ابن باديس والاستعمار الفرنسي
بقلم: محمد الصالح الصديق-
زارني في بيتي طلبة جامعيون تخرجوا هذه السنة، وقد كان معي قبل مجيئهم أستاذ متقاعد له اهتمام بالتراث الفكري، ومساهمات في ميدان الكتابة.
وبعد تعرفي على الطلبة ووقوفي على تخصصاتهم، ومختلف رغباتهم في ممارسة الحياة، طلبوا مني أن أحدثهم عن الإمام ابن باديس وجمعية العلماء وعن موقفه من الاستعمار الفرنسي، وهل ساهمت الجمعية في ثورة التحرير؟.
فتحدثت عن الإمام بإطناب، وذكرت المجالات التي ناضل فيها الإمام بإرادة قوية، وعزيمة ماضية، وإيمان قوي نجح فيها نجاحا باهرا، هذه المجالات هي:
مجال العقيدة، ومجال الإسلام، ومجال الأخلاق، ومجال اللغة العربية، ومجال التعليم.
وذكرت لهم أن ابن باديس بهذه المجالات أعد الشعب الجزائري فكريا ونفسيا وروحيا لثورة نوفمبر 54. فالشعب الجزائري لولا مدارس جمعية العلماء التي فتحت أبوابها للشعب في مختلف أنحاء القطر الجزائري، ولولا رجال جمعية العلماء برئاسة ابن باديس الذين غرسوا الإيمان في القلوب، وفتحوا الأبصار على الحق والباطل، لما كان على تلك الأهبة، وعلى تلك الحال من الاستعداد للموت من أجل الحياة.
ذكرت كل هذا بشيء من التفصيل للطلبة والأستاذ المتقاعد يصغي باهتمام، ويتابع في رغبة وانقطاع، ولما انتهيت، أحسست براحة نفسية تغمرني لما تعبر عنه بسمات الوجوه وتعابيرها عن الفهم والاستيعاب، وقد أبدوا ارتياحا من بعض النقط الهامة التي تناولها الحديث وارتفع عنها الستار، وقد كان يكتنفها عندهم غموض، وطالما كانت مثار التساؤل والنقاش بين الطلبة، وأعمالا بينهم وبين أساتذتهم.
أما الأستاذ المتقاعد فإنه اندفع في حماسة ينتقد الإمام ابن باديس ويصفه بالموالاة للاستعمار الفرنسي، ويؤكد أنه لولا ذلك ما أمكن له أن يواصل التعليم بلا إيقاف قرابة ثلاثين سنة، وأن يواصل نشاطه الصحفي الذي يتمثل في مختلف صحفه التي كانت تصدر بلا توقف، وهناك صحف أخرى ما يكاد يصدر منه عدد أو عددان حتى تحتجب.
وقد صححت له أخطاءه، ونبهته إلى أن ما ذكره لا يعدو أن يكون صدى لأبواق المغرضين، أو الجهلة الذين يهرفون بما لا يعرفون، وأبديت له أسفي أن ينحط إلى درك هؤلاء، وهو الباحث الذي لا يكتفي بظواهر الأمور، ولا ينصاع إلا لما دل عليه الدليل وقام عليه البرهان.
وقد كنت متأثرا لموقفه، آسفا على فهمه الخاطئ، وعلى ما صدر منه، رغم اعتذاره، ولكني بعد أن خلوت بنفسي وفكرت فيما جرى في المجلس، وما بدر من الأستاذ رأيت ذلك يكون عاديا بالنسبة إلى بعض الناس، الذين يلذ لهم أن ينتقدوا الأموات، وقد يكون الشيخ منهم.
فمنذ أعوام قرأت في إحدى الصحف المصرية مقالا لواحد من هؤلاء الذين يكتبون الشعر الحر، يقول فيه: إن شوقي لو عاش إلى أن أدرك هذا الجيل لاعتبره النقاد شاعرا من الدرجة الثالثة.
وجاء في مجلة الأنوار اللبنانية أن كتابا صدر في بيروت بعنوان (مختارات من شعر أمير الشعراء أحمد شوقي). اختار فيه مصنفه ما شاء من الشوقيات، ثم أضاف إليها ما يزعم به أنه يسحب كرسي الإمارة من تحت أمير الشعراء، ويزلزل عرشه الذي أجمع عليه الشرق والغرب.
وهكذا تتجه أقلام هؤلاء (الخفافيش) إلى التنقيص من عظمة العظماء بعد موتهم.
وهي ظاهرة لا تدل إلا على الضعف والهوان، وخراب الذمة، وضعف الإيمان.