دور وتأثير علماء الجمعية لمدينة تبسة في ثورة أول نوفمبر: الشيخ العربي التبسي
بقلم: البدر فارس-
يعد تاريخ جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ناصع البياض بسير عُظمائها وقوادها وعلمائها، الذين تركوا بصبتهم واضحة على ما قدموه إلى الإسلام والمسلمين.
ومن بين الخدمات الجليلة التي قدمتها لدينها ووطنها وشعبها، والذي ما زال تاريخنا الإسلامي العريق المجيد يتحدث عنها في بطون الكُتب بكل فخرٍ واعتزازٍ؛ دورها الرئيسي والفعَّال في انتصار الجزائر واسترداد سيادة ترابها وأراضيها. فقد كان لها الدور والأثر الكبيريْن في مُجريات ووقائع وأحداث ثورة التحرير الجزائرية المُباركة، التي اندلعت شرارتها في الأول من نوفمبر 1954م؛ فبفضل عُظمائها وعُلمائها الذين شاركوا في هذه الثورة المُقدسة استطاعت توجيه وإرشاد الجنود والشباب الذين يَزخر بهم تاريخ المقاومة والثورة التحريرية إلى الطريق المستقيم لِتُنير أمامهم مَعالم دَربِ النضال والجهاد الذي شقّه ملايين الشهداء الأبرار بِدمائهم الزكية، وعَبّدوه بِأجسادهم الطاهرة لِيكون مَعبرًا للجزائر ولشعبها إلى الحُرية والاستقلال.
فأردنا بهذه المقالة المُتواضعة أن نُزيح بعض الغبار عن سيرة وجهاد وكفاح هؤلاء العلماء، الذين شككَ الكثير في جهادهم أثناء هذه الثورة ومواقفهم منها؛ لِتستلهم الأجيال القادمة بطولاتهم وصولاتهم، ولِتكون نبراسًا لنا في طريق المجد والصعود نحو قيادة العالم مرة أخرى كما قاده المجاهدون الأبرار في العصور الزاهرة الزاهية من العصور الذهبية للأُمة الإسلامية أيام الأبطال الميامين، مثل: “خالد بن الوليد”، و”عقبة بن نافع”، و”طارق بن زياد”، و”صلاح الدين الأيوبي”.
ومن هؤلاء العلماء البارزين الذين كان لهم الدور الإيجابي والمُساهمة الفعّالة في تفعيل وانتشار وانتصار ثورة التحرير الجزائرية الكبرى، اخترنا لكم منهم ثلاثة؛ أنجبتهم مدينة “تبسة” في عصرها الحديث. هذه المدينة التي لُقبت في عصرها هذا بِبوابة الشرق، ورئة العروبة، وأريج الحضارات. وهؤلاء العلماء الأبطال هُم: الشيخ الإمام العلَّامة العربي التبسي، والشيخ الإمام العلَّامة الحبيب فارس التبسي، والشيخ العلَّامة إبراهيم مزهودي التبسي.
فلنبدأ بسيرة وجهاد وكفاح الشيخ العربي التبسي.
ولادته ونشأته وتعلمه
وُلد الشيخ الشهيد العلَّامة العربي بن بلقاسم بن مبارك بن فرحات الجدري التبسي، بـ «دوار اسطح» من أحواز بلدية العقلة، دائرة الشريعة -الواقعة في الجنوب الغربي من ولاية ومدينة تبسة شرق القطر الجزائري- سنة 1891م، المُوافق لسنة 1308ه. وأُمه هي السيدة آمنة بنت عبيد ابن فرحات الجدري التبسي، ومن هنا يتبيَّن لنا أنَّ أصل الشيخ العربي التبسي هو من عشيرة الجدور المُنتمية للقبيلة المشهورة: قبيلة النمامشة.
وكان العربي وحيد والديه، فلم ينجباه إلَّا بعد عقد من زواجهما؛ ولما بلغ قُرابة الست سنوات توفي والده بلقاسم، ليصبح العربي يتيمًا منذ فجر طفولته، غير أنَّ والدته آمنة سرعان ما تزوجت من السيد عمار -عم الطفل العربي-، فكان في نفس الوقت العم والأب للطفل العربي، الذي عامله مُعاملة الأب الحنون، ليعوضه عاطفة أبيه.
أما عن تعليمه، فقد حفظ العربي القرآن الكريم، وتلقى مبادئ العلوم والمعارف بمسقط رأسه على يد شيخ القرية، ثم انتقل ليُزاول دراسته في زاوية الشيخ مصطفى بن عزوز النفطي الجريدي الرحماني الواقعة في مدينة نفطة بالجنوب التونسي، وذلك سنة 1910م.
وفي هذه الزاوية، استطاع العربي أن يُبرهن للجميع أنَّه طالب علم من نوعٍ رفيع، فقد حفظ متون العقيدة، وعلم الكلام، والمنطق، والفقه، وعلم الأصول، واللغة العربية، والأدب: شعره وبلاغته. حفظهم جميعًا في مُدةٍ قياسية لم تتعدَّ ثلاث سنوات، لهذا زكَّاه شيوخه في الزاوية للالتحاق بجامع الزيتونة العريق بتونس العاصمة، فالتحق به سنة 1913م، وانضم إلى طلبته، فنال شهادة الأهلية بعد سنتين من الدراسة والتحصيل، ثم نال شهادة التحصيل سنة 1917م، واستمر في طلبه للعلم لِينال بعدها شهادة التطويع التي تركها سنة 1919م بسبب هجرته إلى مصر، ولينالها عام 1927م بعد عودته من مصر.
وأثناء دراسته بالأزهر في القاهرة استطاع العربي الحصول على العالميتيْن: عالمية الأزهر الخاصة بالطلبة الغرباء سنة 1925م، وعلى عالمية الأزهر الكبرى سنة 1927م.
وبهذا يكون الشيخ العربي قد مكث في طلبه للعلم في قريته وفي الزاوية النفطية، وفي جامعي الزيتونة والأزهر أكثر من ثلاثين عامًا، وهي مُدة طويلة جدًا إذا ما قيست بالمدة الزمنية لطلاب العلم في عصره.
وكانت نتيجة هذه المدة القياسية في طلب العلم هي الثروة العلمية الضخمة التي تحصل عليها، قلَّ من تحصل عليها من أقرانه من العلماء في عصره، وبذلك أصبح الشيخ العربي التبسي من أكبر عُلماء الدين الذين أنجبتهم الأُمَّة الإسلامية في ذلك العصر.
وأثناء تواجده بمصر كتب الشيخ مجموعة من المقالات نشرها في الصحف العربية المصرية، تتعلق بالأوضاع في الجزائر، فقد كان وفيًّا مُخلصًا لقضية وطنه الأُم الجزائر، وَخير دليل على ذلك هو عودته إلى أرض الوطن بالرغم من الامتيازات المُغرية التي كان من الممكن أن يتحصل عليها هناك في مصر، فقد فضَّلَ العودة إلى وطنه على المكوث في الأزهر الشريف، رغم أنَّه عُرِض عليه شيخ الجامع الأزهر بتوصية من أساتذته وشيوخه الأزهريين، منصب شيخ الفقه والأصول على المذهب المالكي، غير أنَّه رفض هذا العرض، وفضَّل العودة إلى بلده المُحتل، فقلبه كان يهفو للعودة من جديد إلى وطنه العزيز لِما يرى فيها من جدوى وفائدة للأمة الجزائرية، التي تعيش تحت وطأة الاستعمار الفرنسي الظالم، وهي مُثخنة بأمراضٍ لا حصر لها، لعله يُزيل آثار ليل الاستعمار الحالك إلى يوم فرجٍ مُشرق.
انضمامه وعضويته في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين
وفي هذه الفترة تبلور الوعي السياسي الوطني الجزائري، وبخاصة قضايا الهوية والقيِّم الوطنية ومستقبل الجزائر الديني والسياسي والاجتماعي والثقافي، ومن الشخصيات الكبرى التي ظهرت على الساحة الوطنية أثناء هذه الفترة الشيخ العلامة عبد الحميد بن باديس، الذي فكر في إنشاء جمعية تكون لها قوة في مواجهة الإدارة الاستعمارية، ووزن في تسيير مهام المصلحين؛ ففي عام 1930م الذي احتفلت فيه فرنسا بمرور قرن على احتلال الجزائر وذلك بتمرير نعش مغطى بالعلم الجزائري في شوارع العاصمة، تحولت الفكرة إلى عمل، فقد قرر هو ورفاقه العلماء _بعد عام من ذلك_ تنظيم اجتماع عام للمصلحين والمؤيدين في نادي الترقي بالعاصمة لتكوين الجمعية وتحديد مبادئها ومهامها وتنظيم أعمالها، وتمَّ الاجتماع تحت إشراف الشيخ العلامة محمد البشير الإبراهيمي لغياب الشيخ عبد الحميد بن باديس بسبب ظروف خاصة، وتقرر تأسيس الجمعية تحت اسم «جمعية العلماء المسلمين الجزائريين». وكان شعارها: «الإسلام ديننا، والعربية لغتنا، والجزائر وطننا»، وانتُخب الشيخ الإمام عبد الحميد بن باديس رئيسًا لها والشيخ محمد البشير الإبراهيمي نائبًا له والشيخ العربي التبسي كاتباً عاماً للجمعية.
اعتقاله من طرف الاحتلال الفرنسي أثناء الحرب العالمية الثانية
وأثناء قيام الحرب العالمية الثانية حتى نهايتها سنة 1945م، تعمق نشاط الشيخ العربي التبسي في شتى مجالات النضال السياسي، بالإضافة إلى اضطلاعه بالعمل الدعوي والإصلاحي والتعليمي. ولِنشاطاته السياسية المُكثَّفة الجريئة ضد الاستعمار الفرنسي أُلقي عليه القبض سنة 1943م من طرف الجيش الفرنسي بتهمة اتصاله بالألمان، وهي تُهمة مُلفَّقة لا صِحة فيها، ولا علاقة لها بنشاطاته السياسية النزيهة، فمبادئ الشيخ العربي التبسي لا تسمح له بالتعاون مع الصليبيين، أعداء الإسلام، فهو يعلم جيدًا أنَّ اليهود والنصارى ليس من ورائهم إلا الخِداع والمتاعب، لهذا من المستحسن أن لا نُقيم معهم أية علاقة، فالصهاينة والملاحدة والصليبيون ليس معهم مُهادنة على الإطلاق، امتثالًا لقوله تعالى: {وَلَن تَرْضَىٰ عَنكَ الْيَهُودُ وَلَا النَّصَارَىٰ حَتَّىٰ تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ} سورة البقرة، الآية: 120). وصدق كذلك الشيخ الحبيب فارس عندما قال: «… والأمر الآخر الذي أراه من قصر النظر، أن نعتقد أنَّ أعداء الإسلام القُدامى سيهادنونه اليوم أو بعد اليوم، والقرآن أخبرنا بذلك، فالصهاينة والملاحدة والصليبيون ليس معهم مُهادنة على الإطلاق».
وبعد إلقاء القبض عليه من طرف الجيش الفرنسي، سيق الشيخ العربي إلى السجن حيثُ مكث فيه حوالي ستة أشهر ما بين «تازولت» و«قسنطينة».
ولم تكن هذه المرة الوحيدة التي يتم فيها إلقاء القبض على الشيخ العربي من طرف الجيش الفرنسي، بل تمَّ القبض عليه من جديد سنة 1945م، وفرضت عليه سُلطات الاحتلال الإقامة الجبرية، ثم نُقل إلى عدة معتقلات وسجون، منها سجن المدية، والمشرية، وسجن الكدية الحربي بقسنطينة.
بعد خروج الشيخ العربي التبسي من هذه السجون والمعتقلات، وبعد نهاية الحرب العالمية الثانية، اجتمع أعضاء جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في دورتهم العادية أيام 27-28-29من سبتمبر 1946م بقسنطينة، وتم انتخاب مجلس إداري جديد للجمعية، نال الشيخ العربي فيه منصب نائب الرئيس، وظل الشيخ العربي في هذا المنصب حتى رحيل رئيس الجمعية البشير الإبراهيمي إلى المشرق العربي يوم07 مارس 1952م.
إدارته لمعهد عبد الحميد بن باديس سنة 1947م
في سنة 1947م تمَّ افتتاح معهد عبد الحميد بن باديس بقسنطينة، وأُسندت إدارته إلى الشيخ العربي التبسي رحمه الله تعالى، الذي كان آنذاك الرجل الثاني في جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.
وظل الشيخ العربي مديرًا للمعهد طيلة عقد من الزمان، يُعينه في إدارته الشيخ محمد خير الدين البسكري، ولم يصطحب معه أسرته، بل كان يزورهم متى سنحت له الفرصة، مُنقطعًا لخدمة المعهد وإدارته. وهكذا بقي الشيخ العربي يُؤدي مهمته كمدير للمعهد بكل إخلاصٍ وتفانٍ، غير أنَّ اندلاع الثورة التحريرية الكبرى في الفاتح من نوفمبر سنة 1954م، أدى بالإدارة الاستعمارية إلى غلق مدارس الجمعية عامةً، ولمعهد عبد الحميد بن باديس يوم 21 نوفمبر سنة 1956م، وتشتت طلابه، ومنها انتقل الشيخ العربي إلى الجزائر العاصمة.
رئاسته الفعلية لجمعية العلماء المسلمين الجزائريين
كما قُلنا سابقًا، فإنَّ الشيخ العربي التبسي قد ارتقى إلى منصب نائب رئيس جمعية العلماء المسلمين الجزائريين في سبتمبر 1946م، وبقي يشغل هذا المنصب إلى غاية رحيل رئيس الجمعية الشيخ البشير الإبراهيمي إلى المشرق العربي في مارس 1952م، ثم نال بكل جدارة واستحقاق منصب رئيس الجمعية خلفًا للشيخ الإبراهيمي، وظل الشيخ العربي في نهجه الدعوي والإصلاحي، لا تبديل ولا تحويل، وفيًّا لمبادئ دينه السمحة، ومبادئ جمعيتة النبيلة، لا يخاف في الله لومة لائم، عاملا على نشر تعليمات مبادئ دينه الحنيف، ومبادئ جمعيته الهادفة مُضيا بكل غالٍ ونفيسٍ في سبيل إعلاء كلمة الله عزَّ وجلَّ، وتوجيه أفراد الأُمَّة الجزائرية الإسلامية إلى طريق العزَّة والكرامة، طريق الشرفاء والعظماء؛ فقد تحمل هذا العالم الربَّاني في هذه المرحلة الخطيرة من تاريخ الأُمَّة الجزائرية المسلمة ما تنوء الجبال الرواسي بحمله، وذلك باعتراف كل رجال الجمعية وعلى رأسهم الشيخ الإبراهيمي نفسه، الذي وثَّقَ في مقالة صحفية في جريدة «البصائر»، عدد 197،الصفحة الأولى، بتاريخ: الإثنين28 جويلية 1952م، المُوافق لـ29شوال 1371ه، استبسال وتفاني الشيخ العربي التبسي في إدارة وتسيير الجمعية.
وبقي الشيخ العربي التبسي على هذا الدرب، وفيًّا ومُخلصًا لرسالة الإسلام، ورسالة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين إلى أن أوصل الجمعية إلى حل نفسها يوم 07جانفي 1956م، كي لا تتورط مع الإدارة الاستعمارية في المفاوضات الاستسلامية، حيثُ حمَّلَ الشيخ العربي باسم أعضاء الجمعية الإدارة الاستعمارية كل ما حلَّ بالشعب الجزائري منذ أن وطئت أقدام الاستعمار الفرنسي تراب الوطن الجزائري سنة 1830م.
أداءه فريضة الحج وزيارته للمشرق العربي سنة 1954م
في آخر سنة 1373ه، المُوافق لسنة 1954م، خرج الشيخ العربي من الجزائر مُتجهًا إلى الأراضي المُقدسة لأداءِ فريضة الحج، وهناك في جوٍ مملوءٍ بالمشاعر الإيمانية الصادقة، تنفس الشيخ العربي الصعداء، وأعطته نفسًا جديدًا، وملأته إيمانًا وأملًا في إنقاذ وطنه من ظُلم المستعمر الظالم المُستبد، حيثُ زودته شُحنةً وطاقةً جديدتيْن، حفَّزَتاه على مُواصلة مِشوراه الدعوي والتربوي والإصلاحي في وطنه المُحتل بعزيمةٍ وقُوةٍ خارقتيْن.
وفي طريق عودته إلى الجزائر، زار الشيخ العربي مدينة “دمشق”، وأقام فيها بعض الوقت، اتصل فيه بمجموعة من عُلماء ومُثقفي هذه المدينة العريقة، فشرح لهم قضية ومُعاناة الشعب الجزائري. ثم زارَ الشيخ العربي مدينة “القاهرة”، حيثُ استُقبِلَ من طرف الشيخيْن الجليليْن محمد البشير الإبراهيمي، والفضيل الورتلاني اللذين كانا ينشطان داخل وخارج مكتب جمعية العلماء المسلمين الجزائريين بالقاهرة، لإدارة البعثات الطلابية الجزائرية.
وأثناء تواجده بالقاهرة، استُقبلَ الشيخ العربي التبسي من طرف رئيس الجمهورية العربية المصرية، الرئيس الراحل جمال عبد الناصر؛ ومن بين ما دار من حوارٍ بين الطرفين، قول الشيخ العربي التبسي لجمال عبد الناصر: “أعينوا الجزائر على تحررها من الاستعمار قبل أن تُجندهم فرنسا -قسرًا- فتُحاربكم بهم”…!!.
موقفه من الاستعمار الفرنسي وثورة التحرير
لما عاد الشيخ العربي التبسي إلى الجزائر يوم 5أكتوبر 1954م، عزمَ على مواصلة جهاده المُظفر، وأيقنَ أنَّ الوسيلة الأمثل لدحر وإخراج العدو من الأراضي الجزائرية، هي القيام بثورة عارمة تهز الكيان الاستعماري من عرشه، وتجبره على الانسحاب والخروج من وطنه.
وأحسَّ الشيخ العربي أنَّ شيئًا ما سيحدث في بلاده الواسعة في الأيام القادمة، فقد لاحظ على وجوه شُرفاء هذه البلاد أنَّ نفوسهم مُستعدة للانفجار، وأنَّ الأُمَّة الجزائرية تتمخض لِتلد ثورة إسلامية عظيمة مُباركة.
وبالفعل، فبعد أسابيع قليلة من هذا الإحساس الصادق، اندلعت الثورة التحريرية الجزائرية الكبرى في الفاتح من نوفمبر 1954م، شعارها إعلاء كلمة الله عزَّ وجلَّ، وتحرير الوطن من قُيود الاستعمار الغاشم؛ وأثناء هذه الثورة ضحَّى الشعب الجزائري بالنفس والنفيس من أجل استرداد سيادة وطنه، وكرامته، وعزَّته، لِتبقى هذه التضحيات الجِسام رمزًا تاريخيًّا للمُقاومة والثورة التحريرية الكُبرى، ولِتُنير أمام الأجيال اللاحقة مَعالم دَربِ النِّضال والجِهاد الذي شَقَّه ملايين الشهداء الأبرار بدمائهم الزَّكية، وعبَّدوه بأجسادهم الطَّاهرة لِيكون مَعبرًا للجزائر ولِشعبها إلى الحرية والاستقلال.
وعند سماعه بخبرِ اندلاع الثورة التحريرية الكُبرى، ابتهج الشيخ العربي التبسي ابتهاجًا عظيمًا، وأيقنَ أنَّ النصر قريب، فلذلك شمَّرَ على يديه، ودعا لها في صلواته وخلواته بالنصر المُبين، ودعا لها من فوق المنابر مُتحديًا جبروت وقُوة المُستعمر، ودعا لها في مجالسه مع الخاصة ومن يثق بهم من العامة، يدعوهم إلى الجهاد في سبيل الله عزَّ وجلَّ بالنفس والنفيس، وكان يجمع لها الأموال؛ وكان الكثير من الناس لا يتبرعون بالمال للثورة إلا على يده لِثقتهم به، واستجابتهم لدعوته.
ولقد كان الشيخ العربي شديد الاهتمام بالثورة، يتتبع سيرها وجديدها، ويتصل بكثير من قادتها في الجبال والمُدن؛ ومن بين هؤلاء القادة القائد البطل الشهيد عميروش (1926-1959م)، الذي كان وثيق الصلة بالشيخ العربي عند إقامة هذا الأخير بالجزائر العاصمة، حيثُ كان يعده شيخه وأستاذه، صاحب العلم الغزير، والمواقف الشجاعة، الجريئة النادرة. لهذا كان القائد عميروش يرسل برسله من جبال القبائل إلى الشيخ العربي وهو في الجزائر العاصمة يخبره بأنباء الجهاد. وفي إحدى المرات سأله عميروش -عن طريق رسوله- وصية يتبعها في جهاده؛ وكانت الأيام عصيبة والمعارك على أشدها في جبال القبائل، والقائد عميروش وجنوده الأبطال يشتبكون بجيوش الاستعمار الجرارة القوية فيلحقون بها الهزائم، فلم يجد الشيخ العربي وقتًا لكتابة الوصية، وخاف التفتيش الشديد في المدن والطرق، فيعثر العدو على الرسالة، فسلم لرسول القائد عميروش مصحفًا صغيرًا وقال له: “بلِّغه سلامي ودعواتي، وابتهاجي العظيم بجهادهم وانتصارهم، وقُل له: هذا المصحف الشريف هو وصيتي له”…!!
وهذه الرواية وإن كانت بسيطة في الظاهر، غير أنها تدلُّ على ما كان يتمتع به أهل العلم والفضل والدين، من النفوذ والإجلال في نظر قُواد الثورة؛ وكذلك إرسال الشيخ للمصحف إلى أحد القادة الكبار يدلنا على حقيقة الثورة الجزائرية، ونية أبطالها فيها، وهي إعلاء كلمة الله، ونُصرة الدين. إنَّ هذا هو السبب الرئيسي والأكبر لانتصارها على أعدائها، رغم عدم التكافؤ في عدد وعُدة الجيش بين الطرفيْن.
انتقاله إلى الجزائر العاصمة ونشاطاته وجهاده فيها
كما قُلنا سابقًا، فإنَّ معهد ابن باديس بقسنطينة قد أُغلقَ سنة 1956م، مما أدى إلى انتقال مُديرها الشيخ العربي التبسي إلى الجزائر العاصمة في نفس العام، وكانت برفقته أُسرته الفاضلة، فلقد فضَّلَ الشيخ العربي الإقامة والاستقرار بالعاصمة عوضًا عن إقامته في مدينته تبسة، وذلك بسبب الأوضاع الأمنية والحربية التي كانت تعيشها تبسة في ذلك الوقت، فلقد كانت منطقة حربية، وأعداء الشيخ من حُكام تبسة الطُّغاة وأذنابهم من أعدائه وحُساده المسلمين يتربصون به، وينتظرون عودته لِيفتكوا به. أما الجزائر العاصمة فأهدأ جوًا وأقل عدوًّا، فآثر الاستقرار في العاصمة لأنّ هناك أيضًا واجبًا يدعوه، وهو رئاسة جمعية العلماء، وإدارة شؤونها بعد سفر رئيسها الشيخ البشير الإبراهيمي إلى القاهرة، والقيام بتثقيف الجماهير في العاصمة والمُدن الأخرى في أنحاء الشمال الجزائري، وتوجيههم في دروس الوعظ والإرشاد في هذه الظروف الاستثنائية والعاصفة التي تمر بها البلاد.
ولقد كانت لدروسه القيّمة التي كان يُلقيها في مسجد حي بلكور الإسلامي الكبير في الجزائر العاصمة الصدى الواسع في عقول وقلوب مُستمعيه، فكان المسجد يغص بالمتسارعين إليه، رغم ظروف الحرب التي تجعل التنقل في أنحاء العاصمة صعبًا، وفي حي بلكور بالخصوص لكثرة الحوادث الواقعة فيه، فيصب عليه الجنود الفرنسيون الطُّغاة أنواع الانتقام.
لقد كانت المُدة التي قضاها الشيخ العربي التبسي في العاصمة قصيرة لا تتجاوز العام، ولكن أعماله فيها عظيمة تُساوي في صُعوبتها وإنجازاتها أعمال غيره في الجزائر الهادئة قبل الثورة في عشر سنوات أو أكثر. وأبى الشيخ العربي أن يخرج خارج التراب الجزائري حيثُ يعمل في جوٍ آمن كما فعل الكثيرون، لأنَّه كان يعتقد أنَّ الجهاد الأكبر في الداخل أكثر، وقيادة الجماهير بدروسه، والمُحافظة على ما بقي من مدارس جمعية العلماء التي تعد للجزائر صفوتها وجندها في ثورتها، وقوامها إذا استقلت هو الجهاد العظيم الذي يجب عليه ولا يستطيعه إلا أعلام الإصلاح أمثاله.
استمر الشيخ في جهاده هذا، لم يضعف ولم يستكن إلى أن أكرمه الله عزَّ وجلَّ بالشهادة في ربيع 1376ه، المُوافق لسنة 1957م، وذلك في ظروفٍ غامضة.
استشهاده في سبيل الله وتحرير الوطن
أثناء إقامته بالجزائر العاصمة، تعرض الشيخ العربي التبسي لكثير من المخاطر، منها التهديد والمُحاصرة والتضييق والتربص به من طرف الاستعمار، ومكائد أذناب المُستعمر المُتمثلين في رجال الجوسسة من الجنسيْن الفرنسي والجزائري.
ولقد ذكر بعض المؤرخين أنَّ السلطات الفرنسية أرسلت مرات عديدة إلى الشيخ العربي برسائل من وزرائها تحثه في التدخل لوقف الحرب الدائرة في أرجاء الجزائر الواسعة، حتى أنَّهم توصلوا إلى إيفاد مبعوث من عقر دار فرنسا ذاتها، حيثُ بعثوا له من فرنسا بشخصية بارزة، سياسي مُحنَّك لإقناعه في التدخل لدى الثُوَّار الجزائريين من أجل وقف الحرب الدائرة رحاها في مختلف المناطق الجزائرية، غير أنَّه لم يفلح في إقناع الشيخ، حيثُ كان يُجيبهم دائمًا بنفس الإجابة: “إنَّ فرنسا إذا أرادت إيقاف الحرب، فلتُفاوض جبهة التحرير وجيش التحرير الوطني، أما العربي التبسي وغيره فليس لهم أن يتكلموا باسم الشعب وثورته، ولا يستطيعون إيقاف ثورة الأُمَّة كُلها”…!!
لهذا كُله، اغتاظ المستعمرون الغُلاة غيظًا شديدًا على الشيخ العربي التبسي، وقرروا تصفيته، والقضاء عليه، فساروا إليه في إحدى ليالي رمضان المُباركة لسنة 1376ه، الموافقة لليلة 17 أفريل 1957م، فأخذوه وقتلوه.
وفي اليوم المُوالي لليلة اختطافه، هرعَ كبار تلاميذ، وأصدقاء الشيخ المُقربين، وأهله إلى مراكز الشرطة المدنية والعسكرية سائلين ومستفسرين عن مكان اعتقال الشيخ، فتفاجئوا جميعًا بنفي رُؤساء هذه المراكز نفيًّا قاطعًا وجود الشيخ رهن الاعتقال في مراكزهم…!!
وبقيت عائلة الشيخ العربي التبسي تبحث وتتحرى وتتقصى الأخبار عن اختفاء والدهم في تلك الظروف الغامضة، ولم تُقصر في البحث عنه، حتى أنَّ ابنه محمد الأمين قام بمقابلة الرئيس الفرنسي “ديغول” شخصيًّا في باريس بعد شهرٍ واحد من اختفاء والده الشيخ -أي في شهر ماي 1957م-، غير أنَّ الرئيس الفرنسي كان رده سخيفًا ويفتقد للمسؤولية، حيثُ قال له بالحرف الواحد: “… لا عِلمَ لي بما يدور في الجزائر…”…!!
ويبقى اختفاء الشيخ العربي التبسي من منزله في الجزائر العاصمة في إحدى ليالي رمضان سنة 1957م، وكيفية قتله، لُغزًا غامضًا حيَّرَ الجميع إلى حد الآن.
وهكذا كُرِّمَ الشيخ العربي التبسي باستشهاده في سبيل إعلاء كلمة الله عزَّ وجلَّ، وفي سبيل تحرير وطنه في خير الشهور عند الله، وهو شهر رمضان. فهو عند ربه مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقًا.
وبوفاة الشيخ العربي التبسي، ظنَّ المستعمرون الفرنسيون أنَّهم قد أحرزوا نصرًا، وأنَّهم أخمدوا الجذوة، واقتلعوا جُذور شجرة الحرية والاستقلال والتحرر… غير أنَّ الزمن أثبتَ أنَّهم كانوا واهمين مخدوعين، فقد خابَ ظنهم… وأنَّ شجرة الحرية والاستقلال والتحرر قد سارت في طريق النمو وأثمرت يومًا من أيام الله يوم الاستقلال المُبارك الخامس من جويلية سنة 1962م، لا في الجزائر وحدها، بل في الشرق العربي وفي الدول الإفريقية وغيرها… وسوف تنمو وتزدهر حتى يعم خيرها كل الشعوب المُكافحة المُناضلة.
وبعد أن استشهد العربي التبسي، أصبح تولي عبء الإمامة من بعده في مدينته تبسة شيئًا صعبًا وشاقًا، فهي مسؤولية لا يتحملها إلَّا الرجال ذوو الهمم العالية، والعزائم الخارقة؛ فكانت أصابع كل شرفاء مدينة تبسة مُتجهة إلى شخصية الشيخ الحبيب فارس لِتُوَليه عبء هذا المنصب الحسَّاس… لك الله يا الشيخ الحبيب فارس، ما أفدح هذا الحمل المثقل بالمتاعب والمُعاناة والابتلاءات الذي ستتحمله في عصر الاستقلال…!!، لكَ الله يا الشيخ الحبيب فارس…!!