من خصائص خطاب التغيير الإسلامي عند إبن باديس

بقلم: د.محمد مراح-

مما لا شك فيه أن العمل المثمر يسبق فيه الفكر الفعل ، وتتأكد هذه الحقيقة كلما ارتقى مستوى العمل واتسع نطاقه وتداخلت مقتضياته وتعقدت مشكلاته، فإن الذي يصلح ثقبًا في جدار بيته ليس كمن يعد عدته لإضافة غرفة أو مجموعة غرف أو طابق يلحقه بسكنه ، والاثنان معًا ليسا كمن يصمم تصميمًا مدروسًا لإنجاز مشروع سكنى ضخم ، وهكذا كلما اتسعت دائرة ما نريد إنجازه اتسع مجال الفكر بقدر الحاجة .

يمكننا دون تحفظ نقل هذه الصورة من عالم الحس والمادة إلى عالم البناء المعنوي اللا مادي، وعليه يصح قولنا: إن من ينشغل بإصلاح وتربية ابنه أو أبنائه ليس كمن يعهد إليه بتربية جيل أو أجيال ، فكل يحتاج من الفكر والتفكير بالقدر الذي يناسب عمله إذا أراد له أن يؤتي أكله فيثمر . فما بالك إذا تعلق الأمر بتربية أمة وتغيير ما بها استجابة لسنة الله تعالى {إِنَّ اللَّهَ لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنْفُسِهِمْ }(1) إننا بلا _ ريب _ في حاجة إلى فكر من نوع مميز ، يتسع إلى أقصى ما يمكن أن يسعه فكر بشرى ، حتى يستوي بعد نضجه على غير ما اعتاد الناس أن يروا عليه مسالك التفكير وضروب القول وأفانين العمل والسلوك.

أحسب هذه التوطئة كافية ومناسبة لوضعنا في الإطار الذي نريد لمداخلتنا هذه أن تدور فيه . فهي تجتهد _ مع استصحاب للفكر والخطاب الباديسي _ لاستخلاص بعض خصائص التغيير الإسلامي في هذا الخطاب _ وما أغناهما عدًّا وتميزًا _ على اعتبار مثل هذا المستوى من التتبع بالدرس والكشف لا محيد عنه إذا رمنا الموضوعية والإحاطة والتعمق في فهم الجهاد الحضاري الذي خاضه ابن باديس [1889 / 1940] . ومن آزره ، تلك الفئة التى نفرت تأمر بمعروف النهضة وتنهي عن منكر التخلف.

أولاً : مبررات الدراسة :

 أ_1_ إن مستوى دراسة الفكر في صورته التى يجسدها الخطاب ضروري؛ لما سبق تبيانه في التمهيد ، ولمقتضى الترتيب المنطقي الذي يحكم ترتيب الفكر ثم الممارسة في النطاق الاجتماعي والفردي .

2_ كما أنه ضروري؛ لأنه سيساعدنا على وضع خطواتنا الأولى على طريق عالم معرفي علمي هام ومفيد، وهو دراسة «تطور الأفكار» الذي يختار فيه الدارس الخلوص للأفكار بعد أن تبهت _ أمام ناظريه _ صورة الأشخاص الذين أنتجوها ، لا تقليلاً من قيمة الأشخاص ومكانتهم بالنسبة لأفكارهم، ولكن إبعادًا لهم عنها قدرًا يسيرًا باعتبار الدراسة ، وتركيز أنوار الفكر على دائرة «الأفكار»، فهذه المعرفة _ إذن _ موضوعها «التاريخي الفكري ، حيث يؤرخ للأفكار ،وليس للأحداث أو الأشخاص ، من وجهة تبدلاتها وتغيراتها وتطوراتها وتحولاتها ، الجزئية أو الكلية ، العرضية أو الجوهرية، وربط هذه الأفكار بعامل الزمن ، أي التحقيب الزمني والتاريخي للأفكار»(2). سيلقى المتابع لهذه المداخلة أثرًا لهذه المعرفة فيها ، ولكننا لا ندعى ارتفاقًا لها في سائرها .

3_ والضرورة الأخيرة _ وهي الأهم قطعًا _ هي موضع «العبرة» التى تتيحها «الفكرة» لمن يطلبها على سنة {فَاعْتَبِرُوا يَاأُولِي الأَبْصَار} إذ من خصائص «الفكرة» الصحيحة الحية النافعة ، تحينها للوقت والإنسان والمنهج والوسيلة المناسبة؛ لمعاودة أداء دورها الحيوي النافع في الحياة .

إضافة للضرورات المذكورة، تُطْرَح الأسئلة الآتية ، لماذا انصرفتُ بهذه الدراسة لفكر وخطاب الإمام ابن باديس، حائمًا حوله، طارقًا أبوابه، مستنطقًا مكنوناته؛ كي استخلص منه خصائص التغيير الإسلامي لديه تحديدًا دون حركة جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ؛ ألأنه رئيسها فحسب؟ ومقام الرئاسة كثيرًا ما يقارن الحظوة والهالة التى تنبعث أنوارها وبريقها، فتصرف لصاحبها الأنظار وتثبتها نحوه؟ أم لأن السبب كامن في السبق الزمني الذي بادر به الإمام في تحويل الإصلاح والتغيير _ منطوقًا ومفهومًا وتنزيلاً على الواقع _ من «جهد الفرد» إلى « جهد الجماعة» من دائرة الكلمات والتوجيهات المتناثرة هنا وهناك على ساحة التخلف والركود والغياب عن أي معنى حقيقي للحياة، إلى «التخطيط المحكم الواعي» و«المنهج الذكي الفاعل» في ربط تصورى مدهش لشتى أطراف ومجالات ســاحة العمل والتغيير (ساحة الواقع الجزائري) ، وإتيانه من مداخله المناسبة؛ لنقض بنيانه في أجزائه المتهالكة ، وإحلال واقع بديل متماسك محلها ؟ كل سؤال من هذه الأسئلة يحوي إجابته، وبائتلاف الإجابات أحسبني قاربت الإقناع حول ما أنا مزمع تقديمه.

ب _ ومع ذلك هناك أسباب ومبررات أخرى لاختيار الموضوع منها:

(1) الإجماع الذي حظيت به شخصية ابن باديس ، وقد عبر عن ذلك خير تعبير فضيلة الشيخ الشهيد العربي التبسي [1892 _ 1956] في خطبة تأبين الإمام ، فقال :«لقد كان الشيخ ابن باديس الجزائر، فلتجتهد الجزائر اليوم أن تكون ابن باديس»(3)  .

(2) تميز ابن باديس من بين قادة الجمعية ، خطــابًا ورؤية ومنهجًا ، «فقد كان بحق مثقفًا يعيش مأساة مجتمع وحضارته على طريقته الخاصة»(4).

(3) ثراء خطابه الذي لو قصرنا نظرنا عليه لهدانا إلى أن شخصيته «تجمع في طياتها جوانب بلغت من التنوع والغنى مبلغًا يجعل في قدرة الباحث _ دومًا _ أن يتطرق إلى دراستها من زاوية تحرر الفكــر من الظــروف العرضية النسبية»(5).

(4) وضوح عناصر وخصائص منهج التغيير في خطابه لمن التمسها لهذه الغاية.

ثانيًا : تعريفات :

من المهم في هذا المدخل تعريف مصطلحيّ (الخطاب) و(التغيير) بما يحدد المعاني التى تناولنا بهما أو فيهما الموضوع .

أ _ الخطاب : سوف نلتمس لتعريفه أقرب السبل التى تربطنا بمعالجة الموضوع على هذا المستوى .

فأيسر تعريف (للخطاب) هو التعريف الأصولي ؛ إنه « توجيه الكلام نحو مخاطب لإفهامه»(6).

وعليه ففي كل خطاب لابد من توافر طرفين: المخاطِب والمخاطَب ، أو بلغة الاتصال : المرسل والمتلقي ، وما  العلاقة التى يريد الخطاب إحداثها بين الطرفين إلا أثره البارز من جهة ، وإحدى غاياته من جهة أخرى.

كما يمكن فهم الخطاب وتعريفه باعتباره يمثل «جملة من المنطوقات أو التشكلات الأدائية التى تنتظم في سلسلة معينة لتنتج _ على نحو تاريخي _ دلالة ما وتحقق أثرًا متعينًا ويخلق الخطاب تفاعلاً حواريًّا مع المجال الاجتماعي الذي يعد مهادًا لتلقى موضوعه . فيتجادل مع غيره من الخطابات ويشتبك مع وعي المخاطبين في محاولة لدفعهم إلى حقل قناعاته»(7).

جدير بنا أن نلتمس من هذا التعريف عناصر ومكونات الخطاب ومجال عمله، والأثر الذي يحدثه ، والغاية منه ، هذه العنــاصر هي : [ الخطــاب : منطــوق (شفهي) أو مكتوب معد، يتصف بصفتى: الارتباط والانتظام، ذو دلالة أو دلالات ضمنية معينة _ لابد له من حقل اجتماعي تعمل دلالته ضمنه، كل خطاب ينتج أثرًا متعينًا، فما لم يحدث أثره دل على قصور في المرسل أو الأداة، ويوصف الخطاب (بالنجاح) إذا تفاعل مع وعي المخاطب بما يجره إلى حقل قناعاته].

ولهذا يتعين على أي خطاب يريد له صاحبه تحقيق الأثر الإيجابي أن يتوفر على مقومات الخطاب الناجح ، أهمها:

(1) الحجية : إذ لا دور لخطاب فاقد للحجة  القوية والدليل المقنع والبرهان الجلي على المضمون الذي يحمله، «فالواقع أن هدف الخطاب في جميع مكوناته هو إقناع المستمع أو القارئ من خلال استخدام الحجة المنطقية المتماسكة، ومن خلال استخدام الأفكار.. المجمعة المنسقة ذات العلاقات الدلالية المتشابكة»(8)

(2) الشرعية لتجاوز عقبة شرعية الموروث واستقراره ، مع ملاحظة أن هذا التجاوز لا ينسحب على (القرآن والسنة) ؛ إذ لا شرعية لخطاب إلا بإقرارهما له.

(3) البدائل التى يقدمها الخطاب الجديد لتجاوز   فكرة الخوف من الفراغ أو المجهول؛ لأن الاكتفاء بالمقوّمين الأول والثاني سيقف بنا عند حدود (الإفراغ) دون اجتيازها إلى رحاب (الملأ)(9 ).

ولا نرى أن نفرغ من مصطلح الخطاب دون التعرف على ما يعنيه «الخطاب الإسلامي»، وفي هذا الصدد يستوقفنا تعريف الأستاذ الطيب برغوث الذي يرى أنه يمثل «مجمل الفعاليات الاتصالية الإسلامية _ من وسائل وأساليب ومناهج ومواقف _ المجندة والمستخدمة في العمليات التغييرية المخططة أو العفوية ، الرسمية أو الشعبية، الفردية أو الجماعية ، الهادفة إلى نصرة الإسلام كمنهج ، وكتاريخ وكحضارة وكمستقبل .. والتمكين له في الواقع الإسلامي أولاً ، والواقــع الإنساني ثانيا»(10).

رغم أننا نسجل على هذا التعريف ملاحظات كثيرة، إلا أننا سنكتفي هنا باثنتين، فمما يلاحظ له توسيع نطاق الخطاب الإسـلامي ؛ ليشمل إلى جانب (الحقل الاجتماعي / الواقع الإسلامي) ، المجتمع الإنساني كله ، وهو ما ينسجم مع مضمون الرسالة التى يعبر عنها الخطاب الإسلامي، أي البعد العالمي فيه، فأينما حل هذا الخطاب فسيكون في حاجة _ بالضرورة _ لحقل اجتماعي تعمل دلالته فيه، فتتسع هذه (الحقول الاجتماعية ) سعة الواقع الإنساني العالمي (المخاطب). .

أما ما يلاحــــــظ عليه فهو اعتباره (الوسيلة) و(الرسالة) _ ضمن فعاليات الاتصال _ شيئًا واحدًا . وأنا أميل إلى الفصل بينهما ؛ لأن الواقع كذلك ، فالوسيلة مشاع للاستعمال من طرف الخطاب الإسلامي وغيره من الخطابات. وكذلك حتى تبقى الوسيلة حيادية وجب اعتبار هذا الفصل .

ب _ التغيير : إذا استقام لنا مفهوم الخطاب على نحو ما بينا يتضح أن غاية الخطاب إحداث الأثر ، وحصول التغيير، فما التغيير إذن؟

لاشك أن بحوث «التغيير» من أوفر البحوث في علم الاجتماع ، ويرد التعبير عنه إما بـ «التغيير / التغير الاجتماعي» وبـ «التغيير / التغير الثقافي» وسنكتفي بما نراه مناسبًا لتحديد مفهوم التغيير الذي يخدم موضوعنا ، فنسجل الملاحظات الآتية بين يدي تصنيف مرادنا بالتغيير وتعريفه في هذا البحث :

(1) ما تجمع عليه البحوث في علم الاجتماع من أن المجتمعات مهما بدت لنا راكدة بسيطة ، فإن التغيير يطالها على نحو ما ، « فالمجتمع كمجموعة معقدة من العلاقات الاجتماعية لا يبقى كما هو، إنه في حالة دائمة من الحركة والتعديل الذي يتم في طبيعته ومضمون وبناء الجماعات والنظم الاجتماعية ، وفي العلاقات بين الناس والجماعات والنظم خلال تتابع الزمن يكون ميدان الدراسة في التغير الاجتماعي ؛ ولذلك يجب أن نفكر في هذا التغير على أنه عملية اطرادية مستمرة»(11).

(2) نظرًا لأن أثر التغيير الذي يحدث في المجتمع - عميقًا كان ذلك الأثر أو سطحيًّا - فهو في الحقيقة ليس سوى مظهر من مظاهر التغير الذي تلبسته ثقافة المجتمع ؛ لهذا تتحدد العلاقة بين «التغير الاجتماعي» و « التغير الثقافي» على أنها علاقة الجزء بالكل ، « فالتغير الإجتماعي جزء من موضوع أوسع هو التغير الثقافي»(12) .

(3) إن التغير الثقافي يؤثر بقوة وعمق في معظم جوانب المجتمع ، « فإذا حدث تغير إيديولوجي فإنه يؤثر في النواحي الفكرية والمذهبية والنظم السياسية والاقتصادية والتربوية والفكرية وما إليها»(13).

(4) أهم العوامل الفاعلة في إحداث التغير الثقافي ، وحركيته _ والمرجعية دائمًا بحوث علم الاجتماع الثقافي _     هي : [ العلم _ التكنولوجيا  _ الديمقراطية / الحرية السياسية _ القومية _ الثـورة _ العـــامل البيئي _ الإيديولوجيا](14).

وجدير بالملاحظة أن تحديد مضامين هذه العوامل ، وضبط آليات، ومناهج فعاليتها في المجتمع الإسلامي سيضفى عليها طابع الخصوصية المجتمعية والحضاريـــة ، دون إغفــال العـامـــل (العقيدي) و هو أهم وأقوى العوامل في المجتمع المسلم.

(5) وبعد ، فقد أصبح من اليسير تصنيف «التغيير» الذي يدور حوله موضوع الدراسة ضمن « التغيير الثقافي» في جانبيه : العقيدي والفكري على وجه التحديد / والأصالة . وأحسب أن بمقدار وقوفنا عند هذا الخطاب الباديسي بمقدار ما يكشف لنا منهج التغيير عن ملامحه وخصائصه التصورية والفكرية ؛ باعتبار أن المسافة بين (الفكر) و (العمل / الممارسة) عند الإمام لا تكاد تذكر ؛ فهو من ذلك النوع من الرجال الذين يطابقون أفعالهم بأقوالهم؛ حتى لتكاد تقرأ فعله من قوله ، وقوله من فعله ولا عجب في ذلك من رجل يستنبط من قوله تعالى: {وَجَعَلْنَا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَتَصْبِرُونَ وَكَانَ رَبُّكَ بَصِيرًا}(15) ما يأتي : «علمنا من هذه الآية وغيرها، أن الله تعالى يمتحن عباده ويختبرهم؛ ليظهر حقائقهم فلنقتد به تعالى في هذا، فنبنى أمورنا على الامتحان والاختبار ، فلا نقرر علمًا ، ولا نصدر حكمًا إلا بعد ذلك ، وخصوصًا في معرفة الناس والحكم عليهم ، فالظواهر كثيرًا ما تخالف البواطن، والتصنع والتكلف قلما يسلم منهما أحد، ولا يعصم من الخطأ من هذه المغلّطات كلها إلا الامتحان والاختبار، فاعتصم بهما »(16).

(6) أما المراد بالتغيير هنا فهو إحلال جديد يتوفر على مقومات صلاحيته محل قديم استنفد مبررات بقائه، سواء كانا (القديم والجديد) كليًّا أو جزئيًّا ، تبقى الإشارة إلى أن « خطاب التغيير في الإسلام له خصائصه وقواعده ومميزاته ، وهو خطاب يتجه إلى الأمة قاطبة لتحسن إلى نفسها وتحسن إلى غيرها، ويحذر خطاب التغيير الإسلامي من دعاوى الإصلاح والتغيير التى لا تلتزم بمنهجيته»(17) .

من خصائص الخطاب الباديسي:

سأبتعد في تحليل هذه الخصائص وتقييمها عن الخوض في ناحية الممارسة ما وسعنى الأمر، إلا ما اقتضته الإشارة أو التوضيح الضروري، كما أنها ليست خصائص خطابه الوحيدة، فهي _ لهذا _ لا تأتي في الدراسة على سبيل الحصر، فمن خصائص الخطاب الباديسي التغييرى الإسلامي _ إذن _ دون التزام معيار في ترتيبها :

1_ الروحية

2_ السلفية

3_ التواصل الحضاري

4_ التدرج

5_ خطاب الوحدة

6_ الإنسانية .

أولا : خاصية الروحية : ليس لخطاب تغيير ينتسب إلى الإسلام ما يفاخر به أنواع الخطاب الأخرى إن هو استغنى عن الاصطباغ بهذه الخاصية التى هي في حقيقتها جوهر الإسلام ، وضمان ديمومته على الزمان، وثباته على الأرض ، وحفه بالأشعة النورانية التى تجذب التائهين إليها، قال الله تعالى : {اللَّهُ نُورُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَة الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لاَ شَرْقِيَّةٍ وَلاَ غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَضْرِبُ اللَّهُ الأَمْثَالَ لِلنَّاسِ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيم}(18) . لهذا يتقرر تعذر إضفاء صفة «الإسلامية» على أي خطاب أو مذهب من مذاهب التغيير يتجاوز الخاصية المذكورة .

بطلبنا لهذه الخاصية ضمن الخطاب الباديسي(19) أمكننا تحليلها إلى ما يأتي:

عناصر خاصية الروحية في الخطاب الباديسي :

هي [الإيمان / تقوى الله / صحة الاعتقاد/ الباطن أساس الظاهر / المواظبة على الطاعات / التفاعل مع الطاعات والعيش في ظلها، أنسًا وخضوعًا / سلامة الفطرة / اتباع القرآن / استواء الخلوة والجلوة / العبودية لله تعالى / الخوف والرجاء] .

قد لا تستوعب هذه العناصر كل مكونات بناء خاصية الروحية في الخطاب الباديسي، لكنها توفر للدارس أساسًا يقترب من اكتمال بنيانها في سياق التماسه ملامح وخصائص هذا الخطاب، ثم هي _ بعد ذلك _ تمثيل حي للحشد الروحي الذي كانت تروم دلالات الخطاب إعادة إحيائه واستنباته في الحقل الاجتماعي للتغيير. ولكي تزداد مساحة إدراكنا لها وضوحًا -نطلب من الخطاب ذاته- مدانا بدورها في إحداث التغيير؛ فمنها ما هو سبب للتربية والترقي من دركات السوء والشر إلى درجات الخير والصلاح، ومنها ما هو تزكية وطهارة ونماء للنفوس، فبها يمكن لأصول الخير، وتقتلع جذور الشر،       وتقبر بواعثه.

إن تجلى الخطاب في هذه الخاصية إذا عبر عن تلك «المرحلة الروحية التى تؤدى إلى تغييير الفرد، إلى جانب أنها تؤدى إلى أول تغيير يمكن أن تتعرض له القيم الاجتماعية»(20) ، فإنها  تعطى إمكان التغيير _ كذلك _ معنى الديمومة والصلاحية لتجاوز مفهوم « المرحلة الروحية» إلى حالة ( الديمومة الروحية) وشرط تحقق ذلك  بالمراجعة والتعهد والتذكير .

ثانيًا : خاصية السلفية : أثار مصطلح «السلفية» ولا يزال يثير جدلاً طويلاً لا يكاد ينتهى إلى قرار، سواء في دائرة تيارات ومذاهب التغيير الإسلامي، أو في نظرة التيارات غير الإسلامية لهذه التيارات على الإطلاق .

أ _ ويمكن رصد المواقف الآتية تجاه مفهوم هذا المصطلح :

(1) السلفية صفة لاتجاه معين في حركات التغيير الإسـلامي ، أبرز ممثليه (الوهابية _ المهدية _ السنوسية) ، وقد اختار الدكتور عبد المجيد النجار هذا الوصف فأطلقه عنوانًا على الحركات المذكورة فسمى مشروعها بـ ( المشروع السلفى) من بين المشــــاريع الأخرى : (المشروع السلفى _ المشروع التحرري _ مشروع الإحياء الإيماني الشامل)(21) .

(2) السلفية مسلك معين في الرجوع إلى ما كان عليه السلف الصالح في الاعتقاد وبعض فروع الفقه والسلوك.

(3) السلفية صفة (سلبية) توصف بها كل دعوات الإحياء الإسلامي بلا استثناء على مدار الزمن الذي استغرقته هذه الدعوات ولا تزال .

(4) السلفية واحدة من مجموعة صفات وخصائص حركات الإحياء والتجديد الإسلامي .

ب _ فبأي هذه المفاهيم والمواقف يمكن أن نلحق خاصية (السلفية) في الخطاب الباديسي؟ وهل هي ذات صفة مفردة جامعة؟ أم يتأتى تفتيتها إلى جزئيات ومميزات؟ نتريث في الإجابة عن هذه الأسئلة ريثما نجتاز المراحل الآتية:

(1) التعريف المختار للمصطلح

(2) عناصر ومكونات خاصية السلفية في الخطاب الباديسي طبعًا .

(3) مستويات أثرها التغييري .

(1) التعريف : اخترنا تعريفًا مشتركًا عامًّا بين أشكال مفاهيم المصطلح (السلفية) داخل تشكيلات وحركات الإحياء الإسلامي .

فالسلفية «نسبة إلى السلف ، وهم الجيل الإسلامي الأول من الصحابة خاصة ، ومعناها الاقتداء بالسلف والالتزام بفهمهم للدين صافيًا من مصادره الأصلية : القرآن والحديث ، والرجوع عن كل ما عسى أن يطرأ من الابتداعات الطارئة بالزمن  مخالفة لأصول الدين إلى ما كان عليه السلف من الدين »(22) .

فلا تكاد تعثر على من يشذ عن فهم «السلفية» بما ورد به التعريف المذكور إلا من لا يعتد بشذوذ فهمه _ إن وجد _ من داخل تيارات الاتجاه الإسلامي ، فمنطلقاته جميعًا تنتسب إلى السلف مصدرًا واهتداء واقتداء ، « ورجال الإصلاح في الإسلام .. يدعون إلى السلفية ، أي إلى الاقتداء بـ (السلف الصالح) ، فالسلفية تحاول بدورها بعث الإسلام بالرجـــوع إلى المنابــع الأولى»(23) .

(2) عناصر خاصية السلفية في الخطاب الباديسي(24) :

تسمح لنا مكونات وعناصر خاصية السلفية كما تتجلى في خطاب الإمام بتصنيفها ضمن ما يمكن اعتباره تعبيرًا عن نوعين من المرجعية، مرجعية فكرية عقائدية ، ومرجعية سلوكية وعملية وتربوية تعليمية ودعوية.

(أ) المرجعية الفكرية : وتشتمل على المكونات الآتية :

[القرآن الكريم والسنة] .

(ب) المرجعية السلوكية والعملية والتربوية التعليمية والدعوية :

وتحتوى على العناصر الآتية :

[ سلوك السلف الصالح / الدعوة لما كانوا عليه من اتباع / الاستدلال بأدلة القرآن والسنة / عودة للتفقه في القرآن والسنة ] .

(3) مستويات أثرها التغييري:

يمكننا أيضًا تصنيف الأثر التغييري للخطاب في هذه الخاصية إلى مستويات:

_ مستوى روحي ذوقي :

ويتمثل في الآتي : [ إذاقة المسلمين حلاوة القرآن والسنة / رسوخ الفتاوى والمواعظ من القلوب وأثرها في النفوس].

_ مستوى فكرى تأملي علمي :

ويشمل : [ تقريب المسلمين إلى دينهم / تعريفهم منزلته / ذكره الدائم / نيل العلم والحكمة من قريب / دينونة الأمة في بقائها للعقيدة / إنقاذ العالم بالقرآن الكريم] .

_ مستوى سلوكي علمي :

ويشمل: [ شفاء العقائد والأخلاق التى هي أساس الأعمال والمجتمع بالقرآن/ طلب الشفاء في غير القرآن يزيد المجتمع مرضًا / في الرجوع لما كان عليه السلف من معالجة الأدواء  بمعالجة أسبابها] .

جـ _ بعد هذه التقسيمات والاستعراضات نورد جملة من الملاحظات تحمل في طياتها الإجابة عن الأسئلة التى طرحناها سابقًا .

(1) يتكامل مفهوم السلفية ومضمونها في الخطاب الباديسي باجتماع عناصر خاصية السلفية مع مستويات أثرها التغييري .

(2) من الظلال التى يلقيها الخطاب الباديسي على هذه الخاصية تميزها بالمميزات الآتية :

عصمة المرجعية الفكرية وقدسيتها _ نموذجية ومثالية القدوة _ حيوية واستمرارية القابلية للإمداد الدائم _ القابلية للامتداد الأفقي ( زمانا ومكانًا) وعموديًّا ( في الفكر والنفس والذوق والسلوك والعمل) .

3_ السلفية عودة لنقطة الإنطلاق السليمة للطريق المستقيم.

4_ السلفية _ بهذا المفهوم _ تعد خاصية من خصائص الأمة الإسلامية في فترات نهوضها على طريق التحضر الإسلامي ، لا مجرد وصف يلحق باتجاه فكري عقائدى أو مذهب في التعرف على أحكام في فروع العبادات وبعض مظاهر السلوك ، ومسلك معين في فهم النصوص والإفتاء .

5_ فهي تمدنا _ إلى جانب نزعة الرجوع إلى منهج السلف الصالح، فهمًا للدين والتزامًا بالتأسي والاقتداء _ ببعض وسائل وأشكال التطبيق الجارية في الحياة، الأمر الذي يدعونا للتعقيب على ما ذهب إليه الدكتور النجار في معرض استنتاجه من التعريف السابق الذي أوردناه له بما يردّ به على الذين يوجهون السلفية وجهة خاطئة ، فيقول: « ومن البين أن السلفية بهذا المعنى [الوارد في التعريف] تتعلق بفهم الدين في بعده العقدي خاصة ، ولا تتعلق بالشكل التطبيقي الذي تجرى عليه الحياة في وسائل تنفيذ التدين كما يريد البعض أن يفسـروا به السلفية جهلاً أو تشهيرًا»(25) .

حقًّا إنها لا تعطينا كل أشكال التطبيق ، ولا تتيح لنا كل وسائل تنفيذ التدين ؛ لأنها خاصية ضمن منظومة خطاب تشكل منهجًا ، لكنها من المؤكد _ كما يتبين لنا من تحليل ورودها في الخطاب الباديسي _ لا تقصر عن إمدادنا على الأقل بروح تلك الوسائل . ولعلى ألتمس في التوضيح الذي أورده الدكتور النجار عن الدكتور محمد فتحى عثمان - وهو ما تنسجم معه الملحوظة (د) السابقة - سندًا فيما أقول، « .. فالدعوة إلى السلفية دعوة متجددة دومًا ، وهي على ذلك دعوة ملائمة لعصرنا ولكل عصر ؛ لأنها تربط المؤمنين بالينابيع الصافية ، وتسقط عنهم رواسب القرون والأجيال من ابتداع البشر ، وتعيدهم إلى كتاب الله المحكم المبين وسنة رسوله البيضاء النقية»(26) .

(6) أما الرأى الذي يعتقد صاحبه أنه يدافع عن خصوصية نزعة (السلفية) ومفهومها في بلاد المغرب العربي ، واختلافها في ذلك عما هو مطروح في الشرق العربي ؛ فيفسر الرجوع إلى سيرة السلف الصالح باستلهام معنويات الفترات الزاهرة من تاريخنا العربي الإٍسلامي ، واستعادة الخلفية النضالية التى سادت تلك السيرة ، وأن مضمون رسالتها كان ليبراليًّا تحديثيًّا تمامًا(27) . فهو اتجاه ورأى يحجم من سعة مفهوم السلفية ، فالاستلهام حاصل لا محالة، لكن اتخاذ السلف مرجعية _ على النحو الذي مضى بيانه _ ليس فحسب في (المعنويات) _ هذه اللفظة الفضفاضة _ ولكن أيضًا في المنهج والمنطلق ومعالم الطريق .

أما نسـبة مضمون رسالتها إلى (الليبرالية) و (التحديث) فتلك أزمة المصطلح ، التى لا مخرج لنا منها إلا بالإبداع لمعجمنا المصطلحي في شتى المعارف والمجالات ؛ « فالقاعدة الأساسية لعلاج هذا الخلل ألا نترجم على الإطلاق ، وإنما ننظر للظاهرة ذاتها.. ندرس المصطلح الغربي في سياقه الأصيل دراسة جيدة ونعرف مدلولاته حق المعرفة ، ثم نحاول توليد مصطلحات من داخل المعجم العربي .. إننا سنولد أو نصك مصطلحًا يصف ما نرى نحـــن ، ويفسره من وجهة نظرنا»(28) .

ثالثًا : خاصية التواصل الحضاري :

أ _ يستعمل الخطاب الإسلامي المعاصر تعبيرات ومصطلحات مختلفة (التلاقح الحضـاري) و(التفاعل الحضاري) و(التواصل الحضاري) ؛ دلالة على استفادة المسلمين من الغرب بجني ما في مدنيته من خير ، وطرح ما فيها من شر ، مع شعورهم بما يمثله هذا (التلاقح أو التفاعل أو التواصل الحضاري) من كونه سنة مطردة في علاقات الحضارات الكبرى ببعضها ، «فالتقاء الحضارات _  وهو معلم من معالم التاريخ الحضاري للإنسانية _ وتفاعل هذه الحضارات عندما تلتقي ، هو قــدر لا سبيل إلى مغالبته أو تجنبـه»(29).

ولقد تفاوتت التقديرات في هذا الخطاب، لما تحتمله مساحات هذا الأخذ والطرح من سعة أو ضيق . فضلاً عن تباين بينهم في تعمق الظاهرة وسبر أغوارها والتماس قوانينها، بل نقول: وتحويلها إلى معرفة وعلم، على المسلمين المعاصرين التأسيس لمنهجه واكتشاف موضوعاته، وقد بدأ تجسيد ذلك في مشروعات المعهد العالمي للفكر الإسلامي وإسلامية المعرفة ، وغنى عن التذكير ما لطبيعة كل مرحلة من المراحل التي تفاعل معها الخطاب الإسلامي من أثر سببـي في التباين المنوه به سابقًا . ولكن ما لا خلاف ولا تباين فيه ضمن هذا الخطاب أن لهذا التفاعل والتواصل الحضاري وجهين : التواصل الإيجابي _ التواصل السلبي .

وفي مضمار هذا التقسيم نستعرض خاصية (التواصل الحضاري) في الخطاب الباديسي(30) :

(1) التواصل الإيجابي :  ويشمل [الأمة الحية التي تتفاعل مع عصرها وتأخذ من حضارته ما يناسب شكل بنائها الحضاري المستقل/ الاطلاع على آداب الغرب في لغاتها / استفادة المسلم من العصر في الفكر والسلوك / طلب العلم بكل لسان ومن كل أحد/ سريان روح الوطنية في الشرق من آثار الاتصال الحضاري مع الغرب الذي بلغت فيه أوجها / من كمال الأمة الاستفادة من تراث الإنسانية المشترك في العلوم والفنون/ نقبل ونطرح من أخلاق الأمم/ الوسط العدل مذهبنا / لسنا من الجامدين ولا مع المتفرنجين / تعاون الإنسانية في خدمة العلم والمدنية / معرفة الغرب من الداخل واستثمار مدنيته بواسطة تعلم لغاته ، التى تعد مقياسًا للتخلف أو اللحاق بالركب / سعادة البشرية بإنصاف الحضارات بعضها بعضًا / الاقتداء بالغرب في أسس مدنيته (العمل المثمر ـ العمل المستمر ، النظام الشامل ، التهذيب العام، حرية التفكير والقول والعمل) تبنى شعارات : الحرية، الأخوة ، المساواة ؛ لأن أصولها شيدها الإسلام ] .

(2) التواصل السلبي : [الافتتان بالغربيين في كل شيء حتى معايبهم / فتنة حالنا للغربيين عن الإسلام (وهما حالتان يمكن تسميتهما بالفتنة المتبادلة)/ التعصب مانع للتواصل] .

(3) أثرها التغييري : التفوق والبروز والتأثير في الواقع / اكتساب مظهر وصفة «العصرية» في الفكر والعمل والذوق / دفع خطر الاندثار بسبب التوحش / استيقاظ الشعور الوطنى / محافظة الأمة على حسن ما عندها والاستفادة من حسن غيرها / الوسطية].

ب _ ملاحظات واستنتاجات:

(1) يمثل هذا الخطاب في مجمله وتفصيله _ على السواء معالم ورءوس موضوعات تصلح للاهتداء بها في تقصى تفاصيل موضوع (التواصل الحضاري) من حيث رسم مناهج التواصل مع الغرب وحضارته ، وأصولها وأدواتها المعرفية ووسائلها المناسبة؛ إذ «نحن بحاجة إلى دراسات على درجة كبيرة من العمق لفكرها [الحضارة الغربية] الفلسفي ، ولنظرياتها العلمية ، ونظمها القانونية والحقوقية ، وأنساقها الأخلاقية والاجتماعية»(31) .

ولم يكن _ بداهة _ مطلوب شيئًا من ذلك كله أن يحققه لنا الخطاب الباديسي، بسبب مقتضى المرحلة ؛ وهمّ الانشغال ، وجسامة الخطب الذي آل إليه وضع هذا الشعب آنئذ ؛ مما لا يتيح للذهن الانصراف للتفكير فيه، فضلاً عن مباشرته . فالمسئولية تقع على الأجيال اللاحقة .

(2) يمثل  الخطاب الباديسي الصياغة النموذجية لتفاعل الأصالة مع المعاصرة ، بما يحفظ على الأمة خصوصيتها وذاتيتها دون حرمانها من مكتسبات العصر ومعارفه ، نزولاً عند قانون (المشترك الإنساني) و( الخصوصية الحضارية).

تأمل في هذه النقطة قوله : « إنما ينفع المجتمع الإنساني ويؤثر في سيره من كان من الشعوب قد شعر بنفسه فنظر إلى ماضيه وحاله ومستقبله ؛ فأخذ الأصول الثابتة من الماضي ، وأصلح شأنه في الحال ، ومد يده لبناء المستقبل؛ يتناول من زمنه وأمم عصره ما يصلح لبنائه، معرضًا عما لا حاجة له به، أو ما لا يناسب شكل بنائه الذي وضعه على مقتضى ذوقه ومصلحته»(32) .

(3) حمل هذا الخطــاب الدعوة إلى (تعارف الحضارات) وهو مفهوم يرجي بلوغه إثر التعمق في (حوار الحضارات) أي يمثل مرحلة متقدمة في هذا الحوار ، «فيستتبع معه مفاهيم الانفتاح والتواصل والسلام ومد الجسور ، وعدم الانغلاق والقطيعة والكراهية ، التى هي شرائط التعارف من جهة تحققه ، وهناك ما يترتب عليه ، من جهة المعطيات والمنافع. وهنا تبرز مفاهيم التعاون والترابط والتبادل»(33) وهي معان ورد كثير منها _ كما نلاحظ _ في الخطاب الباديسي ؛ مما يؤهله ليكون من رواد هذا الميدان ومؤسسي الدعوة إليه.

(4) إن التوقف بهذه المعالم والوصايا  والحكم في خاصية التواصل الحضاري عند الحدود التى ورد بها خطاب ابن باديس ، قد يكون مدعاة للانفلات بها إلى غير مقصده منها ، فلئن جاءت لتتنزل على واقع معين في سياق رؤية إسلامية عامة ، وروح إسلامية سمحة صادقة ، فقد تتناولها أيدي التفلت والجنوح صوب التغريب ، فتجتثها من أرضها الحضارية ملوحة بها مخادعة باسم العصرنة في الفكر والسلوك واللسان .

والعاصم من هذا المنزلق والتبديل، التأصيل الإسلامي _ كما قلنا _ للتعامل المنهجي العلمي مع الغرب وحضارته ، موازاة مع الإحياء والتجديد والاجتهاد من داخل موروثنا الحضاري .

رابعًا : خاصية التدرج:

أ _ لقد أسس القرآن الكريم ومسار الدعوة على عهد حاملها ومبلغها الأول محمد بن عبد الله صلى الله عليه وسلم لهذه الخاصية؛ فلولاها لوجد كثير من الناس صعوبة في إدراك وفهم الحكمة من نزول القرآن الكريم منجمًا ، والفصل في الأمر الواحد على تدرج في بعض الأحكام . فمن رحمة الله تعالى أن جعل رسالته الخاتمة للبشر متسمة _ في التشريع _ بهذه الخاصية ؛ لتكون ملاذًا للدعاة والمصلحين والمجددين ، يباشرون تغيير واقعهم وفقًا لمقتضاها ، ولهذا كان «التزام  سياسة المرحلية والتدرج في تغيير مجتمع ما من وضع سيء إلى وضع أفضل شرط ضروري لنجاح عملية التغيير . وأن الاستعجال في تسوية الأوضاع الشاذة التى يعاني منها المجتمع، ستقود حتمًـــــا إلى الخيبة والخسران»(34) .

ب _ ونود أن نسجل بين يدي الحديث عن هذه الخاصية في خطاب الإمام ابن باديس _ رحمه الله تعالى _ ملاحظة مفادها أن التماسها في منهجه العملي التطبيقي أيسر من طلبها في خطابه ، مما عسر من مهمتي في تقسيمها على النحو الذي انتهجته بالنسبة لرصيفاتها من خصائص خطابه؛ لهذا اخترنا أن نورد ما استخلصناه منه في نقاط، على أن نتعقبها بما نراه مناسبًا من نصوص متفرقة توحي بسريان هذا البعد في مضمونها وغاياتها .

(1) لقد ورد لفظ (التدرج) في الخطاب الباديسي حينًا، وهو ينصح بنشر العلم والعقيدة الصحيحة ، فيحصل بذلك الإقلاع عن الضلال والفساد ، قال : « فليحذر قراؤنا من أن يتوجهوا بشيء من دعائهم لغير الله، وليحذروا غيرهم منه . ولينشروا هذه الحقائق بين إخوانهم المسلمين بما استطاعوا عسى أن ينتبه الغافل ، ويتعلم الجاهل ، ويقلع الضالون عن ضلالهم ، ولو بطريق التدريج ، وبذلك يكون قراؤنا قد أدوا أمانة العلم ، وقاموا بفريضة النصح وخدموا الإسلام والمسلمين»(35) .

(2) كما يرد بصدد الاستبشار بما بدأت تلوح به بوادر يقظة الأمة الإسلامية ؛ قال: « إن المطلع على أحوال الأمم الإسلامية يعلم أنها قد شعرت بالداء ، وأحست بالعذاب ، وأخذت في العلاج، وإن ذلك -وإن كان يبدو اليوم قليلاً- لكنه بما يحوطه من عناية الله ، ومايبذل فيه من جهود المصلحين-سيكون بإذن الله كثيرًا»(36).

فحصول هذا التماثل للشفاء وما يؤمل منه من مزيد يحصل _ يقينًا بإذن الله تعالى _ على التدريج.

(3) ويختار التدرج مسلكًا في توجيه التربية والإرشاد ممن يباشرهما ، فيقول: « هكذا على المرء أن يبدأ في الإرشاد والهداية بأقرب  الناس إليه ، ثم مَن بعدهم على التدرج »(37) .

جـ ـ وضوح خاصية التدرج في هذه النصوص ، يغرينا  بالتماسها في مواطن أخرى ، من منهج وخطاب التغيير الباديسي . لعل من أهم هذه المواطن ما يقع عليه الباحث _وهوكثير _ في خطاب الإمام من لغة وعبارات الولاء لفرنسا، والارتباط بها ، وتمجيد بعض مواقفها ، ومبادئ ثورتها ، وذكر أفضالها على الجزائر ، والشمال الإفريقي ، وما في معناها . ففهم هذا الخطاب على وجهه الصحيح لا يمكن أن يتم _ في تقديرنا _ إلا عبر مدخلين يميزان رؤية الإمام البعيدة المدى  في التغيير .

المدخل  الأول :هو خاصية التدرج؛ إذ « لم يكن القيام بأي عمل في النظام السياسي أو الاجتماعي ممكنًا قبل تحرير الضمائر ، وكل مذهب الإصلاح الجزائرى الذي تجده في ابن باديس كان لابد أن يصدر عن هذه الضرورة أو عن هذه المقتضيات»(38)

أما المدخل الثاني : فيتمثل في نظرة الإمام إلى الاستعمار _ كما أميل للاعتقاد _ على أنه حدث عارض؛ فلابد أن يأتي اليوم الذي يزول فيه هذا (الحدث العارض) ، وبعد ذلك في ظل الوضع الجديد تكون الحاجة ماسة لبناء رؤية  إسلامية حضارية لعلاقات الإسلام والمسلمين ودولتهم بالغرب صاحب الدورة الحضارية الغالبة .

إن الركون لهذا التفسير يسمح لنا بوضع خطاب الإمام في إطاره المناسب. كما يكشف لنا عن ملمح من ملامح عبقرية هذا الرجل الرباني الفذ ، بخلاف ما لو حصرنا النظر للمسألة في زاوية سياسية ضيقة لم يرض الإمام أن يحصر نفسه فيها ، فسنظلمه حتمًا لو جردناه من شخصية العالم المثقف ، وأثبتنا له _ فحسب _ شخصية الرجل السياسي في أضيق نطاق .

والأدلة على ما ذهبنا إليه مما يستخلص من خطابه كثيرة ، منها قوله: « إن الأمة الجزائرية ضعيفة ومتأخرة، فترى من ضرورتها الحيوية أن تكون في كنف أمة قوية عادلة متمدنة لترقيها في سلم المدنية والعمران ، وترى هذا في فرنسا التى ربطتها بها روابط المصلحة والـوداد ، فنحن نخدم للتفاهم بين الأمتين »(39) فينبغي الانتباه إلى لغة الخطاب في قوله: (الأمة الجزائرية) مقابل قوله: ( أمة قوية [فرنسـا]) وقوله: (ربطتها بها روابط المصلحة والوداد) ، فكلها تشى بظرفية المرحلـــــة والوضع (الظاهرة الاستعمارية) .

والحقيقة أن الاسترسال مع النصوص وخطاباتها تكشف عن مواطن كثيرة للاعتبار من قصد التدرج في منهج التغيير الباديسي .

خامسًا : خاصية خطاب الوحدة :

تطلعنا هذه الخاصية على تمركز فكرة «الوحدة» في موقعها المناسب من الساحة الممتدة للخطاب الباديسي ، فتتجلي من خلاله في سرابيل شتى، تنم عن تنوع الضرورة والتكامل ؛ فتخاطبنا طورًا في صيغة عقائدية ، وطورًا في صيغة أخلاقية ، وطورا آخر في صيغة شعورية ، دون أن تقصر عن الظهور في صبغات اجتماعية وسياسية . وهو ما ينسجم مع الوظيفة التغييرية التى نذر لها الإمام وجمعية العلماء المسلمين الجزائريين جهودهم ، فاستحق خطابهم الوصف بأنه « .. قد وصل أفقيًّا وعموديًّا إلى مختلف الطبقات الاجتماعية أينما كانت»(40) ؛ ذلك أن الخطاب المستعمل لم يكن « الخطاب السياسي الذي لا يفهمه كل الناس ، ولا الخطاب المادي الذي لا يهم كل الفئات ، وإنما .. الخطاب العقلي والروحي ( الدين _ اللغة _ التاريخ _ التعليم ) الذي لا يستغني عنه أحد في المجتمع »(41) ، فكان له بذلك أن يوحد « البلاد فكريًّا وروحيًّا بعد أن مزقهــا الاستعمار شر ممزق»(42) .

أ _ مكونات عناصر خطاب الوحدة(43):

بعد استخلاصنا لهذه المكونات والعناصر من الخطاب الباديسي بإن لنا من الملائم تصنيفها إلى أسباب ومظاهر ودوائر .

(1) أسباب (عوامل ) الوحدة:

يمكن رصدها _ كما ورد بها الخطاب الباديسي _ وفقًا للتصنيف الآتي:

أسباب وعوامل تنظيمية :

وتحوى : [ أن تكون للمسلمين جماعة منظمة تفكر وتدبر] .

أسباب / أدوات الوحدة :

تشتمل على [معالجة الأمة بالكتاب والسنة وهدى السلف الصالح/ استوحاء الأمة لإسلامها وتاريخها وقلبها/ الاعتماد على الله ثم الاعتماد علىالنفس/ لا تكونوا كذوي فكرة يريدون تنفيذها، كونوا كدعاة للخير يحبون لغيرهم ما يحبون لأنفسهم/ المجادلة لبيان الحق] .

أسباب / مؤيدات :

وتتضمن : مؤيدات شعورية : تشتمل على : [ الأخوة المشفقة/ انطواء القلب علي الحب والحنان والنصح والإخلاص/ الشعور في المجادلة بأن الراد والمردود عليه أخوان يريد كل منهما أن يهدى أخاه إلى ما يراه خيرًا ويصرفه عما يراه شرًّا/ حفظ القلوب غير متصدعة بداء الفرقة/ القتال المعدود من أكبر المحرمات والمهلكات/ إذا لم يكن الاتحاد بالوازع الديني فليكن بوازع الألم والبؤس المشترك] .

مؤيدات عملية :

وتتضمن [القيام بالمقدسات والصلابة في الدين / الاقتداء بالأنبياء في التجاوز وطلب المغفرة من الله تعالى للمخالف / تجنب أساليب الشتم والإقذاع  / سلوك طريقة القرآن في المجادلة ببيان قول الخصم دون تعرض لشخصه مع إقامة الحجة التى ترده عليه مع حسن السلوك والقصد في الوصول إلى الحقيقة / تناسي الخلاف المفرق / النهوض لجلب المصلحة ولدفع المضرة / التآزر في العمل عن فكر وعزيمة / تقديم المصلحة العامة على المصلحة الخاصة واستعمالها في مصلحة عامة ] .

(2) دوائر الوحدة(44) :

جاءت هذه الدوائر كما هو متوقع في خطابه على الترتيب الآتي :

_ الدائرة الخاصة وتمثلها (جمعية العلماء المسلمين الجزائريين ) .

_ الدائرة الوطنية وتمثلها (الجزائر).

_ الدائرة الإقليمية وتمثلها (بلاد المغرب الإسلامي) .

_ الدائرة القومية وتمثلها (العروبة) .

_ الدائرة الإسلامية وتمثلها (البلاد الإسلامية والتواجد الإسلامي على إطلاقه) .

_ الدائرة الإنسانية.

ب _ الأثر التغييري لخاصية خطاب الوحدة :

تمثله العناصر الآتية : [نهضة المسلمين الإيمانية / المحافظة على الاجتماع والوحدة أصل لازم للإيمان وحفظ عمود الإسلام / التوحيد والاتحاد أصل السعادتين في الدنيا والآخرة / في نبذ الفرقة ظهور المسلمين بمظهر يليق بشرف دينهم وكرم عنصرهم والنهوض نهضة تحلهم محلهم اللائق بهم] .

ماذا _ بعد _ يمكننا استخلاصه وملاحظته على الخطاب الباديسي، ونحن بصدد خاصية مركزية _ كما قلنا _ من خصائص خطاب التغيير الإسلامي الباديسي ؟ أهي محض أمنيات وعواطف تتوق إلى المثال؟ أم هي مجرد فكرة لا تستند إلى تصور فلسفي ودليل عملي ؟ وما هي المرجعية الأولى والأساس لها؟ وما مقدار أثر الواقع بأحداثه الظاهرة والخفية في تكوينها وارتسام حلولها؟ وبإجمال هل هي كافية للبلوغ بها إلى بعض غاياتها على الأقل فيما هو متاح للإمام آنذاك؟

الحقيقة أن لا أحد يملك الإنكار على من يتصدون لممارسة التغيير حقهم في التخيل أو التطلع العاطفي بكل ما له صلة بما وطّنوا عليه أنفسهم من أسباب وأهداف ووسائل وأساليب التغيير ، فهذا حقهم الذي يستوون في قدر منه مع غيرهم ، ثم يزيدون عليهم بما لهم من المؤهلات ومواصفات الخاصة من الناس وذوي الرأى والكفاية المتميزة منهم . فللخيال والعواطف _ إذن _ حظ طيب في الكثير من إنجازات العلماء والمفكرين والساسة ؛ لهذا «يمكن القول : إن التمنيات الإنسانية تسهم بشكل ملموس في شحذ التغيير الاجتماعي . وعندما تكون تلك التمنيات متواضعــة ، فإن السلبية تسود»(45).

لقد دلّ الخطاب الباديسي على سمو وطموح عاليين في أمنياته التغييرية ، وليس أدل على ذلك من قوله :« إننى أعاهدكم على أننى أقضى بياضي على العربية والإسلام كما قضيت سوادي عليهما ، وإنها لواجبات .. وإني سأقصر حياتي على الإسلام والقرآن ولغة الإسلام والقرآن، هذا عهدى لكم. وأطلب منكم شيئًا واحدًا وهو أن تموتوا على الإسلام والقرآن ولغة الإسلام والقرآن»(46) .

أما المثال الذي يتوق للأمة بلوغه ، فلم يكن من قبيل إيجاد مالم يوجد ، بل هو في أدنى ما انتهى إليه من صور في التاريخ الإسلامي القريب ، الخلافة العثمانية في أخريات أيامها ، فلم يكن بينه وبينها إلا سنوات قلائل ،  فجع فيها كفجيعة أي مسلم . فالتطلع إلى المثال هنا يغدو أمرًا مشروعًا لا تثريب على صاحبه ، بل ينبغي أن يكون أحد مراكز القوة في خطابه التغييري .

جـ _ أما ما أعد للفكرة من تصور فلا يخرج في مجمله عما أشرنا إليه سابقًا من كونها مجموعة من الأفكار والتوجيهات فيما ينبغي عمله لتحقيق الوحدة . فلا نكاد نعثر على برنامج معد مخطط ، بيّن الأهداف مرسوم الوسائل والأساليب ، فضلاً عن تفاصيل مخططة حسب مقتضيات كل مرحلة . فعلى الرغم من أن فكرة « التخطيط» لم تكن غائبة من خطاب ابن باديس ، وكذلك ممارسة للتغيير إلا أنها لم ترتق _ فيما يبدو _ إلى منهج يحكم التطور والترقي بفكرة الوحدة من مدرج إلى مدرج أرقي .

وإذا سمح الباحث لنفسه بمقدار من التوسع في هذا المقام من البحث عن بعض الأسباب التى يقدر  أنها كانت وراء غياب مثل هذا التصور الفلسفي والتخطيط العملي ، فسيجد من بينها أن الميدان الذى وطن الإمام نفسه للتغيير فيه _ خطابًا وممارسة _ هو الدعوة إلى الله تعالي العامة وفي ميدان التربية والتعليم ، واستعمال الصحافة (وسيلة الإعلام الحديثة المتاحة آنئذ) ؛ فنعثر في هذه وفي تلك على ما يدل على شيء من وضوح التخطيط ورسم المعالم لفلسفة للتغيير ، كقوله: « ومضينا على ما رسمنا من خطة، وصمدنا إلى ما قصدنا من غاية ، وقضيناها عشر سنوات في الدرس لتكوين نشء علمى لم نخلط به غيره من عمل آخر ، فلما كملت العشر وظهرت _ بحمد الله _ نتيجتها ، رأينا واجبا علينا أن نقوم بالدعوة العامة إلى الإسلام الخالص ، والعلم الصحيح إلى الكتاب والسنة وهدى السلف الصالح سلف الأمة ، وطرح البدع والضلالات ومفاسد العادات»(47) ، وكقوله : « إن الجمعية قد جرت على سنة الله في تطور الكائنات ، وقد كان من أطوارها طور للتمهيد ، وطور لإزالة الأنقاض ، وهي الآن في طورها الثالث، وهو طور البناء والتشييد ، ولكل طور من هذه الأطوار حكمه وحكمته، وظروفه وملابساته، وأسبابه ومقتضياته»(48). أوقوله: « لذلك يجب علينا وعليكم _ أيها الإخوان الكرام . [كتاب جريدة البصائر] _ أن نسير بالجريدة فيما يكتب فيها على خطة تتفق مع الطور الحاضر للجمعية وهو طور البناء والتشييد ، معتقدين أن حركة الإصلاح هي حركة فرغ من وسائلها وإعداد أذهان العامة والخاصة لقبولها ، ولم يبق إلا الإشغال بالمقاصد العملية، وأهمها توجيه الجهود كلها إلى بيان الحقائق العلمية والدينية بالدروس والمحاضرات والكتابة»(49) .

لهذا جاء تقديره _ كما يبدو _ أن الوحدة المنشودة إن هي إلا أثر لوسيلتي: التربية والتعليم من جهة ، والدعوة العامة والصحافة من جهة ثانية. وبالتالي فالتخطيط السليم للسير بهما في سبل مذللة سيمهد السبيل للوحدة . كما أعتقد أن هذا التفسير يسمح لنا كذلك بالقول : إن الإمام كان يدرك كون أسباب الوحدة لا يمتلكها طرف واحد مهما بلغ، سواء كان داخل الجماعة (جمعية العلماء المسلمين الجزائرين) أو داخل (الأمة الجزائرية) وهو التعبير الذي كان يصر الإمام على استعماله في عملية المناجزة الحضارية مع مسعى الاستعمار الاندغامي (التعبير دائمًا للإمام) والاندماجي _ فضلاً عن الأمة العربية والإسلامية . ولهذا نراه يسير في خطابه حول الوحدة سيره في القضايا الكبرى للأمة ، فيدعو إليها مع بعض ما لا يقوم ولا تتجلى من التفاصيل إلا به ، دون الانغماس في الانشغال ببناء فلسفي أو تخطيط عملى محكم .

ولكن لا ينبغي أن يفوّت علينا هذا الكلام ملاحظة ما كانت تجسده مواقف وشخصية الإمام من مظاهر الوحدة داخل الحركة (جمعية العلماء المسلمين الجزائرين) ، والوحدة الوطنية، كاشتراكه في وفد المؤتمر الإسلامي الجزائري، وانتخابه رئيسًا له سنة 1937م. غير أنه اعتذر عن هذه الرئاسة بأدبه الرفيع وبيانه السامق ومنهجه السديد الذي عبر فيه عن نزوله على رأي إخوانه في الجمعية بعد الرأي والمشورة ؛ فقال : « غير أننى لا يمكنني أن أعمل فيه إلا ما لا يشغلني عما أوقفت له حياتي من نشر الهداية الإسلامية واللغة العربية . وذلك هو ما لا يتجاوز مركز عضو عامل في اللجنة؛ [لجنة المؤتمر الإسلامي الجزائري] ولذا لما شرفني إخواني أعضاء اللجنة في غيبتي بمركز الرئاسة لم أبادر بالتلبية وأوقفت البت في الأمر على استشارة هيئات ارتبطت معها ارتباطًا فكريًّا وعمليًّا في خدمة الإسلام والعربية . فلما استشرتها كانت أغلبيتها الكبرى ترى رجحان القيام بالخدمة الدينية العلمية، وترى القيام برئاسة المؤتمر؛ مما يعطل الجانب الأكبر من هذه الخدمة فما وسعنى إلا قبول إشارتها والصدور عن رأيها»(50).

أما بالنسبة للمرجعية الأساس في تصور الوحدة وروحها وسلامة غاياتها فالتحليل السابق لخطابه يحصرها في القرآن والسنة وهدى السلف الصالح؛ إذ ليس هناك من عنصر من عناصر ومكونات خطابه إلا ويرتد إلى هذه المرجعية ؛ لهذا فكل محاولة لتصوير الوحدة الوطنية أو القومية - لدى الإمام- بعيدًا عن هدى المرجعية المذكورة ، فهي من باب تحريف الكلام عن مواضعه ، والذهاب به في غير مذهبه . فلقد امتزجت «الوحدة الوطنية» عند الإمام بمرجعية القرآن الكريم والسنة النبوية وهدى السلف الصالح إلى حد كانت تشرق فيه أنوار روحية باهرة ، وبوارق عقلية خارقة ، انظر إليه يسترسل مع خواطر تنثال عليه وهو يشرح معنى النفث في قوله تعالى {وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثَاتِ فِي الْعُقَد}(51) فيبين أنواعه وحقيقته وشواهده، وخلود القرآن على الدهر، فلا يستقل بتفسيره إلا الزمن، ليعرض بعدها الحديث الذي رواه مسلم عن عائشة رضىالله عنها : « أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان إذا اشتكى الإنسان الشيء منه ، أو كانت به قرحة أو جرح، قال النبي صلى الله عليه وسلم بإصبعه هكذا : (تعنى وضعها على الأرض كما فسرها سفيان بالعمل) ثم رفعها، وقال : «بسم الله تربة أرضنا بريقة بعضنا ليشفى به سقيمنا بإذن ربنا » ثم يقول: « ولو أننا عرضنا حديث التربة والريقة على طائفة من الناس مختلفة الأذواق منقسمة الحظوظ في العلم وسألناهم : أية علاقة بين الشفاء وبين ما تعاطاه النبى صلى الله عليه وسلم من أسبابه في هذا الحديث ؟ فما تراهم يقولون»(52) ؟ وفي هذا المقام يسوق (درس الوطنية العظيم) فيقول: «... ويقول ذوو المنازع القومية والوطنية ، ولو كانوا يدينون بالوثنية : آمنا بأن محمدًا رسول الله فقد علّم الناس من قبل أربعة عشر قرنًا أن تربة الوطن معجونة بريق أبنائه ، تشفى من القرح والجروح ؛ ليربط بين تربته وبين قلوبهم عقدًا من المحبة والإخلاص له ، وليؤكد فيها معنى الحفاظ له والاحتفاظ به ، وليقرر لهم من منن الوطن منة كانوا عنها غافلين ، فقد كانوا يعلمون من علم الفطرة أن تربة الوطن تغذي وتروي ، فجاءهم من علم النبوة أنها تشفى فليس هذا الحديث إرشاد لمعنى طبي ، ولكنه درس في الوطنية عظيم، ولو أنصف المحدثون لما وضعوه في باب الرقي والطب ، فإنه بباب (حب الوطن) أشبه .. ولقد زادنا إيمانا به بعد إيمان أنه يقول : « تربة أرضنا ، بريقة بعضنا . ولم يقل : تربة الأرض بريق بني آدم، فليس السر في تربة وريق ومرض . ولكن السر في أرضنا وبعضنا ومريضنا _ فهذه _ والله ربنا _ صخرة الأساس في بناء الوحدة الوطنية والقومية ، لا ما يتبجح به المفتونون»(53) .

أما أثر الواقع بأحداثه في ارتسام وتكوّن هذه الخاصية، في الخطاب الباديسي ، فلا نكاد نعثر على عنصر من عناصرها بعيدًا عن الواقع بأحداثه الخفية والجلية ، فمن مظاهر الوحدة في خطابه _ مثلاً _ ما مذهب إليه من أن منهج الجمعية في الإصلاح بوسعه أن يحتضن كل مذاهب الإسلام لو وجدت في الجزائر « .. فلو كان في الجزائر جميع مذاهب الإسلام لوسعتهم هذه الجمعية بعلاجها الناجح النافع _ بإذن الله _ للجميع»(54) فإنما هو أثر للممارسة الإصلاحية الدعوية التى كانت تباشرها جمعية العلماء المسلمين الجزائريين . كذلك إنكاره الشديد على “سلامة موسى” لما كتب ما يشير إلى إخراج الشيعة من جماعة المسلمين ، فقال : «.. ولكن قوله : والتشيع نوع من الانشقاق عن الإسلام ، هو الجدير بكل إنكار ، فقد حسب نفسه لما عرف شيئًا من تاريخ الفنون أنه عارف بمذاهب الإسلام ، فحكم على الشيعة بالانشقاق عنه. وهذا الكاتب لم يكفه أن ينفى _ في أكثر ما يكتب _ عن الإسلام كل ما يحسبه فضيلة ، حتى جاء يحاول أن ينفى عنه أممًا كاملة من أبنائه ، ونعوذ بالله من سوء القصد وقبح االغرور »(55) وقس على ذلك ماكان من خطابه أثرًا من آثار مناجزته للطريقة المنحرفة التى كانت أداة من أدوات الاستعمار في تخدير الشعوب وتنويمها ، بل هي ممثلة بحق لنوع من الاستعمار وصفه الشيخ الإبراهيمي (1889 _ 1965) بقوله: «... واستعمار روحاني يمثله مشائخ الطرق المؤثرون في الشعب والمتغلغلون في جميع أوساطه المتاجرون باسم الدين، المتعاونون مع الاستعمار عن رضى وطواعية ، وقد طال أمد هذا الاستعمار الأخير، وثقلت وطأته على الشعب، حتى أصبح يتألم ولا يبوح بالشكوى أو الانتقاد ، خوفًا من الله بزعمه »(56).

ولو انسقنا مع الاستدلالات لاكتشفنا لكل عنصر من عناصر خاصية الوحدة في الخطاب الباديسي أثر ما للواقع فيه .

هـ _ على الرغم مما سبق ملاحظته على هذه الخاصية في أن الأمام لم يتجاوز بها مستوى المبادئ والتوجيهات إلى مستوى التنظير والتخطيط الموسعين ، فإن ممارساته العملية التى هي مضرب المثل في القدوة والأسوة النموذجية كانت بحق مثالاً يحتذى في التأسيس العلمي التطبيقي لمنهج التربية على الوحدة ، وما أعظمه من عمل قد يفوق _ عند النظر المنصف _ التنظير والتخطيط النظري المجرد عن التلبس بالنماذج العملية السلوكية .

فخاصية «الوحدة » ترتد _ في مصدريتها _ إلى المبدأ الإسلامي الخالد «الأخوة الإسلامية» التى قررها المولى تبارك وتعالى في محكم التنزيل {إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَة}(57).

ونلاحظ في مضمون خاصية الوحدة في الخطاب الباديسي كيف كان يوجه لتجسيد مبدأ الأخوة ؛ مما يسمح لنا بالقول: إنه تمثيل حي لما تتحمله التربية الإسلامية من بعض مسئولياتها ، فمن «مسئولية التربية الإسلامية أن تعمل علىغرس مبدأ الأخوة ، كقيمة مطلقة ومنهج في السلوك والتعامل ، مع ضرورة تعليم مبادئ الحقوق والواجبات المقررة شرعًا لجميع المسلمين، والتى لا يسقطها عن أي منهم أي لون من ألوان الاختلاف المشروع أو المقبول أو الممكن أو المباح ، مع ضرورة تربية المشاعر وتقوية القيم والاتجاهات الفرعية التى تترتب على ذلك المبدأ وتندرج ضمن الحقوق والواجبات المقررة : كالحب ، والرحمة، والتعاون ، والمسالمة، والنصرة ، والحسنى ، والثقة ، والغيرة، والإيثار ، ونحوها من القيم والمشاعر والاتجاهات الأخوية والإنسانية التى لا يستثنى منها المسلم المخــــالف»(58).

لقد كان المقدار الذي أسهم به خطاب الإمام التغييري في خاصية الوحدة يلبي إلى حد كبير مقتضيات التأسيس الوحدوي فيما كانت تفرزه المرحلة _ آنذاك _ من أحداث، وتتطلبه من مقتضيات ، خاصة إذا شمل نظرنا الجانب العملي من حركته وجهوده ، ولا نريد مغادرة الحديث عن الخاصية المذكورة قبل أن نكشف عن مسألتين في خطابه:

الأولى : تتعلق بواقع وحدة الأمة العربية والإسلامية:

قال ابن باديس : «الاتحاد الإسلامي والوحدة العربية بالمعنى الروحي والمعنى الأدبي والمعنى الأخوي هما موجودان ، تزول الجبال ولا يزولان ، بل هما في ازدياد دائم بقدر ما يشاهد الناس من عمل في الغرب ضد العروبة والإسلام . وأما بالمعنى السياسي والمعنى العملي فلا وجود إلى اليوم لهما»(59) فكأنّي به يضع ترتيبًا ضروريًّا لانعقاد الوحدة على المستويين (المعنوى الأدبي ) و(السياسي العملي ) علىحد تعبيره.

فلقد عالج الإمام هذه القضية في الدائرتين العربية والإسلامية، فخلص إلى وجود الوحدة بالمعنى الشعوري الأدبي، وإنعدام الثانية واقعيًّا .

وانطلاقًا من هذه الحقيقة وهذا الواقع، راح يطرح ما يثبّت للوحدة المعنوية الأدبية أركانها ، وانصهارها عبر القرون في بوتقة التاريخ، فذهب إلى أن « الناحية الأدبية الاجتماعية هي التى يجب أن تهتم بها كل الأمم الإسلامية المستقلة وغيرها؛ لأنها ناحية تتعلق بالمسلم من جهة عقيدته وأخلاقه وسلوكه في الحياة، في أي بقعة من الأرض كان ، ومع أي أمة عاش ، وتحت أي سلطة وجد»(60) . واقترح إطارًا تنظيميًّا عالميًّا يتناسب مع حجم أمة الإسلام من جهة ، وينفلت من أسر أطروحة «الخلافة السياسية» التى لعبت بعض الدول الاستعمارية في المنطقة على أوتارها بما ينسجم مع سياستها المشبوهة، بعد أن عاونت على القضاء على الخلافة الإسلامية ، ويتمثل هذا الإطار التنظيمي فيما سماه بـ «جماعة المسلمين» وهم «أهل العلم والخبرة الذين ينظرون في مصالح المسلمين من الناحية الدينية والأدبية ، ويصدرون عن تشاور ما فيه خير وصلاح . فعلي الأمم الإسلامية جمعاء أن تسعى لتكون هذه الجماعة من أنفسها، بعيدة كل البعد عن السياسة وتدخل الحكومات ، لا الحكومات الإسلامية ولا غيرها»(61) . في اعتقادى ، ينبع هذا الموقف في مجمله من رؤية  الإمام ومنهجه في الإصلاح الذي يحرص فيه على أن يؤمّن للدعوة والتغيير الإسلامي والاستقلال عن الكيانات السياسية وما لابد لها من تأثيرات مختلفة ومتعارضة أحيانًا ، خاصة في تلك العهود المضطربة من تاريخ المسلمين المعاصر .

إن الترتيب المذكور ها هنا ينسجم معه الموقف الذي يرى «الثقافي ... يحتضن السياسي ويشكله ويجعل منه جزءًا من واقع فكري يعيشه العربي ويرى فيه شرطًا قبليًّا لقيام أي واقع مـادي آخـــــر، اقتصادي أو اجتماعي»(62)  على شرط اعتبار العامل العقائدى المشكل الجوهري للعالم الإسلامي .

أما  المسألة الثانية ، فتملثها الصلة بين « العرب» و« الأمازيغ» ، في ذلك التصوير الجميل بين الجنسين في هذه الأرض من بلاد الإسلام ، وكيف جمع بينهم الإسلام في آصرة وادعة متينة، فجاء في مقاله « ما جمعته يد الله لا تفرقه يد الشيطان » ، فقال: « إن أبناء يعرب وأبناء مازيغ قد جمع بينهم الإسلام منذ بضع عشرة قرنًا ، ثم دأبت تلك القرون تمزج ما بينهم في الشدة والرخاء ، وتؤلف بينهم في العسر واليسر ، وتوحدهم في السراء والضراء، حتى كونت منهم منذ أحقاب بعيدة عنصرا مسلما جزائريا ، أمه الجزائر وأبوه الإسلام . وقد كتب أبناء يعرب وأبناء مازيغ آيات اتحادهم على صفحات هذه القرون بما أراقوا من دمائهم في ميادين الشرف لإعلاء كلمة الله ، وما أسالوا من محابرهم في مجالس الدرس لخدمة العلم»(63) .

لكأني بالإمام ابن باديس كان يتوجس خيفة على هذا الشعب من تلك الأيدي المشبوهة التى امتدت لهذه الرابطة تريد فكها ، وإيقاد فتيل نار الفتنة بين «أبناء يعرب» و«أبناء مازيغ» لضرب استقرار البلاد ومقومات هذا الاستقرار، فدفعت بما يسمى«بالمسألة الأمازيغية» على اعتبارها حقًّا ، لكن يراد بها باطل في أغلب الأحيان ، إذ تحت هذا الشعار يراد تمرير أبشع مشاريع التغريب والاستئصال(*)، نخلص في الأخير إلى أن الموقف الذي جسده الخطاب الباديسي يبقى هو المعلم الأمثل لأي معالجة، وحل لهذه المعضلة التى دق اسفينها الإستعمار الجديد في جسم الجزائر .

6_ خاصية الإنسانية : ليس العجب أن يحدثنا عالم رباني كإبن باديس عن كون الإسلام دينا إنسانيا يتجه الخطاب فيه للناس كافة ، فتلك من مسلمات الإعتقاد وبديهيات العلم بالإسلام ، ولكن العجيب حقا تصور الإنسانية مفتقرة _ كأشد ما يكون الافتقار _ لخدمة وجهود ابن باديس، ويحتاج معها _ بسبب ذلك _ لتبديد كل ريب يداخل النفوس في انصراف جهوده عنها إلى حيز ضيق من «الأوطان» أو مفهوم قاصر للدين. وما أحسب العجب ينقضى حين استحضارنا لقتامة المناخ الذي اجتهدت عقود الاستعمار في احلولاكها بأرض الجزائر . لهذا ولما سيأتي بيانه حق لنا اعتبار «الإنسانية» واحدة من أهم خصائص خطاب التغيير الإسلامي التى انطوى عليها الخطاب الباديسي ، الذي سمحنا لأنفسنا _ بعد تأمله مليًّا _ بتحليله في مكوناته وعناصره على النحو الآتي :

أ _ مكونات عناصر خاصية الإنسانية(64):

وتتحلل في منظورنا إلى الآتي:

(1) مجالها : وتحوى ضمن هذا الإطار العناصر الآتية: [الإنسانية في جميع شعوبها ، وجميع أوطانها / جميع مظاهر تفكيرها ونزعاتها/ الوطنية الإسلامية العادلة هي من الوطن الأصغر / الأسرة والوطن الكبير / البلد والدولة إلى الوطن الأكبر (العالم)/ إننا نفرق جيدًا بين الروح الإنسانية والروح الاستعمارية في كل أمة (فهي ليست من الإنسانية في شيء)].

(2) وســائل تحقيقها : وتشمل : [[الإسلام دين الإنسانية الذي لا نجاة لها ولا سعادة إلا به ، وأن خدمتها لا تكون إلا على أصوله /  إذا عشت للإسلام فإني أعيش للإنسانية لخيرها وسعادتها / زرع المحبة ، فنحب من يحب الإنسانية ويخدمها ، ونبغض من يبغضها ويظلمها / تغذية الإنسان بالعلم الصحيح / الإيمان بأن الإنسان يجد صورته وخيره وسعادته في بيته ووطنه الصغير ، وكذلك يجدها في أمته ووطنه الكبير ، ويجدها في الإنسانية كلها وطنه الأكبر / كراهية ومقاومة روح الاستعمار في الأمم وموالاة وتأييد الروح الإنسانية فيها / السعى للتقريب بين عناصرها، والجهاد فيما هو السبيل الوحيد لتحصيل ذلك، وهو العدل والتناصف والاحترام / تربية الإنسانية المعذبة على المبادئ الإسلامية السامية ].

(3) مقاييسها : وتضمها _ في الخطاب الباديسي _ العناصر الآتية :

[العدل _ الاحترام _ الاعتراف بالوطنيات (الصغير والكبير والأكبر / من الأسرة إلى العالم ) وإنزالها منازلها غير عادية ولا معدو عليها ، وترتيبها بحسب ترتيبها الطبيعي في تدرجها ، كل واحدة مبنية على ما قبلها ، ودعامة لما بعدها] .

ب _ أثرها التغييري :

يمكننا التماسه في مضامين العناصر الآتية : من خطابه:

[ تربية أنفسنا أو من إلينا على تحقيق مقصودنا بالإنسانية شعور من غذي بالعلم الصحيح بالحب لكل من  يجد فيهم صورته الإنسانية ، وكانت الأرض كلها وطنًا له/ المحافظة على الأسرة بجميع مكوناتها، وعلى الأمة بجميع مقوماتها ، واحترام الإنسانية في جميع أجناسها وأديانها / كل شرٍّ يأتي لبلاد العالم من الروج الاستعمارية ، وكل خير يرجى للبشرية يوم تسود الروح الإنسانية، تكون الكرة الأرضية كلها وطنًا واحد].

والآن من أي زاوية ننظر لهذه الخاصية ، أهي مظهر من مظاهر العاطفة الإنسانية في أدوارها ارتفاعًا وسموًّا؟ أم هي تعبير عن موقف عقائدي تبلور في اتجاه فلسفي «إنساني» ينبغي إعطاء الإنسانية معنى أرحب مما أراد لها بعض بنيها وضعها فيه؟ وهل هو _ الموقف _ منسجم أم مصادم لسنن الله في علاقات الشعوب والحضارات مع بعضها ؟ وهل يحمل ما يؤهلنا به _ نحن المسلمين _ لأداء دورنا في منتديات الفكر العالمي حول قضايا حوار الحضارات ، ومستقبل العلاقات الإنسانية ؟ الحقيقة أننا لا نملك ما يمنعنا من الإجابة عن هذه الأسئلة _ على الإجمال _ بالإيجاب ، فما ثبت لنا من ألمعية الإمام ابن باديس ، وبعد تطلعه ما هو كفيل بقدرته على تحويل تلك المبادئ والإشارات والملاحظات التى تضمنها خطابه إلى اتجاه «إنساني» مؤسس ، لو فرغ له بالتفصيل والتنظير الموسعين على قدر ما يقتضيه المذهب وتتوخى منه الغاية .

جـ _ لهذا سوف نفسح المجال لبعض الملاحظات نجيب فيها عما طرحناه من أسئلة كيما تزيدنا وعيًا وإدراكًا لدور خاصية «الإنسانية » في عملية التغيير الإسلامي .

(1)تعبر « الإنسانية» في الخطاب الباديسي عن جوهر رسالة الإسلام والهدف الكبير الذي خطه للإنسان في هذا الوجود، ألا وهو هداية الناس لربهم الواحد الأحد ، وإعدادهم _ من خلال هذه الهداية _ لنيل السعادتين في الأولى والأخرى ؛ ذلك أن « أغلب الحضارات كانت لها أهداف ... والحضارة العربية الإسلامية كان لها هدف محدد وهو إنقاذ الإنسان ، وذلك حينما اتخذت من الإسلام قدرة للارتكاز والإحالة .. أي تحيل إليه كحضارة ... وإنقاذ الإنسان يشمل كل أبعاده . إنقاذه أولاً من غروره، ومن سوء استخدامه لذاته، وإنقاذه من تسلط الجانب المادي لغرائزه على الجانب النفسي ، وإنقاذه من سلوكه البشرى مع الآخرين ... وإنقاذه من الدنيا ومتاعها وغرورها ، فهو جاء إلى الدنيا برسالة الخير والبناء من أجل القيم وإسعاد الإنسان ونفعه»(65).

يتجلى هذا الهدف _ في الخطاب الباديســـــي على نحــــو ما حللنا _ في (الوسائل) ؛ إذ يقرر أن الإسلام دين الإنسانية الذي لا نجاة لها ولاسعادة إلا به ، وأن خدمتها لا تكون إلا على أصوله . وفي (الوسائل) و(أثرها التغييري) معًا ، حين نذهب إلى أن الإنسانية المعذبة ، لو تربت على المبادئ الإسلامية السامية ، فستكون الكرة الأرضية كلها وطنًا واحدًا . وقد رصد لها (المقايبس) التى تكون بها الإنسانية إنسانية، ما يضعها على سبيل التقدم بها نحو هدف الحضارة الإسلامية ، كالعدل والاحترام ، وإنزال كل وطن من أوطان الإنسانية منزلته الطبيعية دون انفصال بينها في مرمي المساعي ، وإهداء النفع لبنيها . فالمحور الذي ينبغي أن يقوم عليه تفاعل الإنسان مع أخيه الإنسان  هو الاقتراب والتقريب إلى الله عز وجل.

(2)من أهم ما تتهيأ له عملية التغيير الإسلامي المعاصر ، إعداد وترتيب الإنسان المسلم الذي لا ينفصل في وعيه وإدراكه عن واجب الترقي بمستواه الحضاري، بوصفه مقدمة هامة للشهود الحضاري.

 (3)إذا نظرنا للموقف في سياقه التاريخي على مستوى الأفكار والأحداث والاتجاهات ، نجد الخطاب الباديسي الإنساني ترجمة صادقة للنظرة الإسلامية المتميزة للإنسان ، إذ طالما تخرست أقلام وتمحل مفكرون ، فنسبوا التفوق لجنس بشرى معين ، كالجنس الآري أو الهندي أو الأوربي أو الهندى الجرماني ، وسخرت لذلك علوم كثيرة في الغرب الذي اخترع هذه الأوهام، كما اخترع لها مما تخيله أدلة تؤيد وجهات نظره، لكنه لما ذاق هو _ الإنسانية من ورائه _ وبال ما صنعت يداه ، حينما تصدى لتطبيقها بعض ساسته كهتلر، كان لابد _ بعد التجربة المرة - من الانتهاء - على الأقل في الحيز الحضاري الغربي _ إلى « أن نظرية تميز جنس على جنس إنما هي تشويه وتزييف لحقيقة بناء التاريخ»(66)  .

أما مضمون خاصية « الإنسانية» في الخطاب الباديسي الإسلامي فيعود بالقضية إلى موضعها الطبيعي ، فالإنسان من حيث الجنس واللون واحد، أما عوامل التفوق فتطلب في غير هذا ، إنه أجمل وأرقى ما عبر عنه القرآن الكريم ، {يَاأَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِير}(67) .

فالقرآن الكريم _ بهذا _ «قد وضع الإنسان .. في موضعه الصحيح حين جعل تقسيمه الصحيح أنه (ابن ذكر وأنثى) وأنه ينتمى بشعوبه وقبائله إلى الأسرة البشرية التى لا تفاضل بين الأخوة فيها بغير التقوى ، وقد نسميهم باصطلاح الأسماء (أممًا) كثيرة كلما تباعدت بينهم المواطن وتحيزت بهم الحدود وتشعبت بهم العقائد واللغات، ولكنهم قبل هذا الاختلاف أمة واحدة لها إله واحد : هو رب العالمين»(68) . متى تشربت روح إنسان التغيير المسلم هذا الموقف ، ارتقى حسه الحضاري إلى مستوى خدمة الإنسانية في جميع شعوبها، والحدب عليها في جميع أوطانها، واحترامها في جميع مظاهر تفكيرها ونزعاتها ، ويتمثل ما ذهب إليه ابن باديس - قولاً وفعلاً - كما كان عنده كذلك قولاً وفعلاً «أنا زارع محبة، ولكن على أساس من العدل والإنصاف والاحترام مع كل أحد من أي جنس كان، ومن أي دين كان، من كل جنس ومن كل دين »(69) .

(4) إذا غذي الإنسان بالعلم الصحيح ، شعر بالحب لكل من يجد فيهم صورته الإنسانية ، وكانت الأرض كلها وطنًا له، تطرح خاصية الإنسانية _ في الخطاب الباديسي ضمن هذه المقولة _ غاية من أهم غايات العلم وأهدافه،  فتضبط مساره منذ البدء، وتساوقه إلى أن تبلغ به غاية نفعه وفائدته ، وباحترامها يحصل التمايز بين استعمال للعلم واستعمال آخر لا يلقى لتلك الغاية بالاً. وبها نفرق بين علم يسخر للإنسان، كل إنسان ، وعلم تجنى فوائده بعض الأجناس والشعوب ، وتحجب عمن عداهم مما خلق الله من أمم وبشر . بها لا نخشي تحول العلم وكشوفه ومخترعاته إلى «وحوش» تنذر بنى آدم بالخطر كل حين ، هذه الحال كثيرًا ما كان عصرنا يميل بالتطور العلمي وبالإنسان إليها : «فلقد كان التطور التاريخي ينحو بالإنسان نحو مزيد من التعاطف والرحمة والعون ، لكن عصرنـــا بطبيعــــــة كيانــــــه التقنـى [التكنولوجيا] يقلب المسار ، فيعود بنا إلى مزيد من القسوة والعنف واللامبالاة، لقد بات عسيرًا على الإنسان في عصرنا أن يكون إنسانًا»(70) ، على الرغم من الدعوات المتكررة ليتجه العلم إلى ما يحقق للإنسان إنسايته.

والحقيقة أن العلم والثقافة والسياسة جميعها مطالب بالتنازل عن الغطرسة والتحيز والعنصرية والأنانية وقدر كبير من المادية المغالية؛ ليصبحوا على سواء في مواجهة «الإشكالية الجديدة المطروحة في وجه العلم والتكنولوجيا ، وفي وجه الثقافة أيضًا، هي النظر في كيفية استعمال معارفنا المكتسبة لتأهيل البشر لمحاربة الفقر ، والبؤس ، والظلم الاجتماعي ، والتهميش ، وكراهية الكرامة والحقوق الإنسانية ، والاستعمال المفرط للطبيعة ومواردها المحدودة»(71) وهي وإن كانت مشكلات _ في معظمها _ تستوطن الجنوب من عالمنا ، فهي تطرح بوصفها قضايا عالمية إنسانية ، الكل معرّض  لمخاطرها وآثارها ، وعليه فالكل _ أيضا _ مطالب بالتفكير الجاد والعمل الصادق لمواجهتها بطريقة إيجابية مفيدة للإنسان.

(5) لا نكاد نتلفت وننتهى مما سبق ملاحظته حتى تستقبلنا ناحية معرفية ، لا نظن بأن فحوى خاصية الإنسانية في الخطاب الباديسي التغييري تقصر عن التعبير عن فحواها . وهي ضرورة أن يكون « الإنسان» محور المعرفة والعلم، لا بوصفه موضوعًا فحسب ، بل موضوعًا وغاية ، وكيانًا متفردًا ، متكاملاً مادة وروحًا ونفسًا ، فعلى قدر ما ينال العلم من « أنسنة» (من الإنسانية) تأخذ الحياة أوفر وأعمق حظوظها من الإنسانية ، يقول (رينيه دوبو) : « في ميدان العلم ، كما في ميزان النشاطات الإنسانية ، فإن سرعة التقدم هي أقل أهمية من اتجاهه ووجهته: فمن الناحية المثالية يجب أن تؤدى المعرفة إلى التفاهم والحرية والسعادة بدل القوة والتقنين الشديد، والتكنولوجيا في سبيل النمو الاقتصادي. والتأكيد على المقاييس الإنسانية لا يعنى التراجع عن العلم، بل يشير إلى الحاجة لتوسيع النشاطات العلمية، وإعادة تكريسها في الاتجاه الصحيح ، يجب على العلماء أن يزيدوا من إبراز اهتمامات  الإنسان الكبيرة عندما ينتقون مسائل الدراسة والبحث ويصوغون نتائجها . وبالإضافة لعلوم الأشياء يجب أن يبدعوا علم الإنسانية هذا ، إذا أرادوا أن تصبح أفكارهم وتطبيقات جهودهم خيوطًا في نسيج الحياة العصرية . فالثقافات والمجتمعات مثل الكائنات الحية الأخرى، لا تستطيع الاستمرار في حياتها ما لم تصن تماسكها الداخلي . وباستطاعة العلم أن يندمج ويتحد كليًّا في الجســم الاجتماعي الثقافي إذا أنجز علاقـــة ذات معنى أكبر لحياة الإنسان»(72) .

ولكن الملاحظ على هذه الحضارة الغربية أن المعرفة والعلم فيها لا ينفردان وحدهما بالقرار المتعلق بتوجيه ونطاق توزيع ثمار العلم وكشوفه ، فالمال الذي يمون البحث العلمي وحركة الاقتصاد التى تتحكم في الإنتاج وبالتالي ذيوع العلم وانتشار نتاجه ، فضلاً عن السياسة ، لهم من حظوظ القرار في هذا الشأن ما لا يقل عن حظ العلم والمعرفة نفسها أو يفوق .

(6) تمثل هذه الخاصية _ الإنسانية _ قاعدة مفيدة في تعارف الحضارات ؛ إذ ينبني التعارف وفقها على أسس أخلاقية محضة ، وكذلك الشأن فيما ترصد له من الوسائل ، وتهدف إليه من الغايات. فتُكْسِب التعارف _ بهذا _ مذاقًا  أخلاقيًّا ساميًا ، يفسح لتفاعل التعارف الميداني كي يعبر عن المعاني السامية في العلاقات الإنسانية ، ويؤكد بالتالي «أن العالم لا يستطيع أن يعالج أزماته ومشاكله بالسياسة فحسب ، أو بالاقتصاد والعلم فقط ، فالسياسة تحولت إلى أداة لجلب المصالح ، والاقتصاد محكوم بالمنافع وبقاعدة الربح والخسارة ، والعلم انفصل عن القيم ، والذي يضيفه الإسلام في هذا المجال ، مجال العلاقات الدولية هو إدخال منظومة القيم والأخلاق (التقوى) . فقد بات من المؤكد أن العالم بأمس الحاجة إلى منظومة من القيم والأخلاق؛ لأن من أشد ما يفتقده العالم المعاصر ويتضرر كثيرًا بافتقاده ، هو انعدام العامل الروحي والوجداني والأخلاقي في العلاقات الدولية وبين الأمم والحضارات»(73) .

إننا لا يجب أن نستكين إطلاقا _ ونحن  نطلب دورنا الثقافي والإنساني والحضاري في العالم والقرن الجديد _ إلى الأنماط الواقعية التى تسود علاقات الشعوب والحضارات من زوايا مادية مصلحية محضة ، بل لابد   ألا نلين في اجتهادنا لبناء نموذجنا الحضاري المتميز في جوهره بقيم (التقوي) ونمد جسور التعارف الحضاري في كنف قيمها أيضًا؛ وفاء لديننا ولتجربتنا الحضارية الزاهية بها .

إن ما طرحه الإمام ابن باديس في هذا الصدد ينسجم مع ما ألمحنا إليه ، فيستحق _ بحق _ أن يوصف بكونه أحد رواد الدعوة إلى « حوار الحضارات» و« تعارف الحضارات» و« التعاون الإنساني» . فلا عجب _ في الحقيقة _ من ذلك فابن باديس خريج ذكيّ لمدرسة القرآن والسنة والحضارة الإسلامية الإنسانية .

الخــاتــمــة :

وقد ضمنتها مجموعة من الاستنتاجات والملاحظات :

_ إن الخطاب الباديسي ليس استجابة لتحديات مرحلته فحسب ، وإنما هو لا يزال صالحًا _ في كثير منه _ لمساعدتنا على معالجة أزمتنا الراهنة وفق رؤية متوازنة لعلاقة العصر بالإسلام ، ومن وجوه هذه الأزمة : الأزمة الروحية _ مسألة الهوية _ الأزمة الثقافية، باعتبارها إحدى أهم القلاع التى نحتمى بها في مواجهة حل معادلة (الامتصاص والطرد) خاصة إزاء تحديات العولمة .

تجاوز مفهوم « التعايش السياسي» إلى مفهوم «التعاون بين فئات المجتمع الواحد» في ظل مفهوم خاص للديمقراطية.

_ رؤيته للغرب وحضارته وكيفية التعامل معه في حاجة إلى الكشف والتعمق .

_ الدعوة إلى مزيد من الدراسات العلمية التى تسلط الضوء على (تجربة ابن باديس في التغيير) باعتبار مرحلته كانت متميزة ضمن مسار تجربة التغيير عند جمعية العلماء المسلمين الجزائريين.

 

هـوامــش:

(1) الرعد : الآية 12 .

(2) زكي الميلاد: «المسألة الحضارية» (بيروت : المركز الثقافي العربي ، ط 1 ، 1999) ص 83 .

(3) عبد الله شريط: «معركة المفاهيم»  (الجزائر : الشركة الوطنية للنشر والتوزيع : 1981 ، 2) : ص 88 .

(4) عمار الطالبي « ابن باديس حياته وآثاره» مقدمة مالك بن نبي: ( دار اليقظة العربية : ط1، 1388هـ _ 1968م) ،ج1، ص 14.

(5) المرجع نفسه : ص 9 .

(6) د/ وهبه الزحيلي : « أصول الفقه» ، ( دمشق ، دار الفكر ، ط 1 ، 1406هـ _ 1986م) ج1، ص 31 .

(7) وليد منير : « النص القرآني من الجملة إلى العالم» ، (القاهرة ، المعهد العالمي للفكر الإسلامي : ط1 ،1418هـ _ 1997م) ، ص 17 .

(8) د/ مازن الواعر : « الاتجاهات اللسانية المعاصرة ودورها في الدراسات الأسلوبية» مجلة عالم الفكر ، الكويت ، الثاني والعشرون ، ع : 3،4 _ 1994 . ص176 .

(9) مقدمة د/  طه جابر العلواني : لـ : وليد منير : المرجع السابق : ص 8 _ 9 .

(10) الطيب برغوث : « الخطاب الإسلامي المعاصر » ، ( الجزائر ، دار الامتياز ، ط1 _  1990) ، ص 11 .

(11) د/ محمد عاطف غيث :« التغير الاجتماعي والتخطيط» ، ( مصر ، دار المعرفة الجامعية ، 1987)، ص11 ،12 .

(12) المرجع نفسه : ص 25.

(13) د. محمد السويدي ، « علم الاجتماع الثقافي» ، (تونس . الدار التونسية للنشر ، الجزائر ، المؤسسة الوطنية للكتاب ، ط 1 _ 1991 _ 1411هـ ) ص 110 .

(14) انظر :  المرجع نفسه : ص 120 _ 125 .

(15) الفرقان : الآية : 20 .

(16) عبد الحميد ابن باديس : «تفسير ابن باديس» ، جمع وإعداد ، د/توفيق محمد شاهين : محمد الصالح رمضان ، (بيروت ،دار الفكر: ط3 _ 1399هـ _ 1979م) ص 271 .

(17) د/ عبد  الحميد النجار : « تجربة الإصلاح في حركة المهدي بن تومرت» ، ( فيرجينا _ الولايات المتحدة الأمريكية _ المعهد العالمي للفكر الإسلامي : ط 2 _ 1415هـ _ 1995م) ص 14 .

(18) النور :35.

(19) انظر : أصول الدعوة عند ابن باديس ، وزارة الشؤون الدينية _  الجزائر البند رقم 11 _ تفسير ابن باديس (ص 239) ،(ص 359)، (ص 482 _ 483) ، ( ص 508) .

(20) مالك بن نبي : «وجهة العالم الإسلامي» : ( بيروت : دار الفكر ، دون ذكر رقم ولا تاريخ الطبع) ، ص 126 _ 127 .

(21) د/ عبد المجيد عمر النجار « مشاريع الإشهاد الحضاري ، ج3» (بيروت ، دار الغرب الإسلامي ، ط1 _ 1999) .

(22) المرجع نفسه : ص 20 .

(23) د/ محمد العزيز الحبابي « الشخصانية الإسلامية» (مصر ،دار المعارف ، 1969) ( ص 123) .

(24) انظر ابن باديس : التفسير : ( ص 158_159) ، ( ص 183 _ 184 _187) ، ( ص 230) ، (ص 309) ، (ص526) ، ( ص 566) _ آثار ابن باديس : الجزائر وزارة الشئون الدينية ، ج3 (ص 155)  ج 4 ( ص 55 _ 56) ، ( ص 75 _ 76) _ ج5 ( ص 37) .

(25) د/ النجار ، مشاريع الإشهاد الحضاري ، المرجع السابق ( ص 20) .

(26) المرجع نفسه ، ( ص 20) .

(27) انظر ، د.محمد عابد الجابري « إشكاليات الفكر العربي المعاصر » (بيروت ، مركز دراسات الوحدة العربية ، ط1 ، 1989) ، ص 108 .

(28) د. عبد الوهاب المسيري «إشكالية التحيز » ، « فرجينيا ، و. م. أ ، المعهد العالمي للفكر الإسلامي ، ط1 _ 1415هـ _ 1995م)، ج1 ص 184.

(29) د/ محمد عمارة ، « الغزو الفكري» ، (طرابلس _ ليبيا _ جمعية الدعوة الإسلامية العالمية ، ط 3 _ 1990) ص 211 .

(30) انظر : ابن باديس : التفسير ، ( ص 270 _ 271) _ آثار ابن باديس : ج3، ( ص 9) ، (ص89) _ ج4 ، ( ص 44 ) ، (ص 141) ، ( ص 141 _ 142) _ ج5 (ص 51) ، (ص 151) ، (ص 175) .

(31) زكي الميلاد _ تركي على الربيعو ، « الإسلام والغرب ، الحاضر والمستقبل» ، (دمشق ، بيروت ، دار الفكر : ط 1 _ 1418هـ _ 1998م) ص 41.

(32) ابن باديس ، الآثار ، منشورات وزارة الشؤون الدينية ، الجزائر ، ج3 ص 9 .

(33) زكي الميلاد ، المسألة الحضارية ، ص 77 .

(34) د/ محمد زرمان ، « من معالم التغيير الحضاري عند ابن باديس » (مجلة الموافقات _ مركز الموافقات للدراسات والأبحاث العلمية ، المعهد الوطني العالي لأصول الدين _ الجزائر : العدد 6 _ 1418 _ 1419 _ 1997 _ 1998) ص 471 .

(35) ابن باديس ، التفسير : ( ص 183 _ 184) .

(36) المرجع نفسه : ( ص 197) .

(37) المرجع نفسه : ( ص 492) .

(38) مالك بن نبي : مقدمة آثار بن باديس ، جمع عمار الطالبي ، المرجع السابق ص 11 .

(39) ابن باديس : الأثار : ج5 ص 174 .

(40) د. أبو القاسم سعد الله : « أفكار جامحة» (المؤسسة الوطنية للكتاب ، الجزائر : 1988) ص 48 .

(41) المرجع نفسه : ص 48 .

(42) المرجع نفسه: ص  48.

(43) انظر: ابن باديس :« تفسير ابن باديس» : (ص 559 _ 560) ، ( ص 636) _ ابن باديس «آثار الإمام» : ج3 : ( ص 243) _ ج4: (ص 112 _ 113) ، (ص 158) ، ( ص 159 ) ، (ص 198)  _  ج5 : (ص 41) ،  (ص 78) ، (ص 81 _ 82) ، (88)، (ص 150-155) ، (ص 173) ، (ص333 _ 334) ، (ص338) ، (ص 344) ، (ص 351) ، (ص 452_ 453) ، (ص 459) _ ج6: (ص 72)، (ص 100) ، (ص134)، ( ص 232) .

(44) انظر تكامل هذه الدوائر في مقاله الجامع : (لمن أعيش ) : آثار الإمام ، ج 4: ( ص 109 _ 113) .

(45) هربرت أ. شيللر : « المتلاعبون بالعقول » ، ترجمة : عبد السلام رضوان ، ( الكويت : عالم المعرفة : المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب : العدد : 243 ، ط2 : ذو القعدة 1419هـ _مارس / آذار 1999م) ص 23 .

(46) ابن باديس : آثار الإمام : ج6: ( ص 366 _ 367) .

(47) ابن باديس : آثار الإمام :ج5 :(102 _ 103) .

(48) ابن باديس : آثار الإمام ج6 (ص 131) .

(49) المرجع نفسه ( ص 131 _ 132) .

(50) المرجع نفسه : (ص 186) .

(51) الفلق : 4.

(52) ابن باديس : تفسير ابن باديس : المرجع السابق : ( ص 636) .

(53) المرجع نفسه: ( ص 638 _ 639 ) .

(54) ابن باديس : آثار الإمام : ج4 : (198) .

(55) ابن باديس : آثار الإمام ج5: ( ص88) .

(56) محمد البشير الإبراهيمي : « أنا » مجلة الثقافة ، الجزائر ، السنة 15 ، العدد 87 ،  شعبان _ رمضان 1405هـ _ مايو يونيو 1985م ، ص 23 _ 24 .

(57) سورة الحجرات، الآية : 10.

(58) د/ على القريشي « التربية الحوارية : دراسة في إشكالية الاختلاف والوحدة في الإطار الإسلامي» : مجلة المسلم المعاصر ، مصر ، السنة 22 ، العدد ( 88) ص 88 .

(59) ابن باديس : آثار الإمام ج5 ، ( 351) .

(60) المرجع نفسه : ( ص 383) .

(61) المرجع نفسه : ( ص 383) .

(62) د. محمد عابد الجابري : « إشكاليات الفكر العربي المعاصر » المرجع السابق : (ص 79) .

(63) ابن باديس : آثار الإمام : ج5 : (459) .

(*) لإلقاء ضوء على هذه الحقيقة نسوق للقارئ النصين الآتيين :

الأول :  تصريح للكاتب المسرحي المعروف (كاتب ياسين )  : إذ صرح للإذاعة الفرنسية سنة 1986م قائلاً : « العدو الأول للبربرية في الجزائر هو الإسلام ، ومن ثمة يجب القضاء عليه، وقال : إذا كان أجدادنا البربر قد انهزموا أمام الفتوحات الإسلامية في القرن السابع الميلادي ، فمن واجبنا اليوم وبإمكاننا كذلك أن نثأر لأجدادنا ونحن أقوى وأفضل حالاً منهم قبل 14 قرنًا» _ انظر جريدة المساء، الجزائر ، العدد الصادر في: 17 / 12 /1989 .

الثاني : الوثيقة رقم (2) منشور سري بعنوان : «أيها البربر استيقظوا»  [ وهي ضمن مجموعة من الوثائق الصادرة عن الأكاديمية البربرية في باريس التى أنشأتها فرنسا سنة 1967] ونص الوثيقة رقم (2) الصادرة عن الأكاديمية البربرية سنة 1973 م « أفيقوا من نومكم العميق الذي ظللتم تغطون فيه لقرون عديدة ،  دون أن تشعروا بأن هناك من يتربص بكم، لقتلكم شر قتل ، دون أن تأخذوا حيطتكم . إنهم يحاولون أن يفصلوا  عنكم أبناءكم ، وإذا لم تتداركوا هذا الأمر (أي التعريب) فإنهم يتنكرون  لكم ( أي أبناؤكم) بعد وقت ليس ببعيد ، بل يصيرون أعداءكم .

حان الوقت لكي تفتحوا أعينكم قبل أن تفوتكم الفرصة ( أي قبل تحقيق التعريب) ولا تنفعكم الندامة حينئذ . لقد زيفوا تاريخكم وخدروكم دون أن تبدوا أي مقاومة ، فأوشكتم أن تضيعوا روحكم .

تفرض عليكم عقائد ، ومبادئ تتعارض مع تقاليدكم وحضارتكم العريقة .... لقد أرقنا دماءنا كثيرًا من أجل قضايا لا تخصنا ، كفي؟ لقد ظللنا مجرد مرتزقة في خدمة مختلف الأقوام الذين احتلوا أرضنا ... فتحنا إسبانيا وجنوب فرنسا لحساب العرب الذين مانزال نرتبط بهم . يجب علينا أن نضع حدًّا لهذا اللبس .

قاوموا ، عارضوا عملية التعريب الجارية ، قبل فوات الأوان ، ذلك أن اليوم الذي يمر ،  يقرّبنا أكثر من الاضمحلال والزوال». انظر د/ أحمد بن نعمان : «فرنسا والأطروحة البربرية في الجزائر » ، (الجزائر ، منشورات حلب : ط1 ، 1991) : ص137 _ 138.

(64) انظر _ ابن  باديس : آثار الإمام :  ج4 : (ص 110 _111) ، ( ص 215) _ آثار الإمام ، ج5( ص 173) ،( ص 340 _341)، (ص 378) ، (ص 542) _ آثار الإمام، ج6، (ص140 _141).

(65) د. رشدي فكار «حوار متواصل حول مشاكل العصر» .حاوره : خميس البكري : (القاهرة ، مصر مكتبة مدبولي ، ط2، 1417 هـ _1986م) ،ص 43 .

(66) حسين مؤنس : «الحضارة» ،(الكويت المجلس الوطنى للثقافة والفنون والآداب ، ط2 ، جمادى الأولى 1419هـ - سبتمبر /أيلول 1998م) : ص 50 .

(67) سورة الحجرات : 13.

(68)  عباس محمود العقاد : «الإنسان في القرآن» (لبنان ، المكتبة العصرية) ، ص 50 _ 51 .

(69) ابن باديس آثار الإمام : ج4(ص 215) .

(70) د/ ذكي نجيب محمود ،«هذاالعصر وثقافته»(مصر،دارالشروق ط 1 _ 1400هـ 1980) ص 64 .

(71)  المهدى المنجرة ، « الحرب الحضارية الأولى» ، (الجزائر، شركة الشهاب ، ط1 _ 1991) ، ص  338 .

(72)  رينيه دوبو ، « إنسانية الإنسان » ، ترجمة : د. نبيل صبحي الطويل، (سوريا _ لبنان ، مؤسسة الرسالة ، ط2 _ 1404هـ _ 1984م) ص259 .

(73) زكي الميلاد، المسألة الحضارية ، ص 78 .

 

آخر التغريدات:

    Message: Invalid or expired token., Please check your Twitter Authentication Data or internet connection.