العلامة ابن باديس والبناء الفكري والتعليمي
بقلم: علي الصلابي-
في ذكر الله تعالى من كتابه العزيز: { وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا} (الإسراء: 36) مهد العلامة الشيخ عبد الحميد بن باديس لتفسير هذه الآية بالقول: العلم الصحيح والخلق المتين هما الأصلان اللذان يبنى عليهما كمال الإنسان، وبهما يضطلع بأعباء ما تضمنته الآيات السابقة من أصول التكليف. فهما أعظم لما تقدمهما من حيث توقفه عليهما، فقد جيءَ بهما بعده؛ ليكون الأسلوب من باب الترقي من الأدنى إلى الأعلى. ولما كان العلم أساس الأخلاق قدمت آياته على آياتها تقديم الأصل على الفرع.
بهذا قرَّر الإمام ابن باديس حقيقة علمية جريئة ترفعه لمكانة متميزة بين المصلحين في العالم الإسلامي، وهي المقولة الخالدة التي يقول فيها: العلم وحده هو الإمام المتبع في الحياة في الأقوال والأفعال والاعتقادات، ثم واصل -رحمه الله- يشرح سرَّ تقدم العلم في كل شيء، ولماذا جعله الإمام المتبع؟
هنا قال: سلوك الإنسان في الحياة مرتبط بتفكيره ارتباطًا وثيقًا يستقيم باستقامته، ويعوج باعوجاجه، ويثمر بثماره، ويعقم بعقمه؛ لأن أفعاله ناشئة عن اعتقاداته، وأقواله إعراب عن تلك الاعتقادات؛ ثمرة إدراكه الحاصل عن تفكير هو نظره. فبالعلم يحقق الإنسان التطور، ويحسن التجارب والخبرات، ويقترب شيئًا فشيئًا من الكمال الإنساني، عن طريق الاكتشاف التي تذلل له الصعوبات التي كانت تنغص عليه عيشه وتكدر صفوه، ولذلك قال: ولما امتاز الإنسان عن سائر الحيوان بالعقل والتفكير امتاز عنه بالتنقل والتطور في أطوار حياته ونظم معيشه باكتشافاته واستنباطاته ، فمن المشي على الأقدام إلى التحليق في الجو مثلاً، وبقي سائر الحيوان على الحال التي خلق عليها دون انتقال، وبقدر ما تكثر معلومات الإنسان ويصبح إدراكه لحقائقها ولنسبها ويستقيم تنظيمه لها، تكثر اكتشافاته واستنباطاته في عالمي المحسوس والمعقول وقسمي العلوم والآداب.
هكذا يقرر ابن باديس -رحمه الله- بأن الاكتشافات العلمية التي نقلت الإنسان من طور إلى طور، وغيرت مجرى حياته تغييرًا كليًا، إنما هي نتيجة إعمال الفكر الذي هو ثمرة العلم، وعليه؛ فحيث لا علم، لا يوجد تحول ولا تطور نحو الأفضل، ولا تحسين في مستوى المعيشة وأنظمة الحياة، وإنما يكون هناك... الذي يقود إلى الهلاك العاجل والآجل، ولذلك قال: وإذا لم يصبح إدراكه للحقائق أو لنسبها أو لم يستقم تنظيمه لها، كان ما يتوصل إليه بنظرة خطأ وفساد في فساد.
ولا ينشأ عن هذين إلا الضرر في المحسوس والضلال في المعقول. وفي هذين هلاك الفرد والنوع جزئياً وكلياً من قريب أو من بعيد، وهذا هو طور انحطاط الأمم الانحطاط التام، وذلك عندما يرتفع منها العلم ويفشو الجهل وتنتشر فيها الفوضى بأنواعها، فتتخذ رؤوسًا جُهالًا لأمور دينها وأمور دنياها، فيقودونها بغير علم، فيَضلون ويُضلون، ويَهلكون ويُهلكون، ويفسدون ولا يصلحون.
1- إصلاح التعليم:
إدراكاً من ابن باديس للحقائق السالفة الذكر، فإنه قد جعل من إصلاح التعليم أساس النهضة الإصلاحية المنشودة، فقال -رحمه الله-: لن يصلح المسلمون حتى يصلح علماؤهم، فإنما العلماء من الأمة بمثابة القلب، إذا صلح صلح الجسد كله، وإذا فسد فسد الجسد كله، وصلاح المسلمين إنما هو بفقههم الإسلام وعملهم به، وإنما يصل إليهم هذا على يد علمائهم، فإذا كان علماؤهم أهل جمود في العلم وابتداع في العمل، فكذلك المسلمون يكونون، فإذا أردنا إصلاح المسلمين، فلنصلح علماءهم. ولقد نادى ابن باديس إلى إصلاح التعليم ودعا في سنة 1937م إلى عقد مؤتمر للمعلمين المسلمين الأحرار في نادي الترقي في مدينة الجزائر، فنشرت جريدة البصائر نص الدعوة التي وجَّهها ابن باديس للمعلمين الأحرار.
2- الخطة التعليمية التي سار عليها ابن باديس:
إنَّ العمل التربوي والتعليمي هو السلاح الاستراتيجي الذي فضله ابن باديس على غيره من الأسلحة، وجعل أداته الفاعلة في خوض معارك المواجهة مع الاستعمار، تلك المعارك التي قاوم من خلالها محاولات الفرنسة والتغريب والتجنيس والتنصير، وكل الأساليب الرامية إلى ابتلاع الجزائر أرضاً وشعباً، وعقيدة، ولغة وسلوكاً.
لقد رأى ابن باديس في تلك الفترة أن سياسة الاستعمار الثقافية ماضية في طريقها، حريصة على إنجاز مخططها المتمثل في اقتلاع الجزائري من منبته وتشويه لسانه وعقيدته وإيمانه، وقتل ذاكرته حتى لا يحس بما يُشعره بهويته أو يربطه بحقيقة أمته. ورأى أن الطريق الأنجع للوقوف في وجه هذه السياسة هو تسليح المواطنين بالعلم والمعرفة وتنوير عقولهم وتعبئة مشاعرهم، ونشر الوعي بينهم، وتصحيح عقائدهم، وإزالة غشاوة الجهل والغفلة عن أبصارهم حتى يروا حقيقة الاستعمار عارية أمام أعينهم فيواجهوها، ويجدّوا في محاربتها. إن مسعى ابـن باديس مـن وراء مشروعه التعليمي هو إحداث تغيير شامل في العقول والأفكار والنفوس، وفي المحيط الثقافي، حتى يستجيب هذا التغيير لمتطلبات الكفاح من أجل إثبات الذات والدفاع عن الكيان.
3- العلم في المفهوم الباديسي:
إنَّ العلم في المفهوم الباديسي هو العلم بمعناه القرآني الشامل، وليس العلم الديني فقط، على أهميته في المحافظة على الهوية الثقافية، والحضارية، فها هو يوجِّه نصيحة غالية للإنسان المسلم بهذا الشأن فيقول: فاحذر كل متعلم يزهدك في كل علم من العلوم، فإن العلوم كلها أثمرتها العقول لخدمة الإنسانية، ودعا إليها القرآن بالآيات الصريحة، وخدمها علماء الإسلام بالتحسين واستنباط ما عرف منها في عهد مدنيتهم الشرقية والغربية حتى اعترف بأستاذيتهم علماء أوروبا اليوم.
ومن هذا المنطلق قام الشيخ ابن باديس بقراءة للحضارة العربية الإسلامية في الجانب العلمي، وقدَّم نظرة للحضارة الأوربية الحديثة فقال: وهذا كما كان العرب والمسلمون أيام، بل قرون مدنيتهم، عرّبوا كُتب الأمم إلى ما عندهم ونظروا وصححوا، واستدركوا وأناروا بالعلم عصرهم، ومهدوا الطريق، ووضعوا الأسس لما جاء بعدهم، فأدوا لنوع الإنسان بالعلم والمدنية أعظم خدمة تؤديها له أمة في حالها وماضيها ومستقبلها.
4- الاهتمام باللغات الأخرى:
يرى ابن باديس الأخذ بالوسائل التي تمكننا من التحكم في العلم والتكنولوجيا، وفي مقدمتها اللغات الأجنبية، فقال -رحمه الله- : إن الذي يحمل علم المدنية العصرية اليوم هو أوروبا، فضروري لكل أمة تريد أن تستثمر تلك العقول الناضجة وتكتنف دخائل الأحوال الجارية، أن تكون عالمة بلغة حيَّة من لغات أوربا، وكل أمة جهلت جميع اللغات الغربية، فإنها تبقى في عزلة عن هذا العالم، مطروحة في صحراء الجهل والنسيان من الأمم المتمدنة التي تتقدم في هذه الحياة بسرعة لم يسبق لها مثيل، ومما لا يرتاب فيه - والواقع نشاهد - أن مقدار كل أمة في اللحوق والتخلف بركب المدنية بنسبة كثرة وقلة انتشار لغة فيها من لغات الغرب.
فهدف الشيخ ابن باديس من وراء الدعوة إلى تعلم اللغات الأجنبية، كل اللغات الأجنبية، إنما هو التمكن من العلوم والتكنولوجيا، فما دام مصدر العلم اليوم هو أوروبا والوسيلة إليه هو التحكم في لغتها، فبات من المصلحة الحرص على تعلم هذه اللغات وإتقانها.
5- الهدف من العلم في الرؤية الباديسية:
إنَّ العلم المقصود عند ابن باديس ليس هو حشد العقول بالمعلومات النظرية وإغفال السلوك والأعمال التطبيقية، فالعلم وثيق الصلة بالأخلاق، وبدونها لا ينفع العلم لا في كثرة ولا في قلة، فالعلم والعمل متلازمان، يقول ابن باديس: إن الكمال الإنساني متوقف على قوة العلم، وقوة الإدارة، وقوة العمل، فهي أسمى الخلق الكريم والسلوك الحميد.
وكذلك يقول: حياة الإنسان من بدايتها إلى نهايتها مبنية على هذه الأركان الثلاثة، الإرادة، الفكر، العمل، وهذه الثلاثة متوقفة على ثلاثة أخرى لا بدَّ للإنسان منها، فالعمل متوقف على البدن، والفكر متوقف على العقل، والإرادة متوقفة على الخلق، فالتفكير الصحيح والإرادة القوية من الخلق المتين، والعمل المفيد من البدن السليم، فلهذا كان الإنسان مأموراً بالمحافظة على هذه الثلاثة؛ عقله وخلقه ودينه ودفع المضار عنها، فيثقف عقله بالعلم، ويقوِّم أخلاقه بالسلوك النبوي، ويقوي بدنه بتنظيم الغذاء وتوقي الأذى والتريض على العمل.
فالهدف من العلم في نظر ابن باديس هو بناء الشخصية الإسلامية المتكاملة، فهو ذو أبعاد نفسية وعقلية واجتماعية. ولذلك يقول -رحمه الله-: إنَّ كل ما نأخذه من الشريعة المطهرة علماً وعملاً، فإنما نأخذه لنبلغ به ما نستطيع من كمال في حياتنا الفردية والاجتماعية. والمثال الكامل لذلك كله هو حياة النبي محمد صلى الله عليه وسلم في سيرته الطيبة.
المراجع:
1- أندري ديرليك، عبد الحميد بن باديس.
2- عبد الرشيد زروقة، جهاد ابن باديس ضد الاستعمار الفرنسي.
3- عبد العزيز فيلالي وآخرون، البيت الباديسي.
4- عبد العزيز فيلالي، وثائق جديدة عن حياة خفية في حياة ابن باديس الدراسية.
5- علي الصلابي، كفاح الشعب الجزائري ضد الاحتلال الفرنسي وسيرة الزعيم عبد الحميد بن باديس، ج2.
6- عمار الطالبي، ابن باديس حياته وآثاره.