مغادرة البلاد سنة 1910م والسفر إلى تركيا بحجة زيارة خاله العالم الجزائري المشهور الشيخ محمد المكي بن عزوز الذي كان يشغل منصب القضاء هناك ، فمكث شهرين في اسطنبول ، ثم سافر إلى دمشق وهناك وجد محنة بانتظاره ، فقد سجنه جمال باشا السفاح ستة أشهر متتالية بحجة التآمر على الدولة ، وبعد مغادرته للسجن مكث عند أقاربه في دمشق إلى أن طلبته وزارة الحربية في اسطنبول ليكون كاتبا للغة العربية فيها ، وكان الكاتب آنذاك يسمى " منشأ" ، سافر الشيخ إلى اسطنبول وتولى مهامه لبعض الوقت ، ثم أرسلته السلطنة العثمانية سرًا إلى ألمانيا ليحرض المغاربة هناك على الجهاد ضد الاحتلال الفرنسي والإيطالي ، فَبَنى فيها مسجد برلين ، وخَطب في منبره عن مكانة الحرية في الإسلام ، ووجوب الجهاد ضد الفرنسيين والإيطاليين في دول شمال إفريقيا ...
وعندما سمع بأن الأحوال هدأت بتونس عاد إليها عن طريق نابولي الإيطالية ، لكنه وجد الأمور قد ازدادت تعقيدا ، فأزمع الهجرة نهائيا و اختار دمشق موطنا ثانيا له ، وفي سنة 1920 عاد إلى مصر واشتغل بالبحث وكتابة المقالات، ثم عمل محررًا بالقسم الأدبي بدار الكتب المصرية ، واتصل بأعلام النهضة الإسلامية في مصر وتوثقت علاقته بهم ، ومنهم فضيلة الشيخ محب الدين الخطيب ، والشيخ طاهر الجزائري ، والشيخ محمد رشيد رضا...
وخلال رحلاته هذه بين تونس والجزائر ودمشق وتركيا ، تزوج أربع مرات ، تزوج سورية ، وتونسية ، ومصرية ، ولمّا توفت تزوج مصرية أخرى ... كانت تلك الصولات والجولات ، مع غزارة العلم ، وحسن السمت ، وصلاح العمل هي المؤهلات التي رفعته إلى كرسي مشيخة الأزهر الشريف ، لكنه استقال من منصبه بعد سنتين غير آباه ، بالجاه والمجد الذي يضمنه الكرسي لأصحابه ... ولما جاءه وفد من الرئاسة يساومه على دينه ، أجابهم قائلاً : " قولوا للرئيس يكفيني من دنياكم كسرة خبز وكوب لبن ، وقد ضمنها الله لي، وهذه استقالتي تحت تصرفكم" ....
وما أكثر مواقف الرجل التي سجلها له التاريخ بأحرف من ذهب، وما أكثر جلائل أعماله ومناسك بطولاته التي لازمته إلى أن انتقل إلى الرفيق الأعلى في 28 فبراير سنة 1958م ، نسأل الله له الرحمة والرضى والرضوان، ونسأل الله أن يبرم لهذه الأمة أمرًا رشدًا .