أين هي رسائل الدكتور أبي القاسم سعد الله؟
بقلم: أ.د. مولود عويمر-
تواصل الدكتور أبو القاسم سعد الله (1930-2013) خلال عمره الطويل مع مئات من الشخصيات العلمية العربية والإسلامية والأمريكية وأفراد العائلة. ولا شك أنه تلقى منهم ردودا كثيرة عن طريق البريد أو الوسائط الالكترونية في السنوات الأخيرة من حياته.
وقد عاش الدكتور سعد الله في العصر الذهبي لأدب الرسالة، فكان العلماء والكتاب والشعراء يتكاتبون كثيرا فيما بينهم حتى بلغت عدد الرسائل بين بعض الكتاب أكثر من 200 رسالة كما هو الحال بين الأمير شكيب أرسلان والشيخ محمد رشيد رضا، وصدرت المراسلات بين كارل ماركس وفريدريك أنجلز في 13 مجلدا.
لا شك أن الدكتور سعد الله جمع ثروة كبيرة من الرسائل التي تتضمن معلومات كثيرة عن مواقفه حول قضايا عصره وآرائه حول رجاله، ومنجما من المعلومات عن تاريخ الجزائر والوطن العربي والإسلامي وحاضر العالم الانساني.
كما أن الدكتور سعد الله كان مولعا بالرسائل المتبادلة بين أعيان وعلماء الجزائر فيما بينهم أو مع غيرهم من الأعلام الأجانب، وبحث عنها في كل المكتبات الخاصة والوطنية والعالمية، واستنسخ منها صورا كثيرة ونشر عددا لا يحصى منها في المجلات وجمعها بعد ذلك في كتبه مثل "أبحاث وآراء في تاريخ الجزائر، و"تاريخ الجزائر الثقافي"، و"حاطب أوراق"...الخ.
وعلى الرغم من هذا الكم الهائل من الرسائل فإنه لم تصلنا منها إلا القليل التي نشرها بعض طلبته وأصدقائه بعد وفاته أمثال الدكتور ناصر الدين سعيدوني، والدكتور إبراهيم لونيسي، والدكتور محمد الأمين بلغيت والأستاذ لحسن بن علجية وكاتب هذه السطور وغيرهم.
كما وعد باحثون آخرون بنشر ما عندهم من الرسائل، فقد كتبت الباحثة الليبية المستقرة بالولايات المتحدة الأمريكية الدكتورة فوزية بريون في هذا السياق: " إن لي معه مراسلات وفي أدراجي ببلاد الاغتراب عددا من الخطابات بخطه المنمنم، تضم أفكاره واقتراحاته، وومضات من وجدانه المرهف في ظروف مختلفة من تاريخ الأمة، لعلني أتفرغ لها يوما لأضيف لتاريخ هذا الرجل العظيم".
أما الرسائل التي وصلته من عند غيره فقد نشر الدكتور سعد الله بعضها أذكر هنا رسائل الشيخ المهدي البوعبدلي التي بلغت 19 رسالة، ورسالتين من الشيخ العربي التبسي، ورسالتين من الأستاذ أحمد توفيق المدني.
وكثيرا ما تساءلت مع نفسي لماذا لم ينشر الدكتور سعد الله هذه الرسائل خاصة وأنه حرص كل الحرص على نشر يومياته التي ذكر فيها تفاصيل دقيقة لحياته الشخصية والعامة. ومادام بادر بمشاركة يومياته بأفراحها وأحزانها، بنجاحاتها وإخفاقاتها، فلماذا لم يتقدم خطوات أخرى ويبادر بنشر رسائله كما هو شأن الكثير من العلماء في الغرب أو الشرق الذين نشروا رسائلهم في حياتهم وهم لم يتجرؤوا كما تجرأ الدكتور سعد الله على كشف كل مراحل حياته بتفاصيلها اليومية؟
ولا شك أن الجواب عن هذا السؤال نجد جزءا منه عند الدكتور سعد الله نفسه وهو يتحدث عن مراسلاته مع الشيخ المهدي البوعبدلي التي نشرها ضمن مطبوعات المجلس الإسلامي الأعلى في عام 2007.
يقول في هذا الشأن: " إن نصوص رسائلي ليست بين يدي الآن، إما لأنها غير متوفرة عندي، وأنا لم أكن أحتفظ بنسخ منها". ولحسن الحظ نشرت 3 رسائل منها ضمن الأعمال الكاملة للشيخ البوعبدلي، ونعرف محتوياتها التي لم تخرج عن الاستفسارات العلمية حول بعض المخطوطات والأعلام التي كان يشتغل عليها الدكتور سعد في موسوعته "تاريخ الجزائر الثقافي"، ووجد دائما عند الشيخ البوعبدلي كل العون ومساعدة العلمية، ولم يبخل عليه بالمخطوطات والوثائق النادرة التي كان يملكها، وهذا ما عبر عنه الدكتور سعد الله في رسالته إليه والمؤرخة في 26 فبراير 1987 فقال: "لقد عوّدتنا على الكرم العلمي، والجود بما عندكم من معلومات".
أما الجزء الآخر من الجواب فيتمثل في عدم الاستقرار وضيق المكان، قد تناثرت رسائله في أماكن مختلفة من مكتبته خاصة في الفترة التي عايشها في بيته الصغير في بن عكنون، وأيضا بعد عملية انتقاله إلى بيته الواسع في دالي إبراهيم سنوات قليلة قبل وفاته وترتب عن ذلك تكديس الوثائق والكتب، وهي اليوم في حاجة إلى التنظيم.
فضلا عن ذلك، أشير إلى نقطة مهمة أخرى، وهي أن الإنسان يفكر في السنوات الأخيرة من العمر في كتابة المذكرات وإخراج الوثائق التي لها الصلة بها، غير أن الدكتور سعد الله فضل إتمام موسوعته تاريخ الجزائر الثقافي فتفرغ تماما لها مبتعدا عن كل النشاطات الأخرى. كان يرى هذا المشروع أولى من غيره، بينما نشر الوثائق ومنها الرسائل يستطيع أن يقوم بها غيره من بعده.
وقد وفق الدكتور سعد الله في إنجاز ما تبقى من مشروعه العلمي الضخم ونشر جزء من مذكراته، فالحمد لله. وأملنا كبير أن يواصل القائمون على طبع آثاره مثل ابنه البار الأستاذ أحمد، والأستاذ مراد وزناجي والدكتور محمد العربي معريش والدكتور نجيب بن خيرة والدكتور محمد الأمين بلغيت... على نشر رسائله خاصة وأن كثيرا منها موثقة بالتواريخ والأسماء، وتحريرها بذلك من أكوام الأوراق الحبيسة في مكتبته العامرة ليستفيد منها القُراء والباحثون، فما أكثر الكنوز والدرر الثمينة التي تضمنها كتب المراسلات!
* أ.د. مولود عويمر- أستاذ بجامعة الجزائر 2