الإعلام الرسالي الهادف البصائر… بريق يبقى رغم التحديات
بقلم: فاطمة طاهي-
إن جريدة البصائر الجزائرية لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، من الجرائد أو بالأحرى الجريدة الوحيدة الأطول عمرا والأكثر أهمية وشهرة منذ بداية مسيرتها عام 1935م، وذلك لما تركته من أثر عميق في مجرى الحياة الوطنية والعربية الإسلامية خلال سلاسلها الأربع، سواء في تلك الأعداد التي وُلدت في وقت العلامة عبد الحميد ابن باديس، أو التي أشرف عليها الرئيس الثاني لجمعية العلماء المسلمين الشيخ محمد البشير الإبراهيمي، فكانت الجريدة أداة استراتيجية فعالة في نشر الوعي الديني والوطني بين أوساط الجزائريين، وذات دور ريادي في التصدي للدعاية الاستعمارية الفرنسية، لتسير الجريدة على نفس الخطى والدرب في سلسلتها الثالثة في وقت الشيخ أحمد حماني، واليوم هي في سلسلتها الرابعة منذ إشراف الشيخ عبد الرحمن شيبان عليها سنة 2000م. “البصائر” كانت ولا تزال في هذا العهد، عهد الدكتور عبد الرزاق قسوم تؤدي رسالتها في الإصلاح والبناء الحضاري، وتحافظ على ثوابت الأمة، في كل ما يتعلق بمستجدات الساحة الوطنية والعربية الإسلامية والعالمية.
لسلسلة الأولى للبصائر منذ 1935م إلى 1939م
تعد البصائر من بين الجرائد التي أشرف على إصدارها العلامة عبد الحميد ابن باديس والجريدة الوحيدة التي بقيت تصدر بعد وفاته، صدرت جريدة البصائر الجزائرية لسان حال جمعية العلماء المسلمين الجزائريين يوم الجمعة الفاتح من شهر شوال 1354هـ الموافق لـ 27 ديسمبر 1935م، ليكون يوم ولادتها بعد 3 جرائد أصدرتها جمعية العلماء المسلمين، والتي كانت قد أدت إلى إصدار تعليمة من طرف مدير الشؤون الأهلية في الجزائر جان ميرانت تمنع جمعية العلماء المسلمين الجزائريين من إصدار أية مطبوعة تعبر عن خطها الفكري الإصلاحي، ولقد تولى جان ميرانت منصب مدير الشؤون الأهلية في سنة 1920م، استمر في منصبه لمدة 15 سنة كاملة إلى غاية سنة 1935م، وبعد مغادرته تولى لويس ميو منصب مدير الشؤون الأهلية، فقام هذا الأخير باستقبال وفد من جمعية العلماء المسلمين بقيادة الشيخ عبد الحميد بن باديس وعضوية الشيخ الإبراهيمي والشيخ الطيب العقبي سنة 1935م، ليمنحهم رخصة إصدار جريدة البصائر التي صدر عددها الأول يوم 27 ديسمبر 1935.
وسميت “البصائــر” لقوله تعالى {قَدْ جَاءكُم بَصَآئِرُ مِن رَّبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَمَنْ عَمِيَ فَعَلَيْهَا وَمَا أَنَاْ عَلَيْكُم بِحَفِيظٍ} [سورة الأنعام، الآية رقم 104]، رافقت هذه الآية الكريمة كل أعداد الجريدة، حيث كانت مكتوبة تحت العنوان، وقد تولى رئاسة تحريرها الشيخ “الطيب العقبي” بالعاصمة من العدد الأول إلى غاية العدد 83، لتنتقل إدارة تحريرها من العاصمة إلى قسنطينة بحي “لامبير” في 30 سبتمبر 1937م، لتصدر هناك بانتظام إلى غاية عام 1939م، وقد تم تعيين الشيخ “مبارك الميلـي” مديرا ومحررا لها، أشرف عليها من العدد 83 إلى العدد الأخير في هذه السلسلة العدد 180 الصادر يوم 25 أوت 1939م، لتتوقف بسبب الحرب.
وكانت تُطبع جريدة البصائر في ثمان صفحات بالمطبعة العربية لصاحبها الشيخ أبو اليقظان أحد أعضاء إدارة الجمعية في تلك الفترة، وبقيت جريدة البصائر تؤدي مهامها العلمية والإصلاحية والوطنية على أكمل وجه إلى غاية الإعلان عن بداية الحرب العالمية الثانية، فتوقفت عن الصدور يوم 25 أوت 1939م، طبقا لقرار من الجمعية حتى لا تتعرض لمؤامرات من قبل الاستعمار الفرنسي، وحسب حديث الشيخ البشير الإبراهيمي التعطيل خير من نشر الأباطيل، وكانت جريدة البصائر قد بلغت من الرقي ما لم تبلغه جريدة عربية إذ كانت تطبع حوالي أربعة آلاف نسخة وهو رقم قلما بلغته جريدة أخرى في تلك الظروف، وقد صدر منها في هذه السلسلة الأولى 180 عددا في ظرف أربع سنوات، وكان آخر إصدار بتاريخ 25 أوت 1939م.
القائمون على السلسلة الأولى لجريدة البصائر:
ساهم في إعداد جريدة البصائر عدة شخصيات ذات وزن ثقافي وفكري كبير نذكر أهمهم وأبرزهم: الشيخ العلامة عبد الحميد ابن باديـس والشيخ البشير الإبراهيمي والشيخ الطيب العقبـي والشيخ المبارك الميلــي والشيخ العربــي التبســي وأيضا الشيخ محمد خير الدين.
السلسلة الثانية للبصائر منذ 1947م إلى 1956م
ظهرت جريدة البصائر في سلسلتها الثانية يوم 25 جويلية 1947م، واستمرت في الصدور إلى غاية شهر أفريل 1956 تحت إشراف الشيخ البشير الإبراهيمي، رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، الذي كان المدير المسؤول ورئيس تحرير، وهي السلسلة التي واكبت اندلاع الثورة التحريرية من أول نوفمبر 1954م إلى غاية شهر أفريل 1956م، إذ دام نشاطها ما يقارب تسع سنوات، وتُصدر الجريدة تقريبا 45 عددا في السنة بالعاصمة، فبعد خروج الشيخ محمد البشير الإبراهيمي من السجن وعودته إلى النشاط، في وقت عرفت فيه الجزائر هدوءا نسبيا، ارتأت الجمعية إعادة إصدار المجلات التابعة لها ومن بينها جريدة البصائر، ليصدر العدد الأول لها يوم 25 جويلية 1947م.
وقد تغير الموعد الأسبوعي لصدور جريدة البصائر، حيث كانت تُصدر يوم الجمعة وأصبحت تُصدر يوم الاثنين وهذا ابتداء من العدد العاشر الذي صُدر يوم 13 أكتوبر 1947م، وقد جاء في العدد التاسع أن تغيير يوم صدور الجريدة يعود إلى أسباب بريدية، وقد كانت مصادر تمويل جريدة البصائر تأتي عن طريق البيع والاشتراكات.
ويرى الشيخ محمد البشير الإبراهيمي أن وظيفة البصائر السامية تكمن في تبليغ الدعوة الإصلاحية والارشادية، وأنها ليست للتجارة والربح المادي، وقد عرفت جريدة البصائر في سلسلتها الثانية توزيعا واسعا، حتى أنها أرسلت كهدايا إلى المشرق العربي الإسلامي، لتصير رمزا للعروبة والإسلام في الجزائر، وظلت البصائر منبرا إصلاحيا بعد الحرب العالمية الثانية، وما ميزها عما سبقها من الصحف الإصلاحية شموليتها من حيث المواضيع وكذا تنوعها، إضافة إلى صراحتها وشدة لهجتها واهتمامها بالسياسة الداخلية والخارجية، فطالبت بتحرير أقطار المغرب العربي وتوحيده.
الشيخ أحمد سحنون يكتب عن جريدة البصائر
نشر الشيخ أحمد سحنون قصيدة قال فيها أن تأخر إصدار جريدة البصائر يعود إلى الضغوطات وإلى الحرب العالمية الثانية التي عطلت ذلك ولم يكن عجزا ولا تخليا عن المنهج الإصلاحي، ولذلك رأت جمعية العلماء المسلمين إعادة إصدار هذه الجريدة وخاصة في تلك الفترة أمرا ضروريا للمساهمة في إيقاظ الرأي العام وتبليغ صوتها وأفكارها إلى الشعب والسلطات والهيئات داخل الوطن وخارجه ومن بين أبيات هذه القصيدة:
ظن عجزي في سكوتي وفشا … كل قيل سيء القصد وقال
وعند الناس فريقين فذو … مقة يمحضني الود وقال
سوف يدرون بأني صارم … لم يزده غمده غير صقال
فانشطوا للعمل المجدي فيها … قد نشطت اليوم من أسر عقالي
لم أحد عن سيرتي الأولى وإن… طال صمتي تحت أعباء ثقال
وبالتالي فإن إعادة صدور جريدة البصائر سد فراغا كبيرا وأعطى للشعب حق التعبير عن رأيه وتلقيه الخبر الصادق والكلمة الهادفة، والشيخ البشير الإبراهيمي يرى بأن البصائر لها علاقة مع قراءها كالمربي وتلميذه.
السلسلة الثالثة منذ 1992م إلى 1993م
وكانت هذه السلسلة الثالثة لجريدة البصائر أشرف عليها الشيخ أحمد حماني والشيخ عبد الرحمن شيبان، وكانت هذه السلسلة أقصر الفترات عمرا، بداية صدورها كان شهر أوت 1992م آخر إصدار كان في شهر ماي 1993م، وقد صدرت هذه السلسلة في ظروف الأزمة التي مرت بها الجزائر في أعوام التسعينيات، في وقت عاشت فيه الجزائر ظروفا أمنية وسياسية صعبة، ومن أبرز كتابها الشيخ سليمان بشنون والشيخ علي مغربي ومولود طياب.
السلسلة الرابعة منذ 2000م إلى يومنا هذا
تمتد السلسلة الرابعة منذ عام 2000م إلى يومنا هذا، وقد صدر العدد الأول لجريدة البصائر في سلسلتها الرابعة يوم 20 ماي 2000م، تزامن مع الذكرى الخامسة والثلاثين لرحيل الرئيس الثاني لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين الشيخ محمد البشير الإبراهيمي.
أشرف الشيخ عبد الرحمن شيبان على السلسلة الرابعة منذ شهر ماي 2000م إلى غاية شهر أوت 2011م، ثم تولى إدارتها الدكتور عبد الرزاق قسوم إلى يومنا هذا، وهو الرئيس الحالي لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين، ليساعده في تلك الفترة الأستاذ محمد الهادي الحسني الذي كان نائبا له، كما التحق بهيئتها التحريرية طاقم إعلامي وكوكبة من الأساتذة والباحثين، فكان الأستاذ عبد الحميد عبدوس مدير التحرير بالجريدة، والدكتور محمد موسى بابا عمي سكرتير التحرير، والمدير التقني الأستاذ مصطفى كروش، لينظم كذلك إلى فريق التحرير الدكتور عمار طالبي والدكتور محمد الدراجي، والأستاذ التهامي مجوري كرئيس تحرير، والشيخ كمال بوسنة، والأستاذ محمد العلمي السائحي، والدكتور حسن خليفة، والأستاذ عبد القادر قلاتي سكرتيرا للتحرير إلى يومنا هذا، والدكتور فؤاد مليت مدقق لغوي، والأستاذ حسن أكيلال، والصحفي نوفل عبدوس، والأستاذ عبد الكريم ليشاني، والأستاذ إسماعيل سلمان والأستاذ عبد الواحد بوعنان كمصحح، ليلتحق كذلك بالطاقم الأستاذ ياسين مبروكي كمدير التحرير بالجريدة وفاطمة طاهي كصحفية، إضافة إلى إسهامات الدكاترة والأساتذة والباحثين وغيرهم من الأقلام الموهوبة الذين يساهمون بمقالاتهم الأدبية والعلمية والفكرية.
أعلام أسسوا وجددوا البصائر وكتبوا فيها
كانت جريدة البصائر الجزائرية منبرا لعلماء أجلاء جمعوا بين العلم وصدق العمل والإخلاص لقضايا الشعب والوطن والأمة، وقد احتوت هذه الجريدة أعلاما جزائريين ومشارقة وكذا مغاربيين، نبدأ بالمؤسس الأول العلامة عبد الحميد بن باديس، والشيخ البشير الإبراهيمي والشيخ الطيب العقبي والشيخ مبارك الميلي وأحمد بن الذياب، وأبو يعلى الزواوي وحمزة بكوشة، محمد دراجي، عبد الحفيظ الثعالبي، والمكي الشاذلي، وإسماعيل بن يعلى، محمد العيد الخليفة، أحمد سحنون، محمد الشيوكين، العربي التبسي، العباس بن الحسين وأحمد توفيق المدني وباعزيز بن عمر، أحمد رضا حوحو، الشاعر عبد الكريم عقون والطيب العلوي القاسمي وأبو القاسم سعد الله، سليمان بشنون والشيخ علي مغربي ومولود طياب ومحمد العيد الخليفة، وغيرهم من الشيوخ وأعلام الجزائر وخارجها.
جريدة البصائر ودفاعها عن قضايا الأمة العربية الإسلامية
كما اهتمت جريدة البصائر في الحقبة الاستعمارية بمختلف القضايا الوطنية والعربية والإسلامية، وقد سلكت مناهج متعددة، فضحت جرائم الاستعمار، ونشرت الإصلاح في مفهومه الشامل ودعت من خلال مقالاتها إلى الوحدة العربية، فكانت جريدة البصائر جريدة سياسية دينية وثقافية من منظور إصلاحي، من أولى اهتماماتها القضايا العربية والإسلامية وحتى العالمية، فكانت منبرا للحركة الإصلاحية والثقافية، وسجل للجمعية ناطق بلسان عربي فصيح، فقد ورد في أحد أعداد البصائر “سجل للحركة العلمية والأدبية”.
كما ساهمت جريدة البصائر منذ إصدارها الأول بالتعريف بالقضايا الإصلاحية، فكانت معروفة وكان لها صدى كبير في المشرق الإسلامي، إذ كانت تهتم بشؤون المسلمين وخاصة ما يجري بفلسطين كما قال الشيخ عبد الحميد ابن باديس: “فدافعت عن الملك المغربي “محمد الخامس” ووقفت موقفا منصفا مع “باي تونس” فما من قضية إسلامية إلا ودافعت عنها بكل مالها من قوة وعزم وإرادة واعتبرتها قضية مصيرية”، وبالتالي اليوم لا يمكن لأي كان أن يكتب أو يبحث عن دور الجزائر في مختلف القضايا العربية الإسلامية في العصر الحديث دون الرجوع إلى الشهاب والبصائر، وكانت لهذه الجريدة قيمة أدبية وآثار ثقافية ودور بارز لعبته في الميدان السياسي والثقافي والفكري.
فكانت جريدة البصائر مدرسة للوعي الوطني والتنوير الديني، وكان الجزائريون يعتبرون اقتناءها والاشتراك فيها وتوزيعها عملا وطنيا يساهم في استعادة السيادة الوطنية ومحاربة كل مخططات الاستدمار الفرنسي، فكانت صرحا إعلاميا إصلاحيا دينيا وفكريا.