الشّاعر الشّيخ محمّد بن أحمد بسكر (1880 /1942م)
بقلم : محمد بسكر-
للحياة معنى فسيح نبيل لذلك الرّجل الذي يحيا من أجل فكرة أو مبدإ، وإنّ الألم ليتضاءل بقدر اتساع ذلك المعنى..والحياة النبيلة الطيّبة هي التي يحيا الفرد فيها، لأجل مواطنية، لأجل المجتمع، لأجل النّاس. هذه الحكمة التي نطق بها مِقوَلُ الفيلسوف الهندي الشّاعر (طاغور)، تجسدت في شخص الشّيخ عبد الحميد ابن باديس، الذي عاش ما يربو على الخمسين سنة، وهي أعوام في حساب الرّجل العادي غير كافية لأن يُكوّن فيها نفسه، فضلا عن أن يُهيأ غيره لمهام جِسام، إلا أنّ المتأمل في مسار النهضة الفكرية والعلمية التي رسّخ الإمامقيمها، وغرس قواعدها، ومئات الرّجال الذين تخرّجوا بين يديه في الجامع الأخضر بقسنطينة،أو تأثّروا بدروسه ومقالاته التي نشرها في جرائده المختلفة، يدرك أنّ الرّجل، رجل أمّة، يحمل همّها، ويعيش لأجلها، ويتطلّع لمستقبلها.
ومن بين رجال الإصلاح الذي تأثّروا بمنهجه الإصلاحي في الجنوب الجزائري، الشّيخ محمّد بن بسكر، الشاعرُ الفطري كما وصفه الشّيخ عبد الحميد أثناء تقديمه لإحدى قصائده في جريدة الشهاب، وأديبُ بوسعادة وشاعرها المجيد، كما نعته الشّيخ الطّيب العقبي في جريدته الإصلاح.
نبذة تعريفية:
ولد أديبنا رحمه الله بحي الموامين بمدينة بوسعادة سنة 1880م، وترعرع في كنف أسرة محافظة، وكأقرانه من الفتيان التحق بزاوية الشّيخ سيّدي عطية بن بلقاسم الشّريف، فتلقّى على شيخه عثمان غربي القرآن الكريم ومبادئ العلوم، ثمّ انتقل إلى المسجد العتيق (جامع النخلة)، وهو أقدم مسجد في (بوسعادة)، يرجع تأسيسه إلى مطلع القرن السابع الهجري، فانخرط في دروس الشّيخ أبي بكر بن حامد رحمه الله، شيخ الطّريقة الشّاذلية ببوسعادة، فأخذ عنه الفقه والتوحيد واللّغة والتصوف، كما اتّصل بالأديب الشّاعر، الشّيخ محمّد بن محمّد بن عبد الرّحمن الدّيسي، فتعلّم بين يديه علمي العروض والقوافي، يقول الدكتور عبد المالك مرتاض:«ومن عجب أنّ هذا الشاعر لم يتلقّ العلم في القرويين بفاس، ولا في الزيتونة بتونس، ولا في الأزهر بالقاهرة، بل لم يزد من التحصيل على ما كان مشاعا من العلم في الزوايا الجزائرية ومراكزها الثقافية المحلّيّة على عهد الاستعمار الفرنسي، ممّا يدل على أنّه كان شاعرا عصاميا، التمس الثقافة في قراءاته الكثيرة للأدب وحفظ نصوصا من الشعر، كمعظم الشعراء الذين عاصروه، ممّن كانوا يعيشون في النصف الأوّل من القرن العشرين»(1).
عُرف رحمه الله بنزعته الإصلاحية، ونشاطه في مجال الدّعوة والإصلاح الديني والاجتماعي، وقد وجد مبتغاه في حركة ابن باديس التي ظهرت ملامحها على السّاحة الجزائرية بداية من سنة 1924م، ولما أُعلن تأسيس جمعية العلماء ، بادر إلى الانضمام إليها والمشاركة في أوّل ملتقى تأسيسي لها، بنادي الترقي سنة 1931م، ممثّلا لمدينة بوسعادة ونواحيها.وفي سنة 1936م وسّعت جمعية العلماء من نشاطها، وكوّنت عدّة لجان وطنية ميدانية، تهتم بالشؤون العلمية والتربوية، والقضايا الاجتماعية والسياسية، فاختاره المكتب الوطني ضمن لجنة الإصلاح الاجتماعي التي ترأسها الشّيخ الفضيل الورتلاني، لما رأى فيه من أدب ومعرفة، ونشاط واسع، وشهرة بين الوسط البوسعادي.
آمن رحمه الله بمبادئ الجمعية، العلمية والإصلاحية، فروّج لأفكارها في محيطه، وكان شديد الوطأة على المناهضين للإصلاح، من أصاحب المصالح السياسية الضيقة، أو من كبّلتهم مظاهر التّدين الكاذبة، ففي مقال نشره في جريدة البصائر - باسم مستعار )البوسعادي( - تحت عنوان )حذار من الورع الغادر والسّخاء الماكر(، نبّه القارئ إلى مخاطر المظاهر الخدّاعة، والتديّن الزائف، فقال: يتخذ اللّصوص لنيل أغراضهم السّافلة مصايد كثيرة متنوعة، ولكن أشدّها مكرا، وأخبثها بالإنسان غدرا، وهي مصائد الورع والسّخاء الكاذبين، فهما بحق مصيدتان غادرتان من نوع العناوين الكاذبة(2).
ربطته بالشّيخ علي مرحوم رحمه الله، مبعوث الجمعية ومتجوّلها الخاصّ في المناطق الشرقية، علاقة وثيقة من الاحترام والتقدير، فكان (علي مرحوم) يعرف قدر الرجل ومكانته في الأدب والشعر، فنوّه بأدبه وعطائه الشعري ودوره الإصلاحي، و ترجم له - بعد الاستقلال- في مجلة الثقافة، ونشر نماذجا من شعره، وممّا قاله في حقه:» عُرف الشّاعر بأنّه شديد الوطأة على أعداء الإصلاح ومناهضيه، لا تلين له قناة في مقاومتهم، وكشف ترهاتهم ودجلهم، وفضح استغلالهم باسم الدّين السذّج والبسطاء من العوام،وخصوصا أولئك الذين ينتمون إلى بعض الطرق والزوايا «(3)، وقد دفع شاعرنا ثمن مواقفه، فعزلته السلطة الاستعمارية من وظيفته ككاتب (خوجة) عند أحد ( القيّاد)، وضيّقت عليه وحدّت من نشاطه، وخاصة بعد الاستقبال العظيم الذي أعدّه مع أعيان بوسعادة للشيخ ابن باديس لمّا زار مدينتهم سنة 1932م.
إنتاجه الشعري.
وضعيةُ المجتمع الجزائري المأساوية بمعناها الواسع، التي اتسمت بالركود في المجال الثقافي، والانحطاط فيالمستوى التعليمي، والتدهور الاجتماعي، كلّ هذه الظروف التي لمسها وأحس بها كغيره من العلماء، جعلت منه شاعرا إصلاحيا، مرهف الحس، يميل في قصائده إلى النقد الاجتماعي، فلا يخلو شعره أو مقالاته، من الحث على تقويم النفس والنهوض بها، ومقارعة البدع والخرافات التي كبّلت همم الشباب، والدعوة إلى إصلاح الفساد الواقع في المجتمع الجزائري.
نشر معظم شعره في جريدة الإصلاح، ومجلة الشهاب، وجريدة البصائر الأولى، وحملت قصائده عناوين مختلفة الأغراض، ففي جريدة الإصلاح نجد له قصيدة : عاد الذي فطموه قبل رضاعه ، وزهرة عبثت يد النون بها، وسوق عكاظ، والإصلاح والمصلحون.وفي مجلة الشهاب نُشر له قصيدة:ما العلم إلا المشاع، عقد فريد، وفي جريدة البصائر له قصيدة: قصدنا طريق الحياة بجد، ورسالة الشرك،وضعها تقريظا لكتاب الشيخ مبارك الميلي (الشرك ومظاهره).
ظهرت قصائده الأولى في جريدة (الإصلاح) التي يشرف عليها الشّيخ الطيب العقبي، فكانت تنشر له بيتين في كلّ عدد يصدر لها، في باب (مجاني الأدب)، المخصص لفحول الشعراء أمثال: محمّد الأمين العمودي، والطّاهر بن عبد السّلام، والشّيخ حسن أبو الحبال، وأحمد الأكحل، ومحمّد السّعيد الزاهري وغيرهم. وتجربته الشعرية مع جريدة الإصلاح بدأت منذ تأسيسها سنة 1927م، واستمرت إلى سنة 1940م، فكانت تنشر أعماله دون تردد، وحتى يقف القارئ على مكانة هذه الشخصية العلمية في مجال الأدب الجزائري، يكفي أن ننقل عبارة رئيس تحرير (الإصلاح) الشّيخ الطيب العقبي، وهو يصف صاحب الترجمة بقوله: نَنشرُ في هذا العنوان، وفي هذه الصفحة الذّهبية أسماء أركان الإصلاح، الذين أعانوا ماديا وأدبيا ...تخليدا لذكرى هؤلاء، السّيد: محمّد بن بسكر، أديبُ بوسعادة وشاعرها المجيد، رُكن من أركان الإصلاح، ورجلٌ عاملٌ لنشره وترويجه(4).
ومن قصائده التي نشرها بمجلة الشهاب، قصيدة (عاش الشهاب)، قدّمتها إدارة الجريدة بكلمة جاء فيها: جاءتنا هذه القصيدة البليغة في آخر رمضان، وقد تمت مواد المجلة فتأخرت إلى هذا الجزء، ثم قد ترددنا في نشرها لما فيها من ذكر شخص صاحب هذه المجلة، ولكن رأينا أنّ كلّ ما يقال فيه، إنّما هو موجه لفكرة الإصلاح والدّاعين إليها والقائمين بها، وما اسمه إلّا رمز لذلك، ولذلك سمحنا بنشرها، شاكرين لناظمها الأديب فضله وأدبه. ومن قصائده التي صدّرتها الشهاببكلمة رائقة، قصيدة (عقد فريد)(5)، جاء في نصّها: أنشئت هذه القصيدة إجابة على اقتراح قدمه الأستاذ البشير الإبراهيمي لكافّة الشعراء الحاضرين بمدينة الجزائر، يوم انعقاد جمعية العلماء بنادي الترقي بعدما نضم – حفظه الله – مطلعها وعجزها الأخير. وعلّق الأستاذ علي مرحوم على ذلك بقوله: ومن أجلّ ما قيل من الشعر فيها، قصيدة عصماء للشاعر محمّد العيد آل خليفة، وقصيدة غرّاء للشاعر الفطري الشّيخ محمد بن بسكر بعنوان (عقد فريد).
آخر ما نشرته له جريدة الإصلاح قصيدة رثائية تحتوي سبع وعشرين بيتا، تحت عنوان (باديس من نهاره يتألق)(6)، نظمها بعدما وصله نبأ وفاة الشّيخ عبد الحميد ابن باديس، وافتتحها بكلمة نثرية جيّاشة ومعبرة، جاء فيها: « الأستاذ الجليل الشّيخ الطّيب العقبي، سلاما واحتراما، أمّا بعد فستجدون داخل الكتاب مرثية في الأستاذ المرحوم، أرغب – من فضلكم– في نشرها في الإصلاح، ولقد شرعت فيها يوم نعته لنا البرقيات، ولكني لم أقدر على نظمها، فكلّما لفظت لفظة يغلبني البكاء، وتعذّر عليّ إتمامها حتّى يئست، وفي هذه الأيام فقط، وجدت نفسي قادرا على إتمامها، والله يعلم أنّ بكاءنا لم ينقطع، سدّد الله خطاكم، وبارك في أعمالكم، والسّلام عليكم». واستهلها بقوله:
هبوا إلى دار الإمام وحققوا *** ما بالإمام وما له لاينطق
ماللتلاميذ الكرام تجمعوا من *** حوله وبه الوفود قد أحدقوا
لم يفتتح درس الحديث ولم *** يفه وتعودوا من بحره أن يستقوا
ماكان يحرم سائلا من فيضه *** عهدي به فوق المنابر يدفق
ماذا عرا عبد الحميد وعاقه *** عن نطقه وهو الخطيب المفلق؟
الإحالات:
1:عبد المالك مرتاض: معجم الشعراء الجزائريين في القرن العشرين، ص81.
2: جريدة البصائر، السنة 4، العدد 174، 1358هـ/1939م.
3: علي مرحوم: الشّاعر المرحوم محمد بن بسكر، مجلة الثقافة، العدد : 63/1981م.
4: جريدة الإصلاح: العدد 08 ، سنة 1929م.
5: الشهاب،ج 6/ المجلد 7 /1350هـ/1931م.
6: الإصلاح: العدد 34، بتاريخ 24 /12/1940م.