الجانب الأدبي في كتابات أبي القاسم سعد الله

بقلم: أ.د شميسة غربي-

رجلٌ خدم الثقافة الجزائرية؛ بِامْتياز…جمع بين التخصُّص في علم التّاريخ، وبيْن المُيول إلى فنّ الأدب، وكان بحقّ؛ كوْكباً أوْدَعْناهُ الثرَى…ولله درُّ القائل؛ في موضع آخر:

ما كنتُ أعلمُ وهو يُودَعُ في الثرى * أنّ الثرى؛ فيه الكواكبُ تودعُ !

عند مناقشة الجانب الأدبي في هذه القراءة، أرى أنه من الأنسب؛ التركيز على محوريْن، أساسيين؛ شكّلا ذلك اللون الأدبي في كتابات أبي القاسم سعد الله، وأسْهمَا معاً في إبراز معالم الاتجاه الفني في الفعل الكتابي الذاتي من جهة، وإرْهاصات التذوق للأعمال الفنية الغيرية من جهةٍ أخرى، على امتداد فترات زمنية متنوعة، شهدها الأدب الجزائري، والتقطها الكاتب في تدبّرٍ ووعيٍ، قد تغْلبُ عليْهما “التّسْجيلية” أوْ “التوثيقية ” الجانحة إلى الِاعتماد على تناول المادة الأدبية من خلال تقسيمها إلى فترات تاريخية، وربط قيمتها الفنية بتلك الفترات؛ حتّى وإن تداخلت الفترات وصعُب الفصل بينها لِسببٍ أو لِآخر…

المحور الأول: جانب الإبداع في كتابات الرجل، ويتعلق الأمر بنتاجه الشعري والذي كان أغلبه موزَّعاً على الجرائد أو مُحتَفظاً به في شكل كراسات لَدَى ذوي الشاعر وأصدقائه، حتّى آنَ أجَلُ جمْعه ونشرِه… وفي ذلك قال المؤلف1: « وليس غريباً أن أقول إن كثيراً من شعري قد ضاع لأسباب عديدة. من ذلك الإهمال وعدم الِاحتفاظ بالنسخ منه. فقد كنت أكتب القصائد وأبعث بها إلى الجرائد في الجزائر، أو تونس، أو القاهرة، أو بيروت (…) ولولا ترْكي لِعَدد من كراسات شعري عند أخي، علي سعد الله، بالقاهرة؛ ومجيئه هو بها سالمة إلى الجزائر؛ بعد الاستقلال، لَفَقَدْتُ شيئاً ثميناً في حياتي. كما احتفظ لي بالقاهرة؛ المرحوم الشيخ أحمد توفيق المدني بنسخة من ديواني الذي كنتُ سمّيْتُهُ “أغاني الجزائر” ثم جاء به إلى الجزائر، وسلمه لي كاملاً سنة 1980. »

المحور الثاني: جانب الدراسات الأدبية؛ والتي خصّصها أبو القاسم سعد الله للأقلام الجزائرية في معظم كتاباته، فجاءت تاريخاً في لبوس أدب…ولم تخلُ من التفاتاتٍ نقدية، يحكمها الذوق، وتطبعها الجِبِلّة المُوحية بِالباع الطويل في القرَاءَة والتأمل، والتّصْنيف للمقروء، مْن وِجْهة نظر مُعيّنة، هي وِجْهة المُؤرِّخ بِالدّرَجةِ الأولى…

المحور الأول: أبو القاسم سعد الله الشاعر

إنّ المتأمل في كتابات أبي القاسم سعد الله، يكتشف –لا محالة – تلك اللمسة الفنية؛ المضافة إلى سجلّ الأدب الجزائري؛ في مسيرته المُشرِقة حيناً، والشاحبة حيناً… في ظلّ منعطفات فكرية، سياسية، إجتماعية، تاريخية، وحتّى إبداعية…

كان أبو القاسم سعد الله شاعراً، فرض نفسه على الساحة الأدبية الجزائرية؛ بِوَقفاتٍ فنّية جميلة، جسّدتْها قصائد الدّيوَانيْن: “النّصْرُ للجزائر” ، “الزّمنُ الأخْضر” والذي صرّح الرّجلُ في مُقدمته قائلاً: «كثير من الناس، طرحوا عليّ السؤال التالي: لماذا توقّفْتَ عن قرض الشعر؟ وأعتقد في البداية؛ أنّ هناك أشياء ليس من السهل؛ الإجابة عليها… فالإنسانُ مثلاً؛ لا يستطيع الإجابة على السؤال : لماذا وُلِد ؟ لماذا يموت ؟(…. ) هلْ سفري إلى أمريكا غيّرَ مجْرَى حياتي ؟ هلْ تخصّصي في التّاريخ كان السبب ؟ (… ) كنتُ أتابع الشعر الجزائري منذ 1947 باحثاً فيه عن نفحات جديدة، وتشكيلات تُواكبُ الذوق الحديث، ولكنّي لم أجدْ سوى صنمٍ يركعُ أمامه كل الشعراء، بِنغمٍ واحد وصلاةٍ واحدة… ومع ذلك؛ فقد بدأتُ أوّل مرّة أنظم الشعر بالطريقة التقليدية، أيْ كنتُ أعبُدُ ذات الصنم، وأُصلّي في نفس المحراب، ولكنّي كنتُ شغوفاً بالموسيقى الداخلية في القصيدة، واستخدام الصورة في البناء… غير أنّ اتّصالي بالإنتاج العربي القادم من المشرق، – ولا سيما لبنان – واطّلاعي على المذاهب الأدبية والمدارس الفكرية، والنظريات النقدية، حملني على تغيير اتّجاهي ومحاولة التخلص من الطريقة التقليدية في الشعر2. » إنه إعتراف؛ يرسمُ طموح التجربة الشعرية لدى الكاتب، بضرورة التنصّلِ من عباءة الهيكل القديم؛ وتطلع الذات المبدعة إلى المسار الجديد في الشعر العربي، سواء كان ذلك على مستوى شعر التفعيلة، أو على مستوى قصيدة النثر، وقدْ أبالغ إذا ذهبتُ إلى أبعد من هذا؛ لِأطرح تساؤلاً – رُبّما تعسُّفياً – فحواه: هل من المستبعد أن تكون بعض قصائد أبي القاسم سعد الله؛ نواة “الهايكو” في الكتابات الجزائرية؟ ألمْ يقلْ في بعض ما قال3:

ألمحُ الأطيافَ من حولي شوادي

للِرّؤى السكرى، لآلاف العباد

للربيع الحلو شوقاً للزهور

للهوى الزخار؛ بالذكرى وأنسام العطور

وفي موضع آخر؛ حين تغنى بالأوراس4:

“أوراس” والدماء والعرق

وصفحة السماء والغســـق

والأفق المحموم راعف حنق

كأنه وجـودي القلــــــــــــق

قد ظمئتْ عيونه إلى الفلـق

وسال من أطرافه دم الشفق

ونجمة من الشمال تحترق

كقلبي الذي يــــــــــــــدُقّ

و”الأطلس” الأنوفُ والبطاح

محمرة الخدود بالجــــــراح

وغابة البلوط كالأشبـــــــاح

تُرْقصها عواصف الريـــاح

ثائرة مهتاجة الكفـــــــــــاح

والنهر والنغوم والسمر

والضفة الخرساء والصخر

منتثرٌ… وزائر القمــــــر

يُطلُّ في حـــــــــــــــــذر

في رحاب الزمن الأخضر: تكوّن الديوانُ؛ مِنْ ثمانين عُنواناً، ما بيْن قصيدةٍ ومقطعٍ وخاطرَة، امتدّتْ على مساحةِ تِسعٍ وسبعين وثلاثُمائة صفحة ( 379 ) دوّنها الشاعر في أماكن متفرّقة… أغلبها نُظِمَ في تونس، القاهرة، الإسكندرية، أمريكا ( مينيا بولس )، بالإضافة إلى نصوص؛ حدّد مكانها؛ إمّا في الجزائر العاصمة، أوْ في قمار، الحراش، الأبيار، العين الباردة.

أمّا من ناحية المواضيع المطروقة بين دَفّتَيْ الدّيوان، فقد تغذّتْ في أغلبها ِمنْ رحيق الوطنية، وفلسفة الحرية، وعبق الوجدانيات، ولوحة الطبيعة، المُنتشية حيناً؛ والغاضبة حيناً آخر… ولعل بعض الإلتقاطات السريعة من الصفحات الغزيرة، تمنحنا سانحة التساؤل: لماذا أُهمل الجانب الأدبي عند الرجل؟ هلِ “التّخصص” يُلْغي الاهتمامَ بالمعْرِفة الأخرى لدى المثقف؟ أمْ أنّ الأوَانَ لم يَحِنْ بعْدُ؛ للكشف عن الذائقة الفنية التي تنْسج الذاتُ المُبْدعة من خلالها معالمَها الفريدة، على مستوى من الشاعرية؛ لا يمكن تجاهله، لأنّ التجاهل إنما هو إجحاف بيِّنٌ ؛ في حقّ المنظومة الشعرية الجزائرية؛ ككُلّ…
رحيق الوطنية: لم يكن أبو القاسم سعد الله بمنأى عن واقع الجزائر؛ إبّان الاحتلال، وما كان قلمه؛ ليغفل عن تصوير موضوعة الثورة في عرينها… إنه يحكي عن الثوار في نسقية شعرية؛ متصاعدة نحو تأجيج الفعل الثوري والتّنديد بِمَن يتوَهّمُ قطع الطريق أمام أبطال الثورة.. يقول5:

والثائرون…
الثائرون على الطغاة يُناضلون

والخائنون يُقهقهون ويسخرون

ويُردّدون:
« الخارجون المجرمون

سيُحاكَمون ويُعْدمون

والشعبُ تقهره الضرائبُ والسجون »

إلى أن يقول6:

والكلُّ يسخر بالقيود وبالسجون

ويُردّدُ اللحنَ الخصيب:

«نحن القساة على الطّغاة

نحن العُتاة عليهم أمد الحياة

سنحطمُ الأصْنام… أصنام الجُناه

ونمجِّدُ الأبطال… أبْطال الكفاح

ونعيش للأوطان آمالاً فِساح

ونرى بأعيُننا الوجود

نشوانَ مبتسمَ الحدود

والموكب الوطني خفاق البنود

يهتزُّ بالأحرار … أشبال الأسود »

تتسع الصورة، وتترسّخ القضية الوطنية بالتشديد على الهوية الجزائرية لهذه الأرض الطيبة، ويعلو صوت الشاعر، مُذكِّراً بما قد يتناساه البعض7:

يا مالكين..

هذا ترابي من قديم

أسقيهِ ذكرايَ الكئيبة

أسقيه ألحانَ البطولة

هذا ترابي من قديم

يا مُترَفين… !

تَفْديهِ كلّ جوارحي ودمي الحميم

يا مُترَفين…

أنا هُنا، أبداً هنا

ذُعراً وإعصاراً ونار

لا شيء يمنع سيلنا

في أرضنا الملآى بطاقات الحصيد

سنعيش أحراراً وصيد

في أرضنا البِكر… الوَلود !

لا يلبث الشاعر أن يلتفت إلى مَن حاول عرْقلة المسيرة الثورية، فيرفع عقيرته مُندّداً8:

برِئتْ أرْحامُ أرْضي

وصحاري وشعْبــــي

منْ زنيمٍ خانَ عِرْضي

يحتمي بالليل كالخفاش.. كاللصّ الوَضيع

وأنا أمْضغُ حِقـْـــــــــــدِي

خائناً يشرب من نهر النّجيع

ويصب القحْط في حقلِ الرّبيع !

وكان لا بدّ – والحالُ هذه – مِنْ إيقاظِ الهِمَم؛ وشحْذ الحَماس لدى الشّعْب المُكافح، المُتطلع إلى الحرية، يقول الشاعر9:

أيها الشعبُ الصاعد نحو الشمس

أيها الشعب الصارخ في وجه الطغيان

أنت الجبار الذي لايغلب

أنت الصخرة العاتية

التي تصفع أمواج الاضطهاد

أنت الخضمُّ الطامي

أيها الشعبُ….!

إفتحْ جوفك الجهنمي

لينطبق على هؤلاء الأقزام…

الذين يذلونك بالسيـــــــاط….

ويُخدّرون أعصابك الحديدية

ويُمنونك بالوعود الزائفة…

ويمتصون دمك الحــــارّ

بِشفاهِهِم الغليــــــظة…

أيُّها الشعب….!

إنّ الشمسَ لم تعُدْ تطلع على العبيد…

بعْد اليَــــــــــــــــــوْم…!

يُعرّج الشاعر على سياسة التعذيب التي مثّلتْها أبْشع السجون… فيرْمز إلى سجن “بربروس” أيقونة الدم المحفورة في الذاكرة الجزائرية… يقول10:

وهيهات يا ألف قُفلِ حديـــــد

ويا ألفَ سوْطٍ شديــــــــد

ويا ألف زنزانة مظلمة

ستنهار جدرانك القاتمة

وأقفالك المحكمــــــــــــة

كأمسِ البعــيـــــــــــــــد

بأسلحة الظافريــــــــن

بِأيْدٍ غلاظ شداد

بأيدي الجموع الغضاب

تماماً كأمس البعيد

فأصبحتَ شيئاً من الذكريات

ستغدو من… الذكريات…!

فلسفة الحرية: في لحظات التأمل، كثيراً ما يغيبُ الشاعر في رحلةٍ من المناجاة؛ لِعوالمَ رمزية، تُشكِّلُ عنده الهاجس، فيُحاول الاستفسار عن كينونته في واقعٍ كالح، رغم أنه يُدرك استحالة الجواب، ويمضي قدُماً في سبر أغوارالذّات؛ حين تصْطدم بِـ “الآخر” ويضيع الحلم في وَمْضة حارِقة، يعبر عنها الشاعر بهذه الكلمات11:

خدَعْتَـــــــــــني…!

وَعدْتني أشياءَ كالخيال…

وَعَدْتني جواهر السلطان…

وكنتَ أنتَ في القفـــــص

وكان صوتك الجريح؛ لا يبِين

وكنتُ عاشقاً مُتيّمَ الخيال

تبْهرُه لآلئُ السُّلطـــــــان…

تهزُّه جِراحي الكثـــــــار…

يغار عني من غريب الدار

ويركب الأخطــــــــــــار…!

خدعْتـَــــــــــــــــنــــــــي… !

وَعدْتَـــــــــــــــني حُرّيتـــــــــــــي

فلمْ أجِدْ سِـــــوَى قفص…!

عبق الوجدانيات: حزّ في نفس الشاعر أبي القاسم سعد الله؛ عُزوف “الهَزار” – محمّد العيد آل خليفة – عن الغناء… فراح يُعاتبُ ويتحسّر بل ويستفسر عن صمت محمد العيد في ظرفِ هو الأحقّ بالصدح… يقول أبو القاسم12:

مغاني الأنس سكرى في مآسيها

وسدرة الخلد ظمآى في مغانيها

شجية الأفق، لا الأوتار هازجة

ولا الهزار… هزار الشعر شاديها

كأنها وظلال الأنس كاسفــــــــــة

عذراً؛ يكاد ضنى الأشواق يذويها

أين الهزار؟ فهل ضنت حناجره

عن الحياة بما يدني أمانيـــــــها

يا حالِمــــــــاً بأماني الخلد يسترها

وفي الوجود؛ أماني هو يبكيهـــــــا

مجلّلاً بوقار الشيب تدفعــــــــــــــــه

روح التصوف رفافــــــا بواديه

إن الشيوخ إذا لم ترو حكمتـــــــها

صدى الشباب فلا جدوى له فيها

عُدْ للطبيعة وابْعثْ حُسنها نغمــــــاً

فإنما الشعرُ ألحانٌ نُغَنّيهـــــــــــــــا

لوحة الطبيعة: كغيره من الشعراء، هام “أبو القاسم” بجمال الطبيعة، واغترف بقلمه من ينابيع الجمال، فجاءت صورُه عاكسة للاِنْتشاء بِسيّدِ الفُصول، “فصل الربيع” وداعبتْه الأماني عند استكانة الروح وصفائها، فعبّر متغنّياً13:

تراءتْ من أشعتك الأماني

فحارت في تفلسفك المعاني

طلعتَ على الطبيعة وهي سكرى

بكأس الهمّ لا كأس الدنـــــــــــــان

فأشرقت الحواضر والبوادي

وأخصبت القرائح والمغاني

وظللت الخمائلُ عاشقيها

إذا ما استسدلوا ظلّ الأمان

وهاجمهم الحنين إلى التناجي

وشاقهم الفراق إلى التداني

فرجّعَتِ الجداولُ ما شجاني

… من الأغاني….

المحور الثاني: أبو القاسم سعد الله، الدارس الأدبي

لعلّ خير ما يُمثل الدراسات الأدبية التي تناولها أبو القاسم سعد الله، كتابه، “دراسات في الأدب الجزائري الحديث” والذي طُبع أكثر من طبعة، وصل إلى يدي منها؛ طبعتان: الثانية والسَّابِعة. الطبعة الثانية، هي التي قرأتها، صدرت عن دار الآداب، سنة 1977، في حدود 133 صفحة، وفيما يلي بَسْطٌ لِأوْتادِها الرّئيسة

حاول أبو القاسم في هذه الدراسة؛ ربْط الأدب الجزائري بالأحداث التي عاشها المجتمع الجزائري، فنجدُهُ مثلاً يُقسِّم الشعر الجزائري الحديث إلى خمسة أقسام، إختار لكل قسمٍ منها تسمية خاصة حسب الفترات التاريخية التي عايشها الشعراء الجزائريون… وأبدعوا من خلالها، مُتّكئين على الواقع، ينهلون منه بوعي كبير، وبحماسٍ منقطع النظير، محاولين الجهر بالداء، في انتظار لحظة الدواء….!
القسم الأول، حدده المؤلف من أواخر القرن الماضي إلى غاية 1925، وسمّاهُ: شعر “المنابر”، لِما امتاز به من الوعظيات والإرشاد، لخدمة أهدافٍ إصْلاحية لا تقدر عليها إلا الكلمات المنبرية الدّاعية إلى يقظة النفوس وإلى حتْمية المُجابهة في ظرْف تستعصي فيه المواجهة…. وأورد في هذا المعنى نماذج شعرية عديدة، على رأسها أشعار “محمّد اللقاني” الذي صاح صيحته الحارقة:

بني الجزائر! هذا الموتُ يكفينـا لقدْ أُغِلّتْ بحبل الجهلِ أيدينا

بنـي الجزائــر! استيقظــوا فلَكَمْ أذاقنا اللهو والإهمالُ تهْوينا!

يا دهـرُ! رِفْقاً بأغنــامٍ مقطعـــة عثى بمربعنا سيدٌ لِيبْلينـــــــــا

كذلك من بين شعراء هذا القسم الأول؛ الشاعر “الجنيد أحمد المكي” الذي نقلته فرنسا إلى السودان لإدارة مدرسة هناك، فاصطدم بالأفارقة لِبياض بشرته، وعندما ضاقت به السّبُل، استأنس بالحيوان: الغزال “سُهيل” ومما نظم فيه:

إن مِلتُ للعرب قالـــوا أ للعربـي وصال؟

أو ملـــتُ للسود قالـوا ذا… أبيض مختال!

يا ليت شعري! لمـــاذا هذا القِلى والمقال؟

لمــــا رأيــــتُ نفـــوراً والخبّ داء عضالُ

خطبتُ للوحــــــش ودّاً فجــاء منــه غزالُ

القسم الثاني، حصره المؤلف ما بين 1925 و1936، وسماه شعر “الأجراس”؛ وصَفَه الكاتب “بالنغمة الجديدة ” بسبب التحولات السياسية الجذرية، وميلاد جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، وظهور جريدة “البصائر”، وتقدُّم مجلة “الشباب “في خطوات سريعة نحو الحِراك الوطني المتّقد في صُفوف الشعب… ومن نماذج شعر الأجراس، محمد العيد آل خليفة، الذي رفع عقيرته:

أيــــها الشعبُ فيم توســـع قهراً ليت شعري، لأيّ أمر تقـــاد؟

ليت شعري، متى تُمدُّ لك الأيدي وتُـغْرى بحبـــــك الأكبـــــــادُ؟

بالإضافة إلى محمد العيد آل خليفة؛ مُمثّل شعر الأجراس، يستدعي أبوالقاسم سعد الله، أسماء أخرى مثلت هذا الإتجاه، فيذكر الأمين العمودي، جلول بدوي، مفدي زكريا، مستشهدا بأشعارهم السائرة في ذات السياق…

القسم الثالث، ما إصطلح عليه، بشعر “البناء”، وهو المؤطّر زمنياً من 1936 إلى 1945، حيث أخذ الشعر على عاتقه، الدعوة إلى الوحدة الوطنية، والتحرر من الماضي البغيض، والتعريض بالخونة… ويتربع على هذه المرحلة؛ كلّ من محمد العيد آل خليفة، وأحمد سحنون، ومفدي زكريا… ووجود هذه الأسماء مرة أخرى في هذا القسم – البناء – إنما دليل على صعوبة فصل الفترات التي اقترحها المؤلف عند دراسته لتاريخ الشعر الجزائري الحديث…

القسم الرابع، أطّره الكاتب زمنياً من 1945 إلى 1954. وأطلق عليه إسم: شعر “الهدف” وكانت مجازر 8 ماي، بمثابة المنعرج الخطير في حياة الشعب الجزائري، حيث سترتفع الأصوات المنادية بالحرية ،وبِالاِنسلاخ من التبعية الهمجية لسفّاكي الدّماء… وسيعلو صوت الشعراء علو العَلم الرّفراف، وتظهرُ أسْماءٌ أخرى؛ مثل الربيع بوشامة، عبد الكريم العقون، أحمد الغوالمي، موسى الأحمدي، حسن حموتن، الأخضر السائحي، مع الِاحتفاظ بالقيادة الشعرية لمحمد العيد وأحمد سحنون ومفدي زكريا؛ في هذه المرحلة أيضاً.

القسم الخامس، حدده المؤلف بإطار زمني واحد، هو 1954، وسماهُ شعر ” الثورة “..
يمثل هذه الفترة – حسب الكاتب – أحمد الباتني، محمد صالح باويه، صالح خرفي، أبو القاسم خمار، عبد السلام حبيب، عبد الرحمن الزناقي… وقد استشهد الكاتب بأشعارهم في مقتطفات متفاوتة، أختار منها، شعر محمد صالح باويه:

قهْقهَ القيْد برجلي يا رفاقـي، حدِّقـوا؛ فالثأر يجترُّ ضلوعـــي

يا جنــون الثورة الحمراء؛ يجتاح كيانــي، ومغـارات ربوعــي

أقسمتْ أُمّي بقيدي، بجروحي، سوف لا تمسح من عيني دمـي

أقسمت أن تمسح الرّشاش والمدفع والجرح بمنديل دموعــــــي

أقسمتْ أنْ تغسل الجُرْحَ، وتغدو شعلة تضرم أحقاد الجمـــوع

بعد هذا التقسيم للشعر الجزائري الحديث حسب الفترات التاريخية، يُعرّجُ المؤلف على تغطية موضوعات الشعر الجزائري، مع ذكر الخصائص، مستلهما ذلك مِن عرْضه لمجموعة من النماذج، التي إرتأى فيها؛ مثالاً حيّاً، يؤكّدُ ما ذهب إليه، فيرى أن أغلب موضوعات الشعر الجزائري مالت إلى الطابع الإصلاحي والوطني بالدرجة الأولى، كما أكد على مسألة “المناسباتية” التي خضع لها هذا الشعر… وعدّد أغراضاً أخرى؛ إلى جانب مواضيع الإصلاح، مارسها شعراء الجزائر بكثرة؛ شأنهم في ذلك، شأن شعراء المشرق، مثل الرثاء، المدح، الوصف، التهاني، العتاب، الحكم، مع الإشارة إلى قلة شعر الغزل، لأسبابٍ؛ ربَطها المؤلف بوضعية البلد من جهة، و بالتقاليد والعادات من جهة ثانية، مبيناً أنّ الِامْتِعاض من شعر الغزل؛ جاء على لسان الشاعر “محمد اللقاني”؛ الذي قال في هذا الشأن:

ألا فدَعِ التّغزُّلَ في غوانٍ

فتلك طريقة المُسْتهترينا

فمن صوت البلاد لنا نداءٌ

يكاد المرْءُ يسمعُهُ أنينا

أما من ناحية الخصائص العامة، فيُجملها الدارس؛ في جزالة اللفظ، والمحافظة على القوالب العتيقة، والإكثار من العبارات الدّينية والتارِيخية، على أساس استعمال الشعراء للتضمين والاقتباس؛ في جلّ أشعارهم… كما قارب المؤلف مسألة التأثر لدى شعراء الجزائر؛ آنذاك؛ ببعض المذاهب الأدبية الجديدة، مؤكدا حرص بعضهم على الِاعْتدال والحَذر أثناء التّعامل مع هذه المذاهب… كما أشار إلى تأثر الشعر الجزائري الحديث بمدرسة شوقي وحافظ والرصافي، هذه المدرسة التي فضّلَ العقاد؛ تسميتها بـ: “المدرسة الوُسْطى” مع فارق واحد يتمثل في أن هذه المدرسة الشرقية، انتقلت إلى الجزائر؛ وارتدتْ ثوباً محلياً، وصُبغت بألوان جزائرية، على يد كلٍّ من محمد العيد آل خليفة، أحمد سحنون، مفدي زكريا، محمد اللقاني، سعيد الزاهري، الهادي السنوسي وغيرهم….
كما يدرس الكاتب، اهتمام الشعراء الجزائريين؛ بالقضايا العربية آنذاك… فيستشهد بأشعارهم حول القضية الفلسطينية، وعودة قناة السويس إلى أصحابها، ومشاركتهم في التعبير عن الأحداث الواقعة في المشرق؛ مثل تأبين الشعراء الجزائيين؛ لجمال الدين الأفغاني ومحمد عبده وشكيب أرسلان، وشوقي وحافظ والرصافي… واحتفاليتهم – ولو عن بُعد – بتتويج أحمد شوقي أميراً للشعراء، رغم عراقيل الاستعمار…

أما فيما يخص الكتابات النثرية في الأدب الجزائري الحديث، فقد اهتم المؤلف بعرض مضامين بعض القصص والمسرحيات، خاصة ما تعلق بأحمد رضا حوحو، أحمد بن ذياب، حمزة بوكوشة، مولود الطياب، وناقش ما أسْماهُ: “محاولاتنا في النقد الأدبي” ، فتحدث عن أبي القاسم الحفناوي، ومحمد بن أبي شنب، ومحمود كحول، ودور عبد الحميد بن باديس في التكوين العقلي للطلبة، و دور محمد البشير الإبراهيمي الذي يُعتبر رائد مدرسة الصنعة الأدبية في الجزائر، حيثُ أعطاه المؤلف صبغة التكوين الفني للطلبة – إن صح القول – لما كان ينشره من نماذج أدبية راقية، تثير الإعجاب، وتدعو إلى الاحتذاء…

كانت هذه قراءة حرة لِمُساهمةِ أحد نُبغاء الجزائر في الصّدْح بما استطاع… ويكفيه فخراً أنه كتب ودرَس وخلّف من المتون ما لايستغني عنه أي باحث في التراث الثقافي الجزائري، وفي التاريخ الجزائري بالنظر إلى التخصص في هذا المجال، إنه قامة علمية فكرية أدبية، لها وزنها في الكتابات العربية الرصينة، وقديما قالوا: َمنْ حفظ المُتون، حاز الفنون….وخير ما أختم به؛ هذه الرائعة من ديوان الزمن الأخضر، والتي يُغرّدُ فيها14:

مِنَ اللّهبِ الأزْرَق

ومنْ حُمْرة الشّفق
ولوْن الدّم المُهْرق
سيصْحو الرّبيع
وتزْهو الوُرود العَذارى
على كل درْب
وفي كلِّ قلب
تماثيل فخر
وتيجان حب
إلى الشّهداء….!
ومن أغنيات الرصاص
ودقات قلب الجريح
وآمال فرحتنا الدافقة
سيصحو الربيع
وتشدو الطيور
أغاريدها الساحرة
إلى الصامدين
فتهتز للنغمة الآسرة
قلوب تذوب
حنيناً وشوقاً
إلى فجرها الصاعد
إلى مجدها الواعد..
وقوله15:
اللهُ لِلْجميع….
والخبزُ والهواء
والحبُّ والسلام
لنا، لكم، للآخرين…
عيونُنا عيونُكم
فافتحوا صدوركم
لنا…للآخرين…!

أبو القاسم في سطور: مؤرخ وأديب جزائري، اشتهر بعمق التفكير، ولد سنة 1930 ببلدة قمار، ولاية الوادي، جنوب شرق الجزائر. تابع دراسته بواد سوف، حفظ القرآن الكريم، إنتقل إلى جامع الزيتونة سنة 1947، وحصل على شهادة الأهلية سنة 1954. في أكتوبر 1955 إنتقل إلى القاهرة؛ بمساعدة من جمعية العلماء المسلمين الجزائريين، تحت شعار السفر إلى الحجّ، والتحق بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، وحصل على شهادة الليسانس في العربية والعلوم الإسلامية، ثم حصل على الماجستير في علم التاريخ والعلوم السياسية من الكلية نفسها سنة 1962. بعدها إنتقل إلى أمريكا والتحق بالجامعة وحصل علة شهادة الدكتوراه في التاريخ الحديث والمعاصر، باللغة الإنجليزية سنة 1965. عاد إلى الجزائر سنة 1967، والتحق بكلية الآداب والعلوم الإنسانية، وفيها أنشأ قسماً للدراسات التاريخية، وهو أول قسمٍ في هذا التخصص، يُنْشأُ بالجزائر منذ تأسيس الجامعة سنة 1909. درّسَ في جامعة “آل البيت” بالأردن، حتى نهاية سنة 2002. إنتاجه غزير بلغ زهاء أربعين كتاباً، ففي الأدبيات له : شاعر الجزائر محمد العيد آل خليفة، القاضي الأديب الشاذلي القسنطيني، دراسات في الأدب الجزائري الحديث، رائد التجديد الإسلامي إبن العنابي، تاريخ الجزائر الثقافي، أشعار جزائرية ( جمع وترتيب )، ديوان الزمن الأخضر، ديوان النصر للجزائر. في التاريخيات، كان إنتاجه وافراً موَزّعا بين مئات المقالات والعديد من الكتب، أكتفي بذكر واحد في أربعة أجزاء: “أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر”. ويكفيه فخراً أنه نُعِتَ بــ: “شيخ المؤرخين “. توفي الكاتب في شهر ديسمبر سنة 2013 عن عمر يناهز 83 سنة.


الإحالات:

1- الديوان، صص، 11، 12.
2- مقدمة ديوان، الزمن الأخضر، أبو القاسم سعد الله، صص،12،14.
3- الديوان، ص 141.
4- الديوان، صص 195، 196.
5- الديوان، ص 124.
6- الديوان، صص 124، 125.
7- الديوان، صص 147، 148.
8- الديوان، ص299.
9- الديوان، ص 191
10- الديوان، ص224.
11- الديوان، ص 369.
12- الديوان، صصص 69، 70، 71.
13- الديوان، ص 39.
14- الديوان، صص، 279، 280.
15- الديوان، ص 349.
16- يُنظر، معجم أعلام الجزائر، في القرنين التاسع عشر والعشرين، الجزء الثاني، منشورات مخبر الدراسات التاريخية والفلسفية، جامعة منتوري، قسنطينة، أيار/ ماي 2004.

لا تعليقات

اترك تعليق

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.