مسرحية ..
بقلم: د. عبد العزيز بن سايب-
إن الرعيل الأول لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين عُنِيَ عناية بالغة بوسائل الدعوة، فاستفاد مما هو موجود، وحاول أن يبتكر ما هو مفقود، مما يخدم الفكرة ويحفظ الملة ولا يضر الدعوة .
فأنشأوا المجلات، ونشروا الجرائد، وأسسوا النوادي، وكونوا الفرق الرياضية، وبعثوا الكشافة الإسلامية، بل ساهموا حتى في تأليف المسرحيات، وتكوين فرقٍ لعرضها وتمثيل أفكارها .
وإليكم هذه القصة التي يرويها لي الشيخ الجمعوني رحمه الله تعالى، وهو من بقايا جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في مدينتنا قسنطينة .
وكان مسرح الحادثة المعهد الباديسي .. الواقع في قلب مدينة قسنطينة، في شارع الطريق الجديدة . وهو الذي رُمِّمَ مؤخرا وجُدد تحت مسمى "معهد الشيخ عبد الحميد ابن باديس للقراءات" .
و"معهد الشيخ عبد الحميد ابن باديس" أُنشأ بعد وفاة الشيخ الرئيس عبد الحميد ابن باديس، عام 1947م، على يد وتحت عناية صاحبه العلامة البشير الإبراهيمي، وفاء بالعهد واستمرارا على الدرب . وتداول على إدارته ثلة من متقدمي تلاميذ الشيخ وأعوانه، وكان تحت الإشراف المباشر لرئيس الجمعية ..
"..وقام المعهد في سَنَتَيْه الأوليين على .. الأستاذ الشيخ العربي التبسي فيما يرجع إلى الإدارة والتسيير، وهما الوصفان المقومان لروح المعهد، وما سواهما الجسد..". كما قال الإبراهيمي . رحمهما الله تعالى .
وفي وقتها كانت الحادثة ..
قال لي الشيخ الجمعوني رحمه الله: لما اقترب انتهاء السنة الدراسية قمنا ونحن طلاب بتأليف مسرحية تاريخية مؤثرة من حوادث تاريخنا الأغر .
ثم انتقلنا إلى التدريب على أدائها، وإجراء الحوار بين أفرادها وممثلي شخصياتها ..
وكانت تدريباتنا في ساحة المعهد الباديسي..
وفي صبيحة أحد الأيام وبينما كنا نتدرب على فصول المسرحية التاريخية ونرفع أصواتنا بحوارات أبطالها.. مع تمثيل مشهد بارز مثير مؤثر مؤلم ..
إذ بصوت قويٍّ مُدَوٍّ ينطلق من الطابق العلوي، أرعبنا لصراخه وإرعاده.."..تَوَقَّفُوا.. تَوَقَّفُوا.." .
أو بلهجتنا: "..حَبّسُّوا.. حَبّسُّوا.." .
ولم يكن إلا صوت الشيخ العربي التبسي رحمه الله تعالى، يُطلق صراخه من مكتبه ناهرا إيَّانَا..
وللشيخ العربي التبسي هيبة شديدة في القلوب، وصَولة على النفوس..
خرج من شُرفة الطابق العلوي ولَوَّحَ لنا بيده أن نتوقف مع صوته الجهوري الصادح، وسَعَى مسرعا ..
ونحن نسمع بل نحس بوقع خطواته على خشب الشرفة وتزلزل حطب الدرج.. لهرولته المتينة .
وكان رحمه الله قوي البنية مكتنز البدن..
قال لنا مغضبا متألما: .. ما هذا يا أبنائي.. ما هذا يا أبنائي..
ألم تجدوا من تاريخنا المجيد إلا هذه الحوادث لتجسدوها..
يا أولادي ليس الآن وقت عرضها..
ولا هو الزمان المناسب لتمثيلها..
ـ يا تُرى .. ماذا كان موضوع المسرحية ..
وأي حوادث تاريخنا مثلها أبناء الجمعية ..
وما سبب ثورة الشيخ العربي عليها ..
وما سر إنكاره عليهم..
ـ لم تكن المسرحية إلا تجسيدا لحوادث الفتنة بين الصحابة رضي الله عنهم بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم..
إنها فتنة الجمل وما حدث بين الصحب الكرام..
مسرحية تجسد الصراع الذي حدث حول قَتَلَةِ سيدنا عثمان رضي الله عنه، وما تبعه من حرب حزينة مؤلمة، ونتج عنه من سفك دماء زكية غالية ..
نعم هذا سبب غضب الشيخ التبسي وإسراعه في إيقاف ذلك النشاط..
ـ مياهٌ ركدَتْ أو كَادتْ، ونار خمدتْ أو أوشكتْ..
ما الفائدة المرجوة من عرض مثل تلك الحوادث؟
وما المصلحة في إبرازها؟
وما الخير في بعثها؟
وهل سيحسم الخلاف حولها..؟
وهل تحدياتنا ينفعها تلك المسرحية، وهل تُقَدِّمُ حلولا لحاجاتنا الثقافية والدينية والاجتماعية ..
وهل هناك مشكلة نتوخى علاجها من خلال ذلك العرض..
ـ كان الشيخ يراه من الترف، وهُم في زمن صعب..
فهذا ليس من الفنون بل هو من الجنون..
ما الذي يحملهم على الخوض في تلك المحنة لا سيما وهم في أعمار الزهور..
شباب نشيط متحمس..يُنَاسِبُهُ موضعٌ آخر قطعا، وتَنفعُهُ قصةٌ أخرى بلا ريب ..
ـ إنه دَرْسٌ وتَربيةٌ من الشيخ التبسي لطلابِ العلم عموما، ولأبناء الجمعية خصوصا، وللمشتغلين بالدعوة والإصلاح على وجه أخص .
ـ نعم إنه فقه الأوليويات كان واضحا في أذهان أولئك القادة..
نعم إنه حساسية الموازنات الذي كان حاضرا في مشاعر أولئك السادة..
نعم إنه فقه الواقع الذي تشبعت به عقول وصدور أولئك الرجال ..
إنه الفهم العميق لمقتضيات الزمان والمكان والإنسان .. والترك لما لا يخدمها ..
فما مضى يُترك لما مضى .. (تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلَا تُسْأَلُونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ)..
ـ إنه الفقه العمري الذي جسده قول عمر بن عبد العزيز لما سُئل عن رأيه في تلك الحوادث: تلك فتنة طَهَّرَ اللهُ منها سيوفنا، فلا نُلَوِّثُ بها ألسنتنا .
فليس كل ما يعرف ينشر، وليس كل ما يُعلم يُذاع ..
فنبش ما مضى بما لا فائدة في بعثه ولا ثمرة من وراء نشره ليس من العقل ولا من الحكمة في شيء..
ـ ..قالوا إن ضابطا في الشرطة الأمريكية أتته الشرطة بسُنِّي وشيعي تضاربا حتى أَدمى كل منهما الآخر بمسجد في إحدى مدن الولايات المتحدة الأمريكية، فسأل عن سبب المعركة، فأُخْبِرَ عن شتم أحدهما لعمر والآخر لعلي، رضي الله عنهما، فأمر الضابطُ الأمريكي شرطيا أن يُحضر عمر وعليا، ليستكمل إجراءات التحقيق، فقال له المتخاصمان إنهما غير موجودين، فسألهما أين هما؟ فأخبراه بإنهما ماتا منذ أربعة عشر قرنا..فأمر الضابط بتحويل المتخاصمين إلى مصحة للأمراض النفسية أو العقلية ..
ـ فهنيئا لأبناء وتلاميذ المعهد الباديسي على أمثال الشيخ التبسي الذين يُقَوِّمون لهم الأعمال، ويوضحون لهم الطريق .. فيُعفونهم من التخبط، ويوفرون لهم الوقت الضائع ..
كما قال الشيخ الغزالي رحمه الله تعالى: إنَّكَ تَربحُ نصفَ الطريق إلى الحقِّ يومَ تُوَفَّقُ إلى الهادي المدَرّب اللبيب . اهـ .
ـ وهذا يُرَسِّخُ فكرةَ ويُؤَكِّدُ مَبدأَ أن الدعوات الكبرى والمشاريع المثمرة لا يقوم بأعبائها إلا معادن أولئك الفحول، ومِنْ أَهَمِّ خِصالهم أنهم أصحاب العقول الكبيرة وذوو النظرات الفسيحة .
ربنا ارحم أولئك الرجال الأفذاذ . ومُنَّ على الأمة في هذا الزمن الصعب بقادة لهم من الحكمة والرشاد ما يخرجوننا به من هذا التِّيه، ويحفظون البقية المتبقية عن التشتت والتشرذم، ويعملون على رتق الفتق، وترقيع الخرق، ويجنبوننا الصراعات التي تبلع الجهود في هوة عميقة ما لها من قرار، ويرشدوننا إلى معالي الأمور، ويحثوننا على الطيب الذي يمكث في الأرض . إنك أنت العزيز الحكيم .