ذكريات الشيخ محمد الصالح رمضان عن الشيخ البشير الإبراهيمي
بقلم: محمد الأمين فضيل-
تحدث الشيخ محمد الصالح رمضان رحمه الله عن الشيخ البشير الإبراهيمي ونشاطه في تلمسان عندما حل بها لأول مرة، وهي فترة لم يدركها الشيخ بنفسه ولعله أخذ أخبارها من قدماء التلمسانيين الذين عرفهم فيما بعد.
عندما زار الشيخ عبد الحميد بن باديس رحمه الله تلمسان سنة 1931 م، طلب منه أهلها أن يبقى معهم يعلمهم أمور دينهم وينشر دعوة الحق بينهم، فاعتذر الشيخ ابن باديس بأن له تلاميذ في مدينة قسنطينة لا يمكن أن يتخلى عنهم إضافة إلى مهام أخرى كإدارة الشهاب وغيرها. لكنه وعدهم بأنه سيرسل إليهم عالما يفوقه علما ومعرفة. فتعجب التلمسانيون: من يكون هذا الرجل الذي هو أعلم من ابن باديس؟
وفي السنة الموالية سنة 1932 م، أرسل الشيخ ابن باديس الشيخ البشير الإبراهيمي إلى مدينة تلمسان. وفور وصوله إلى المدينة بدأ بإلقاء الدروس العلمية في الجامع الكبير وفي النوادي وغيرها. لكن الشيخ البشير كان بسيط الزي لا يظهر عليه سمت أهل العلم، فلم يقدره الناس آنذاك حق قدره. لكنهم وجدوا في دروسه علما جما وتمكُّنًا في كثير من العلوم الشرعية. فقال بعضهم: إن هذا الرجل يحضر درسه جيدا وذو حافظة قوية، فلنسلك معه طريقة ذكية هي أن نسأله في آخر الدرس عن أمور ليست لها علاقة بموضوع الدرس إطلاقا....
فكان الأمر كذلك، فكانوا يسألونه عن الفقه في درس السيرة وعن القرآن في درس الحديث وهكذا ينوعون الأسئلة حتى يختبروا علمه. وعند ذاك رأوا عجبا، ففي أي علم يسألونه يجيب الشيخ ويستطرد في الإجابة كأنه السيل الجرار... فعرفوا قيمة الشيخ البشير وسلموا له، وفهموا حقيقة ما قاله فيه الشيخ ابن باديس رحمه الله.
أما الفترة التي أدركها الشيخ وكان كثير الحديث عنها هي بعد وفاة الشيخ ابن باديس رحمه الله. قال لي الشيخ رمضان رحمه الله:
عند وفاة الشيخ ابن باديس رحمه الله، كان الشيخ البشير الإبراهيمي في المنفى بمدينة آفلو. وبما أن الحرب العالمية الثانية كانت قائمة لم يكن من المناسب اجتماع المجلس الإداري لجمعية العلماء لاختيار خلف لابن باديس. فقرر أغضاء الجمعية البارزون أن الرئيس يخلفه نائب الرئيس وهو الإبراهيمي، فأُخبر الشيخ بذلك وجرت بعد ذلك مراسلات بينه وبين أعضاء الجمعية تعرف الشيخ من خلالها على الأوضاع.
وانتشر خبر في تلك الفترة وهو أن الإبراهيمي شرع في تأليف كتاب حول حياة ابن باديس (وهو ما جعل كثيرا من الناس يحجمون عن الكتابة عن الشيخ ابن باديس)، ولا أدري ماذا تم من هذا العمل؟ وقد سألت ابنه فـأجاب بأنه لا يعلم من ذلك شيئا... فلعله ضاع ضمن ما ضاع من آثاره... ولو تم مثل هذا الكتاب لكان كتابا عظيما لأن الإبراهيمي هو أعرف الناس بابن باديس وأقدرهم على الكتابة عنه.
ولما رجع الإبراهيمي من منفاه، اتجه مباشرة إلى قسنطينة قبل أن يعرج على أهله في تلمسان. فأكد على ضرورة بعث نشاط الجمعية من جديد، وقال بأن ابن باديس لا يخلفه أحد وعلينا أن نتعاون جميعا لخلافة ابن باديس. واشترط على الجمعية أن توضع سيارة تحت تصرفه مع سائق حتى يتمكن من القيام بأعباء رئيس الجمعية، والاتصال بالجماهير والمنظمات فوافق أعضاء الجمعية على ذلك. لكنه قال بأنه لا يستطيع أن يقوم بالتعليم وإدارة الصحافة (وهي الأعمال التي كان ابن باديس يقوم بها إضافة إلى رئاسة الجمعية).
ويتابع الشيخ رمضان حديثه عن الشيخ البشير الإبراهيمي قائلا:
ثم ذهب الشيخ البشير إلى تلمسان لرؤية أهله والاطمئنان عليهم، ثم رجع إلى قسنطينة. واختار مجموعة من أفضل معلمي مدرسة التربية والتعليم بقسنطينة لإدارة مدارس الجمعية بالغرب الجزائري، وهم محمد العابد الجلالي ومحمد الغسيري وأنا محمد الصالح رمضان. فرفض أحمد بوشمال قائلا: "ذهاب مجموعة من خيرة المعلمين يعني توقف المدرسة"، فأجابه الإبراهيمي بأن تلاميذ ابن باديس كثر في الشرق الجزائري أما في الغرب فلا توجد مثل هذه الكفاءات.
وكنت أنا والغسيري درسنا على ابن باديس سويا وكنا نتقاسم غرفة واحدة، وابتدأنا التدريس في وقت واحد، فخُيّرنا بين مدينتي مستغانم و غيليزان، فاختار الغسيري مستغانم لأن فيها صديقه مصطفى بن حلوش فاضطررت أنا لاختيار غيليزان واختير معي للقيام بالوعظ والإرشاد الشيخ نعيم النعيمي رحمه الله، وكانت هذه طريقة الجمعية تعين مديرا للمدرسة يشرف على التعليم وتعين معه واعظا يقوم بالدروس المسجدية وتوجيه العامة وإصلاح ذات البين.
فبقيت في غيليزان حوالي ثلاث سنوات (من 1943 إلى 1946 م) ثم قرر الشيخ البشير الإبراهيمي أن ألتحق بمدرسة دار الحديث بتلمسان لإدارتها. وذلك لأن مهام رئاسة الجمعية لم تدع الوقت للشيخ البشير لإدارة المدرسة وهو أول مدير لها منذ افتتاحها سنة 1937 م.
فرفضت بادئ الأمر لأمرين: الأول أن أهل تلمسان ليس من السهل التعامل معهم لأنهم ينفرون من الغرباء عن بلدتهم، والثاني أن العمل الذي أنجزناه في غيليزان بدأ يؤتي أكله وبدأت الحركة الإصلاحية تنتشر وكنا في بداية الأمر مرفوضين من طرف العامة في غيليزان ويسموننا بـ"الباليسية" (استهزاء منهم وهي تحريف لكلمة الباديسية وهم أتباع ابن باديس إلى الباليسية أتباع إبليس). فأردت أن أتأكد من أن الرجل الذي سيخلفني في غيليزان سيكون في المستوى المطلوب حتى لا يضيع عملنا سدى.
فاختار الشيخ العربي التبسي أحد تلاميذه، وطلب مني الإبراهيمي أن أدربه على الإدارة فبقي معي ثلاثة أشهر أدركت بعدها أنه لا يصلح لهذه المهمة. لكن الشيخ الإبراهيمي لم يقبل هذا الأمر لأن الرجل من اختيار التبسي والإبراهيمي لا يرفض اختيار التبسي.
ثم جاءني الأمر بالالتحاق فورا بتلمسان . وبعد أيام جاءت سيارة على متنها الإبراهيمي والتبسي ومحمد خير الدين. واستفسر الإبراهيمي عن هذا التطويل في الالتحاق بتلمسان، فقلت له: أنا رجل أكره الخيبة فإما أن أعمل عملا أنجح فيه وإما ألا أعمل... فقال: هذا أمر مهم فعلا... ثم قال: اشترط لذهابك إلى تلمسان، قلت: لي شرط واحد وهو ألا يتدخل أعضاء جمعية المدرسة في تسيير المدرسة، فقال: لك ذلك، ثم قال: اشترط أيضا، قلت: ليس لي أي شرط آخر، فقال: والمسكن؟ قلت: نعم أريد أن أكون مع أهلي ولكنت في حدود طاقتكم. ثم قال: اشترط، فتذكرت وقلت: لي شرط أخير وهو ألا يتوسط نساء تلمسان بزوجي في حل المشكلات المدرسية، فقال: لك ذلك.
فالتحقت بتلمسان، وعند تنصيبي لإدارة مدرسة دار الحديث قدمني الشيخ الإبراهيمي بثناء عاطر فقال: هذا ابن الحركة الإصلاحية وتلميذ ابن باديس وملتزم بالجمعية إلخ... فلا تقلقوه بالتدخل في شؤون المدرسة إذا أردتم أن يتقن عمله، ولا تعرضوا مشكلاتكم عليه في الطريق فمكتبه مفتوح دائما لكم. ثم هناك أمر آخر: لا تتوسطوا بنسائكم لدى أهله واعرضوا أموركم عليه مباشرة.
فعشت في تلمسان مهابا محترما منذ ذلك التقديم الذي قدمني به الإبراهيمي رحمه الله.
وبقي الشيخ رمضان مديرا لدار الحديث إلى غاية سنة 1953 م حين عُيّن مفتشا عاما لمدارس جمعية العلماء. وفي تلك الفترة كان على اتصال دائم بالشيخ الإبراهيمي رحمه الله، والشيخ يتنقل بين العاصمة وبين تلمسان. وحين ولد للشيخ رمضان ابنه عقبة حنّكه الشيخ الإبراهيمي وكان يريد تسميته بـ "عبد المالك" لكن الشيخ رمضان اختار اسم "عقبة" وعلّل اختياره بأن عقبة بن نافع من الفاتحين الأولين الذين أدخلوا الإسلام لهذه الديار ومع ذلك فإننا لا نكاد نجد من يسمي ابنه عقبة...
وبما أننا بصدد الكلام عن الشيخ البشير الإبراهيمي رحمه الله، فإني لاحظت أن الشيخ محمد الصالح رمضان كثبر الكلام عن الشيخ ابن باديس رحمه الله ولا يكاد يخلو مجلس من مجالسه من الحديث عنه لكن حديثه عن الإبراهيمي أقل بكثير...
وفاة الشيخ الإبراهيمي:
حينما كنت بصدد جمع مواد الكتاب الذي شرفني الشيخ محمد الصالح رمضان رحمه الله بجمع مادته وهو كتاب "محمد الصالح رمضان في نظر زمرة من أصدقائه ومعارفه والدارسين لأعماله والباحثين في إنتاجه"، أمدني الشيخ بمجموعة لا بأس بها من الرسائل التي كانت تصله من الجزائر وخارجها. ووقفت ضمنها على رسالة من الشيخ بوعمران رئيس المجلس الإسلامي الأعلى بالجزائر حاليا يطلب منه أن يصف له جنازة الشيخ البشير الإبراهيمي رحمه الله لأنه يحضرها ووجدت معها رد الشيخ رمضان على الرسالة، وذلك أن الشيخ رحمه الله كان كثيرا ما يحتفظ عنده بنسخة من رده على الرسائل التي تصله. وإليكم الرسالة والرد عليها:
1- رسالة الدكتور الشيخ بوعمران :
تونس يوم الأحد 23 ماي 1965 م
صديقي المحترم
سلاما ورحمة
إنا فقدنا ذلك الرجل العظيم الأستاذ العلامة الشيخ البشير تغمده الله برحمته الواسعة وأقره في جنة الخلد. قرأت النبأ في الصحف ولم أجد فيها ما يشفي وكم تمنيت أن أكون من الحاضرين بالعاصمة للمشاركة في الجنازة مع الإخوان والأصدقاء. ولا شك أن الجنازة كانت من الأيام المشهودة. إني تألمت من هذه المصيبة الكبرى وإن كان لا بد ولا مفر منها. والحمد لله على وفاة الأستاذ بأرض بلاده بين ذويه وتلاميذه وخلانه. فهو قضى حياته كلها وجاهد وعرف السجن والمنفى وذاق مرارة الهجرة من أجل الرسالة الشريفة في خدمة الإسلام والوطن والعروبة. فكتب له أن يرى الجزائر العزيزة مستقلة وأن يعيش فيها في عز وكرامة وذلك جزاء المخلصين لله وللأمة. ولنا في حياته وآثاره عبرة وأي عبرة. أرجوك أن تمدني في أقرب وقت بعنوان ولده الدكتور أحمد لأقدم له تعزيتي.
كنت في انتظار رسالة منك من حين إلى آخر وذلك خاصة بعدما طلبت بعض المعلومات تتعلق بإلقاء محاضرة. وإن تعذر ذلك فلا مانع من المراسلة - وأنت تعرف كم أقدر مراسلة الأصدقاء - حاولت أثناء إقامتي الأخيرة بالعاصمة الاتصال بالأستاذ قويدري تيلفونيا ولكن لم أفلح، هل لك أن تخبره وتبلغه سلامي؟ لك الشكر سلفا. وسلامي وتحياتي إلى الأسرة وإلى الشيخ عبد اللطيف والأصدقاء.
من أخيك الشيخ أبو عمران
2- رد الشيخ محمد الصالح رمضان:
بسم الله الرحمن الرحيم
أخي العزيز الفاضل الأستاذ الشيخ أبو عمران
وعليكم سلام الله وتحياته وأشواق الصديق وتمنياته. وعزاءً لنا ولكم وللجزائر والعالم العربي والإسلامي في وفاة شيخ الأدباء وإمام المصلحين العلامة الفيلسوف الأستاذ الشيخ البشير الإبراهيمي تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جنته. نعم يا أخي لقد انهدّ ركن من أركان العروبة والإسلام و الوطنية الذي كانت تعتز به الجزائر وتفاخر به، وكان ذخرا عظيما لها وللعالم العربي والإسلامي. وقد كان من أفذاذ التاريخ التي لا يجود بها إلا بعد مرور القرون. وهكذا فخسارتنا فيه لا تعوّض ولكن لكل أجل كتاب!
توفي رحمه الله ورضي عنه يوم الخميس 19 محرم و20 ماي 1385 هـ/ 1965 معند الثالثة مساء بمنزله بحيدرة ودفن يوم غد الجمعة في سيدي محمد بالحامة (بلكور) بعد أن صلى عليه الإمام الشيخ أحمد سحنون(1) بالجامع الأعظم بالعاصمة بعد صلاة الجمعة مباشرة. وأبّنه باسم الجميع زميله الشيخ محمد خير الدين في المقبرة. ورثاه بقصيدة عامرة مؤثرة أمير الشعراء الشيخ محمد العيد الشاعر الغريد. وحضر جنازته الوزراء والسفراء ورجال الحزب والحكومة وأهل العلم والثقافة والأدب وأعيان الشعب وعامته، جاءوا من جميع أطراف البلاد رغم ضيق الوقت، ولولا فضل الجمعة عند المسلمين لأخر دفنه إلى يوم السبت أو الأحد ليشهد جنازته كل من يتيسر له القدوم. وعلى الرغم من ذلك فقد كان تشييع الجنازة عبارة عن مظاهرة شعبية عظيمة لم تشهد مثلها العاصمة في تاريخها الحافل.
وكان ذلك أولا من منزله بحيدرة إلى الجامع الكبير في رتل كبير طويل من السيارات بقدر طول هذه الطريق، وثانيا من المسجد المذكور إلى المقبرة في سيدي محمد (بلكور) وكانت هذه مسيرة رهيبة على الأقدام لا فرق بين الرؤساء والمرؤوسين والحكام والمحكومين، فكنت ترى الوزير بجنب الفقير وراء جثمان الراحل العظيم. واتحد فيها الخاصة والعامة في هدوء وخشوع من غير جند ولا شرطة أو كشافة لحفظ النظام. وتوقفت حركات المدينة الصاخبة في الشرايين الرئيسية التي تصل بين المسجد والمقبرة المذكورين وكل ذلك في قلب العاصمة.
فالحمد لله الذي أكرمه بهذا الحب والعطف والتقدير في توديعه لمقره الأخير(2) وعفا الله عما سلف من تقصير الحكومة والشعب إزاء هذا العلم الشامخ من أعلام الهدى والثبات أمام الزلازل والأعاصير. اللهم ارحمه وارحم أسلافه الذين كان لهم علينا فضل كبير لا ينكره جاحد أمثال: ابن باديس والتبسي والميلي والعقبي ومن كان في عونهم. أما عنوان ولديه أحمد ومحمد فإليكه بحيدرة لتعزيهما فيه: طريق القادوس رقم 56 حيدرة.
من أخيك المخلص محمد الصالح رمضان
حرر بالقبة يوم 12 /06 /1965 م
(1) يؤسفني أن أعلمك بتنحية الشيخ سحنون من الجامع لما تعلم من قبل.
(2) يطيب لي أن أنبهك إلى مرثية جميلة لبنت الشاطئ على الشيخ الإبراهيمي ظهرت في ملحق جريدة الأهرام الخاص بالجمعة يوم 04 /06/ 1965 أطلبه.