الشيخ أبو يعلى الزواوي الملقب بـ”شيخ الشباب و شاب الشيوخ”
بقلم: عز الدين رمضاني-
هو أبو يعلى الزواوي ، نسبة إلى الزواوة ،و اشتهر بهذا ، و اسمه الحقيقي سعيد بن محمد الشريف بن العربي بن يحي بن الحاج من آيت سيدي محمد الحاج بزواوة .
مولده و نشأته:
ولد أبو يعلى الزواوي عام 1862 م بقرية تدعى " إغيل إنزكري"، و هذه القرية غير قريته الأصلية ،و إنما انتقل إليها أبوه بعد أن عُين إماما لمسجدها و بها تزوج ، فأمه منهم و كانوا من الشرفاء و من أهل الخير و الكرم.و أما قريه أبيه و جده فتسمى "تفرث نيث الحاج" و تقع على سفح جبل "تامقوت "الشامخ في دائرة عزازقة بـ "تيزي وزو"،و معناها بالعربية ، كما شرحها هو في كتابه " جماعة المسلمين " [ص:34]:" عرين ذوي الحاج" و العرين في اللغة العربية مأوى الأسد .
و هي قرية ذات طبيعة خلابة ، و أشجار كثيفة و مياه عذبة ،و كان يضرب بها المثل في العناية بالقرآن و حفظه، وقد ذكر أبو يعلى نفسه أن نسبة تسعين بالمائة منهم يحفظون القرآن ،منهم الفلاح و الراعي و العامل ، و هذا على خلاف ما كانت عليه بعض القرى المجاورة ، حيث لا يقرأ عندهم إلا المرابطون و الشرفاء،و هذه مشابهة لقضية الإفرنج و النصارى لا يقرأ التوراة و الإنجيل إلا الرهبان و الملوك.
نشأته العلمية :
تتلمذ أبو يعلى الزواوي على يد والده ، فأخذ عنه الفقه و القراءات و النحو ، ثم زاول تعليمه بزاوية عبد الرحمن الأيلولي الكائنة بمنطقة " عزازقة" ، و لم يكن راضيا على طريقة و نوعية التعليم فيها ، مؤيدا في ذلك رأي شيخه محمد بن زكري مفتي الجامع الأعظم، الذي درس بالزاوية نفسها ، و قضى فيها عشر سنوات دون أن يستفيد شيئا حيث دخلها حافظا للقرآن الكريم كما يقول و خرج منها حافظا للقرآن.
و الذي يظهر أن أبا يعلى الزواوي ـ و من خلال بعض مؤلفاته ـ قد بذل جهدا لا يستهان به في تحصيل العلم و بناء ثقافته من خلال مطالعته لكتب كثيرة ذكرها في ثنايا تآليفه ، يشهد لذلك أسلوبه البديع و بيانه الساحر في كتاباته ، لا سيما خطبه التي كانت في معظمها مرتجلة .
و كان إلى جانب ثقافته العربية و شغفه بلغة العرب و آدابها ، و اعتزازه بعلوم الشريعة ـ من فقه و توحيد و حديث و تفسير و تمكنه منها ـ عارفا باللغة الفرنسية تعلمها على يد مدير السجن الذي كان أبو يعلى يعلمه اللغة العربية ، حيث حكم عليه السجن لمدة سبع سنوات بسبب حادثة وقعت له في شبابه .
و بما أن أبا يعلى من منطقة الزواوة، ويتكلم بلسانها ، فقد أرخ للمنطقة بأن ألف كتابا أسماه " تاريخ الزواوة " نشره في دمشق عام 1924 م ، خلص فيه إلى كون البربرية حميرية الأصل ، و له في ذلك استشهادات لغوية و تاريخية ،و هذا مما يثبت أن له انشغالا و اهتماما باللغات و اللهجات ، و قد كتب فعلا مقالات في التعريف بلغة البربر و قواعدها و نحوها و نشرها في المجلة السلفية بمصر بطلب من الشيخ طاهر الجزائري رحمه الله .
و مما زاده تمكنا و تبصرا بأحوال أمته الدينية و السياسية و الاجتماعية ، و سيما بفكره إلى الاشتغال و الاهتمام بقضايا بلده سفره إلى الشام ثم إلى مصر و التقاؤه بالعديد من رجالات الإصلاح و أصحاب الفكر و السياسة .
أقرانه وشيوخه :
ذكر معظمهم هو بنفسه في مؤلفاته المطبوعة، و نذكر منهم جملة عل سبيل المثال خاصة ألئك الذين تأثر بهم :
والده الشيخ محمد الشريف الذي كان إماما و مؤذنا و موثقا و صاحب مدرسة قرآنية .
الشيخ محمد سعيد بن زكري،خطيب مسجد "سيدي رمضان" بالجزائر العاصمة ، و مفتي الجامع الأعظم ، و يعد من أبرز مدرسي العاصمة ، و من الفقهاء المتمكنين من علمهم ، و قد تأثر أبو يعلى به أيما تأثر و كان متبعا لسيرته في العلم.
الشيخ محمد بن بلقاسم البوجليلي المولود سنة 1836 م، و قد نوه به و بعلمه الشيخ البشير الإبراهيمي، و وصفه ابن زكري شيخ أبي يعلى و صديقه :" أنه كان من المصلحين و دعاة القضاء على البدع التي كانت تساعد على نشر الشعوذة و الخرافة "، و قال عنه تلميذه أبو يعلى :" أن الشيخ ابن زكري كشيخه البوجليلي ذكاء و شهرة".
العلامة المحدث الشيخ طاهر الجزائري و قد مكث معه خمس سنوات كاملة في أرض مصر .
و من أقرانه في العلم الدعوة الذين أعجب بهم و كانت له نعهم علاقة مودة،و كثيرا ما يذكرهم بلفظ "الصاحب " أو "الصديق"الشيخ رشيد رضا و الشيخ محمد الخضر الحسين و محمد كرد علي ، و أمير البيان شكيب أرسلان ، و من أهل بلده ، مبارك الميلي و الشيخ الطيب العقبي .
أعماله و وظائفه :
تقلد أبو يعلى مناصب عديدة في حياته بحكم ثقافته المزدوجة إن صح التعبير ، فقد عين كاتبا بالقنصلية الفرنسية بدمشق و عمل بها إلى حوالي 1915 م ، أرسلته فرنسا إلى سوريا طمعا منها في أن يقوم بإقناع الجزائريين المقيمين هناك بالتجنس لتفادي رجوعهم إلى أرض الوطن خوفا من حمل الأفكار التحريرية التي قد ظهرت بالشام، و مقابل ذلك وعدته فرنسا بمنصب الإفتاء إذا رجع إلى الجزائر .
و من خلال إقامته بسوريا اتصل بالعديد من الشخصيات و الكتاب و الأدباء و السياسيين والصحفيين ، و أقام علاقات معهم ،و أسهم بمقالاته في بعض الصحف و المجلات ، ثم انتقل إلى القاهرة بسبب وقوع الحرب العالمية ، وهناك التقى بالشيخ طاهر الجزائري ، وكثف نشاطه بمصر و تعرف بالعديد من إخوانه الطلبة الجزائريين وواصل مشاركته في تحرير المقالات معرفا بالجزائر و تاريخها و واصفا أحوالها المزرية و كانت له فعلا إسهامات تمثلت في نشر مقالات من جريدة "البرهان " التي كان يصدرها الشيخ عبد القادر المغربي ، و في المجلة السلفية بمصر أيضا.
و مما يلفت الانتباه أن الشيخ أبا يعلى انتقد المشارقة و هو فيهم لقلة اهتمامهم بأحوال المغرب العربي.، و عند عودته إلى الجزائر سنة 1924 م بقي بنفس الهمة العالية و الروح الأبية ، يكتب و ينتقد،و يكافح و ينافح بقلمه السيال و فكره الجوال ،فكتب في صحيفة "صدى الصحراء " التي كانت تصدر ببسكرة [جنوب الجزائر]على غرار زملائه كالطيب العقبي و الشاعر محمد العيد و محمد الأمين العمودي ، كما شارك في جريدة " الثمرة الأولى" التي كان يصدرها طلبة الجزائر في تونس .
و من الوظائف التي أسندت إليه و كان لها أهلا تعيينه إماما بمسجد "سيدي رمضان " بالجزائر العاصمة ،حيث تولى الخطابة فيه من سنة [1920م إلى سنة 1952م و هو تاريخ وفاته ]، و كان يعتبر ذلك من منن الله عليه .
و قد كان ـ رحمه الله ـ خطيبا مفوها ، يرتجل الخطب ، و يبلغ مقصده من إبلاغ السامع و الأخذ بمجامع القلوب ، و قد شهد له بذلك كثيرون منهم أحمد توفيق المدني الذي قال عنه :" و أشهد أنه قد كان لتلك الخطب الأثر الفعال في النفوس"، و قبل ذلك قال عنه :"أخرج الخطب المنبرية من صيغتها التقليدية العتيقة إلى صيغة قومية مفيدة ،فهو يخطب للعامة ارتجالا في مواضع إسلامية محلية مفيدة ، و يعتبر خطابه درسا بحيث لا ينتهي منه إلا و قد اعتقد أن كل من بمسجد " سيدي رمضان " من رجال و نسوة قد فهموا جيد الفهم خطابه ".
و قد جدد طريق السلف في الخطابة ، فالتزم أن تكون الخطبة من إنشائه هو لا من إنشاء الآخرين ، و دون ورقة ، أي ارتجالا ، ثم بدا له بعد ذلك أن يدون خطبه لكيلا يقال عنه إنه سرقها من غيره و حفظها.
و من الأعمال العظيمة والوظائف الشريفة التي لم يفوتها أبو يعلى على نفسه رئاسته لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين ، حيث عين رئيسا للجمعية العمومية المكلفة بوضع القانون الأساس للجمعية ،و قد حضرها اثنان و سبعون من علماء القطر الجزائري و طلبة العلم ،اجتمعوا بنادي الترقي بعاصمة الجزائر لتعيين الأعضاء الأساسيين المكونين لجمعية العلماء الجزائريين ،و هذه الرئاسة ، و إن كانت مؤقتة انتهت بانتهاء أشغال التأسيس إلا أنه تعد حدثا له قيمته و وزنه في حياة الشيخ أبو يعلى الزواوي .
إضافة إلى هذه الأعمال كلها ،فإنه كان مجيدا للخط العربي و له فيه رسالة ،و كان ينسخ المصاحف و يحفظها ، و قد ورث ذلك عن أبيه ، جمع في خطه بين الروح الجزائرية و التعربقة الشرقية ، رغم قوله أنه تأثر بالخط الفاسي الموروث عن الأندلس .
و لتفننه و إتقانه للخط ، أعجب به كثيرون، و مدحه بشير الرابحي بقصيدة على خطه في المصحف الشريف.
مؤلفاته و آثاره العلمية:
ترك أبو يعلى الزواوي آثارا علمية نافعة ضمنها خلاصة ما يؤمن به من أفكار ، وما كان يطمح إليه من مشاريع جادة تخدم بالدرجة الأولى دينه و لغته العربية ، و رغم أن جل هذه المؤلفات جاءت في شكل كتيبات أو رسائل مختصرة إلا أنها حوت في مضامينها ذلك البعد العميق في تفهم قضايا أمته عامة و التثبيت الوثيق بمكونات شخصية الأمة الجزائرية خاصة ،ساعده في ذلك روعة أسلوبه و انتظام أفكاره و كثرة استدلالاته بالنصوص الشرعية في كتاباته الدينية و استعماله ـ و هذا لفرط ذكائه و نباهته ـ لألفاظ و مصطلحات يمرر من طريقها أفكاره و يبرز فيها طموحه ، و يختصر بها أقواله و يعالج من خلالها الأدواء و الأمراض التي شخصها بنفسه ، و خير مثال لذلك تسميته لكتابين ألفهما و أبدع فيهما ،أطلق على أحدهما "الإسلام الصحيح" تميزا له عن الإسلام الذي سماه العلامة الإبراهيمي بالإسلام الوراثي ، و أطلق على الآخر" جماعة المسلمين"تحرضا منه على لم شعث الأمة و استقلالها بنفسها دون تدخل أو وصاية من المستعمر .
و هذه نبذة مختصرة عن بعض مؤلفاته :
أولاـ" كتاب الإسلام الصحيح ":و طبعه في مطبعة المنار بمصر سنة 1345هـ بعد رجوعه إلى الجزائر ، و جعله في شكل سؤال و جواب .
ثانيا ـ " جماعة المسلمين ":و هو عبارة عن رسالة مطولة في شأن جماعة المسلمين و معناها في الفقه المالكي و في أصلها في الأحاديث الصحيحة(1) .
و قد قرض كتابه هذا الشيخ الطيب العقبي ـ رحمه الله ـ و ذكر في تقريضه اثنا عشر بيتا ،نقلها أبو يعلى إلى كتابه " جماعة المسلمين "[ص:47] و مطلع هذه الأبيات :
أبو يعلى إمام الحق فينا ~~~و شيخ في شباب المصلحينا
ثالثا ـ تاريخ الزواوة :و حدد خطوطه العريضة سنة 1912م و كتبه سنة 1918م و هو في القاهرة و نشره في دمشق سنة 1924م(2). و طبع الآن بمراجعة و تعليق سهيل الخالدي من منشورات وزارة الثقافة .
و ذكر أبو يعلى أن له كتابا بعنوان :" أصل البربر بزواوة "، بين فيه أن أصل البربر من حمير ، و أنهم عرب قحطانيون أو عرباء، و هل هو نفس الكتاب الأول أم هو كتاب آخر ؟(3)
رابعا ـ الخطب :جمع فيه خطبه، و كان ذلك سنة “1343هـ الموافق ل1924م [ طبع باستيد جوردان ـ كاربونيل1343هـ ] يحتوي على 78 صفحة .
خامسا ـ فصول في الإصلاح(4) :ذكره ضمن كتابه " الخطب " و " تاريخ الزواوة ".
سادسا ـ " الخلافة قرشية " :و الكتاب لم يطبع إلى الآن(5).
سابعا ـ " أسلوب الحكيم في التعليم ":ذكره أبو يعلى في بعض كتبه و الظاهر أنه غير مطبوع(6).
ثامنا ـ " الفرق بين المشارقة و المغاربة في اللغة العربية و غيرها " :و قد ذكره بنفسه في مؤلفاته(7)
تاسعا ـ " ذبائح أهل الكتاب " :ذكره ظمن كتابه "الخطب " و غالب الظن أنه لم يطبع(8)
عاشرا ـ " مرآة المرأة المسلمة " :و قد ذكر مؤلفه أنه يقع في حدود 200 صفحة ضمته آراءه في المرأة ، مبطلا عادات بني قومه في عدم توريثها ، ومنع نظر الخاطب إليها ، ومناديا بضرورة تربيتها ة تعليمها(9).
حادي عشر ـ " الكلام في علم الكلام ":و قد أشار إليه في "مجموع مؤلفاته " و يجهل هل طبع أم لا (10).
هذا و قد ألف أبو يعلى الزواوي كتبا صغيرة الحجم في قضايا مهمة لها صلتها الوثيقة بالأمة و المجتمع في تلك الحقبة مصححا للمفاهيم و مدافعا عن معالم الشخصية الإسلامية ، و مساندا للإصلاح و داعيا تطهير المعتقدات و السلوكات من الشوائب و البدع و الخرافات(11).
عقيدته و منهجه:
المتتبع لمقالات الشيخ أبي يعلى الزواوي يجد اهتماما بالغا بالموضوعات التي كانت ترتبط بحياة الأمة بتلك الحقبة ، و بالأوضاع المزرية التي آل إليها حال الأمة الجزائرية خاصة ، من انتشار البدع و الخرافات و و فساد الاعتقادات و سوء الأخلاق و تحكم الجهال و إقامة أعراس الشيطان التي كانت تشد إليها الرحال من كل مكان ، و يقع فيها من المنكرات و الفضائح و الرذائل ما يستحي العاقل من ذكره .
فكان لزاما أن يقوم المصلحون و الغيورين على الدين و القيم بإصلاح ما فسد،و تقويم ما اعوج ،و إحياء ما مات من مقومات الدين و عقائده و شرائعه ،فانتدب لهذه المهمة الشاقةـ و كان لها أهلا ـ أبناء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ، ومنهم الشيخ أبو يعلى الزواوي ـ رحمه الله تعالى ـ الذي كغيره من علماء الجمعيةـ بنى دعوته في الإصلاح و التغيير على الكتاب و السنة و الدعوة إلى منهج السلف الصالح و عقيدة أهل السنة و الجماعة، و حذر من مغبة الطرائق و المناهج المنحرفة و المخالفة لما كان عليه أهل الصدر الأول.
قال ـ رحمه الله ـ مشيدا بطريقة السلف في العقيدة و التوحيد: " إن خير طريقة في العقيدة التوحيدية طريقة السلف التي هي اتباع ما ثبت عن الله و عن رسوله من غير كثرة التأويل و الدخول في الأخذ و الرد من الجدل في المتشابه و إيراد الشبه و الرد عليها " [ "الاسلام الصحيح"(ص:14)]
و قال معتزا و مفصحا عن عقيدته و متبرئا من كل ما خالفها :" أما أنا و من على شاكلتي من إخوني الكثيرين فلا شريعة لنا و لا دين و لا ديوان إلا الكتاب و السنة و ما عليه محمد و أصحابه و عقيدة السلف الصالح أي فلا اعتزال و لا ماتريدي و لا أشعري و ذلك أن الأشاعرة تفرقوا و اختلفوا أي المتقدمون منهم و المتأخرون ، و وقعوا في ارتباك من التأويل و الحيرة في مسائل يطول شرحها لم تصف بعد فعلام؟و قل آمنت بالله و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر ،كما قال تعالى:" قل الله ثم دعهم في خوضهم يلعبون "[91 العام] (الإسلام الصحيح ، ص94).
و أرجع سبب ترفق الأمة و تمزقها إلى تبني التعاليم و المذاهب المخالفة لمنهج الإسلام الصحيح و التغافل و التعامي عن منهج الفرقة الناجية التي هي أسعد الفرق بالاتباع و الإقتداء بسنة سيد الأنام صلى الله عليه و سلم ،فقال:" إن كثرة التفريق و الإختلاف في التعاليم الدينية مزق الأمة كل ممزق ،، وهذا مما أدركه كل مسلم جاهلا كان أو عالما ، فلزم إذن عدم التفريق و ذلك إنما يكون بتوحيد التعاليم قدما و حديثا و هذا أمر صعب و لكن على غير العاملين بحديث النجاة و هو قوله صلى الله عليه و سلم :" إلا واحدة و هي ما أنا عليه و أصحابي " فعلام نغفل هذا أو نتعامى و نعمل بمائة مذهب و بألف ملة و طريقة "[ الإسلام الصحيح،ص:117].
و الحقيقة أن الناظر في كتابات الشيخ أبي يعلى الزواوي لا يكاد يقرأ فقرة من فقرات مقاله إلا و ظهر له مدى اعتنائه بعقيدة السلف الصالح و رجوعه إليها وحسن دفاعه عنها و محاربته ما خالفها من العقائد المنحرفة و الباطلة ببيان عورها و تجلية حقائقها ليحذرها الناس كما يتجلى ذلك واضحا في كتابيه المشار إليهما في مطلع الحديث عن مؤلفاته .
نماذج من غرر أقواله و كتاباته :
و هي كثيرة مبثوثة في ثنايا تآليفه ممتعة في مضامينها و شيقة في أسلوبها ، حاكى فيها البلغاء و ألبسته حلية الفقهاء و هو فيها بين سابق مجتهد و بين متبع و مؤيد ، لكن دون تقليد أو محاكاة، إذ النهب و السلب ليس من شيمه و لذلك دون خطبه ، وهذا من قيمه و غليك بعض النماذج من أقواله على سبيل المثال:
أولا : افتتاحه كتاب "جماعة المسلمين " بخطبة الحاجة مشيدا بالاتباع و محذرا من الإبتداع فبعد نقله للخطبة :" إن الحمد لله نحمده و نستغفره و نتوب إليه ..."، قال:" لم يثبت أن رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم خطب بغير الحمد مستفتحا ، و لا كتاب بغير البسملة مبتدأ و لا قرأ بغير التعوذ تاليا ، فلنتمسك بهذا ، فعلام العدول عنه إلى جملة "الحمد لله وحده" الشهيرة في المغرب فنعما هي ، و لكنها من طرة دولة الموحدين و شعارهم و هي دولة كما علمنا أنها ذات زيغ و دانت بعصمة الإمام نزغة رافضية ، و المهدوية الكاذبة ، ومن جهل هذا فليراجع كتاب الاعتصام "(12) .
ثانيا : جوابه على من سأله :" كيف وقعت المغالطات و المنكرات المبتدعة في الدين الإسلامي ؟"،و بعد أن أرجع الأسباب إلى عاملين ، الأول : الجهل ، و الثاني ،دسائس أعداء الإسلام، ثم ذكر فضائح الرافضة و مكايد الباطنية ، و كشف عوارهم ،فقال:(13)
" فتأمل أيها السائل كيف وقعت هذه المنكرات التي أدهشتك ، و كيف سرت و تسربت إلى الأنام و امتزجت بالأجسام و هي أضغاث أحلام و ما نحن بتأويل الأحلام بعالمين !و احذرهم أن يفتنوك عن الإسلام الصحيح و أصوله المعتبرة ، و إياك أن تلتزم مالا يلزم، أو، أن تسأل عن أشياء إن تبد لك تسؤك ، واعتبر قول أنس بن مالك المتقدم نهينا أن نسأل رسول الله صلى الله عليه و سلم و ذلك معنى قوله تعالى :"يا أيها الذين آمنوا لا تسألوا عن أشياء إن تبد لكم تسؤكم "[المائدة :101].
ثالثا : استنباطه معجزة للنبي عليه الصلاة و السلام:
قال ـ رحمه الله كما في كتابه " الإسلام الصحيح " [ص12]: كنا جلوسا ذات يوم في دار وطنينا الأمير عبد الله نجل الأمير عبد القادر الجزائري بالشام، وكان صديقنا العلامة الكاتب الشيخ محمد الخضر نجل السيد علي بن عمر حاضرا على سبيل الزيارة أيام العيد ، فتجاذبنا أطراف الحديث إلى أن أدى بنا إلى معجزات النبي صلى الله عليه وسلم فاقتنع كل واحد منا بنوع من المعجزات الكثيرة الغرر فقلت لهم :إن من أعظم معجزاته صلى الله عليه و سلم التي بهرتني تصريحه "بأن لا نبي بعده" الثابت في "الصحيحين " و ذلك أنه صلى الله عليه و سلم قد انفرد بهذا القول على إخوانه المرسلين الذين لا يحصون عدا و لم يقل أحد من الأنبياء بهذا ، فلولا أنه محقق أنه نبي و أنه من الله لما قال " لا نبي بعدي "و ذلك لأنه لم يضطره إلى ذلك القول شيء ، و لم يطالبه به أحد و أنه في وسعه أن لا يقول ذلك ، وأنه يسعه ما وسع الأنبياء قبله ، إذ لم يقولوا به ، ولم علم من نفسه أنه ليس بنبي مرسل ، ،ومؤيد من عند الله ، لما قال ذلك و هو الفطن الحذق ، و هذا أيضا عين برهان أن القرآن من عند الله كلامه جل شأنه و لو كان من تأليفه صلى الله عليه و سلم لما أثبت فيه " خاتم النبيين "لأنه أيضا غير مضطر إلى ذلك القول الذي لم يقله إخوانه الأنبياء الذين قبله ، ألا يسعه ما وسعهم ، لكنه لعلمه و تحققه أنه مرسل من عند الله صدع بما علم عن ربه فثبت ذلك ،أي أنه لا نبي بعده ، فاستحسن الحاضرون هذه النظرية و هذا الإستنباط ، و لما رجع صديقنا المذكور الشيخ محمد الخضر إلى تونس في سفرته الأولى غلى الشام كتب رحلته تلك في جريدة " الزهرة " و ذكر هذه الجملة باستحسان و بالله التوفيق لا رب غيره و نبينا لا نبي بعده " اهـ.
رابعا: و سئل ـ رحمه الله ـ عن دليل وجود الله و حال المنكر له ، فقال ضاربا مثالا فقال ضاربا مثلا رائعا واقعيا تهضمه الأفهام و لا تنكره الأسماع : " و أزيدك أيها السائل هنا برهانا أخر على وجوده لتكتفي و هو أن الخط في الكتابة يدل دلالة على الخطاط الكاتب، و مثل العبد الذي يعترف بالخط و الكتابة و ينكر وجود الخطاط الكاتب كمثل النملة التي تجري على قرطاس الكاتب ،فترى الخط و الكتابة و لا يمكن لها أن ترفع رأسها لترى الكاتب فتنكر وجوده لذلك و لكن لا يلتفت إليها ، وكثر هدا الضرب من الناس في هدا الزمن..."(14)
خامسا:في رده لكرامات الأولياء المزعومين المخالفين للشرع و افتتان العامة بها إلى حد جاوز المعقول و طغى على المنقول، مستعملا الأسلوب الساخر الموافق لعقولهم الهزيلة و معتقداتهم الهشة ، قال ـ رحمه الله ـ " واشتهر عندنا بقطر الجزائر المنور أن الشيخ السيد فلان أوقف السكة الحديدية عن المشي مشيرا إليها بان توقف فوقفت وان الشيخ فلان كان يصلي و صدر الأمر إلى سائق السكة الحديدية بالمسير فلم يعمل الميكانيكي و لم تمش السكة الحديدية كرامة للشيخ و هلم جرا من المجازفات الناشئة عن سخافات عقول قومنا ، و يا ترى إذا قال لهم قائل : هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بان نجعل أحدكم أو شيخكم ذلك نفسه على قضبان السكة الحديدية هل يعطلها ؟ وإلا فانتم كاذبون و الله سبحانه و تعالى يقول : " فنجعل لعنة الله على الكاذبين" (61) ،و بعبارة أخرى إذا كان شيوخكم بهده الدرجة من الخوارق و الكرامات بان يعطلوا الميكانيكي فان المدافع و البندقيات الموزيرية و الطيارات و الغواصات و المراكب البحرية كلها ميكانيك فكفوا عن الأمم المستضعفة شر المدافع و الطيارات و الدبابات و المصفحات من السيارات و نحو دلك من الويلات.
وفاته:
وبعد عمر مديد بلغ التسعين عاما سخره في خدمة قضايا أمته خطابة و كتابة ، وداعيا و مصلحا بطريقة فذة و بشكل قلما نجده لأمثاله على حد تعبير الدكتور " أبو القاسم سعد الله " وافته المنية سنة 1952 بمدينة الجزائر ، و دفن في مقبرة الشيخ عبد الرحمن الثعالبي رحمه الله رحمة واسعة و اسكنه فسيح جنانه بمنه و كرمه ،أمين.
الهوامش:
1 جماعة المسلمين :ص : 1.
2 تاريخ الجزائر الثقافي [ الجزء 6/325].
3 تاريخ الجزائر الثقافي [الجزء 7/338].
4 تاريخ الجزائر الثقافي[ الجزء 7/176].
5 تاريخ الجزائر الثقافي[ الجزء 7/177].
6 تاريخ الجزائر الثقافي[ الجزء 7/197].
7 تاريخ الجزائر الثقافي[ الجزء 8/48].
8 تاريخ الجزائر الثقافي[ الجزء 8/80].
9 تاريخ الجزائر الثقافي[ الجزء 6/352 ][الجزء 7/190] و الإسلام الصحيح [ص 26].
10 تاريخ الجزائر الثقافي[ الجزء 7/155].
11 تاريخ الجزائر الثقافي[ الجزء 7/175].
12 جماعة المسلمين ص: 1 .
13 الاسلام الصحيح ص:86 .
14 الاسلم الصحيح ص:4.
المصدر: مجلة الإصلاح العدد الثاني ربيع الأول / ربيع الثاني 1428هـ الموافق لمارس/ أفريل 2007م