مالك بن نبي
بقلم: أبو القاسم سعد الله-
جاء في غلاف أحد كتب مالك بن نبي أنه ولد في قسنطينة سنة 1905 من عائلة بقيت فيها المعاني الدينية حية بينما مالت بعض العائلات الأخرى إلى الحداثة، وابن نبي يضع عائلته في هذا الصف، ولم يغادره هذا الشعور سواء في دراسته الإسلامية العالية أو في دراسته التقنية العلمية، ويبدو أن الحداثة التي قصدها ابن نبي تختلف عن تلك التي تشيع اليوم بين جيل من المثقفين، فهي ببساطة تعني عنده مفهوم التقدم والإيمان بالتطور والتغيير.
عندما تسأل مالك بن نبي عن بعض القضايا الاجتماعية والتاريخية قد لا يفصح عن رأيه بكل وضوح، ولكن تأكد من أنه عندما يحلل الاستعمار والفقر فسيكون فصيحا كل الفصاحة، وكل من ابن نبي وفرانز فانون وجد في الاستعمار والفقر موضعا للبحث في الإنسان الجزائري وحالة المسلمين المحرومين، وكما قلنا إن الثورة لم تلد أديبا عبقريا فكذلك نقول إنها لم تلد فيلسوفا نابغة، فهي لم تنتج فلاسفة ومحللين لتطور الحضارة، ولكنها بالقياس إلى ما أنتجت في التاريخ والأخلاق والسياسة، تفوقت في ميدان الفلسفة، وربما الأدب أيضا، ويكفي أنها فجرت عبقرية مالك بن نبي في الفلسفة ومفدي زكرياء في الشعر، وإن كان كل منهما قد ظهر أثناء المخاض الذي سبق الثورة.
لقد سئل ابن نبي سنة 1953 عن الاتحاد بين الجزائريين في وجه العبث الإداري الاستعماري، كان ذلك في الاستفتاء الذي طرحته جريدة (لمنار)، فقال إنه بإمكانه الجواب على السؤال مباشرة، وهو يبقى على هامش المقصود، وإن الشيء الذي يهم هنا هو إدراك الدستور الذي من شأنه أن يرفع نصب الحياة من الحضيض الذي نشاهده اليوم إلى المستوى الذي يطمح إليه الفرد أو الجمع بطبيعة الشيء المسطر في غريزة بني الإنسان، وفي نظره (أن المشكل قبل كل شيء عائد إلى أصول اجتماعية عامة لا تخص طورا من الحياة البشرية دون الأطوار الأخرى، ولا عنصرا منها دون العناصر الأخرى بل تشملها وتهمها كلها في جميع مراحلها تارة من حضيض إلى حظ وتارة من حظ إلى حضيض) (1).
ألف مالك بن نبي عددا من الكتب قبل الثورة وأخرى أثناء الثورة، والباقي بعدها، فمن الصنف الأول: الظاهرة القرآنية، ولبيك، وشروظ النهضة، ومن الصنف الثاني: الآسيوية - الإفريقية (1955) الذي كتبه بالفرنسية ثم ترجم إلى العربية، وفي البناء الجديد (1958) الذي طبع بالعربية في بيروت ولا ندري ما إذا كان قد كتب هذا الكتاب أصلا بالفرنسية، وهو الغالب، ومشكل الثقافة (1957)، لكن الغالب أنه مترجم عن الفرنسية، وصراع الأفكار في البلدان المستعمرة (1958)، وقد يكون كتبه أصلا بالفرنسية، وفكرة كومونويلث إسلامي (1959)، ولعله بالفرنسية أصلا، وميلاد مجتمع (1960)، وفي مهب المعركة (1961)، وهناك كتيب بعنوان استعاثة الجزائر (1957) SOS. وله من الكتب بعد الاستقلال عدد شبيه بما ذكرنا، وربما يكون ابن نبي أكثر المؤلفين الجزائريين إنتاجا فكريا خلال الثورة، في مجال يتضاءل فيه عادة الإنتاج الفكري وتكثر فيه الحركة والكلام، والملاحظ أن كل الكتب التي ألفها خلال الثورة طبعت في القاهرة ما عدا كتاب في البناء الجديد، كما أن استغاثة الجزائر طبع بالعربية والفرنسية (2).
من مؤلفات مالك بن نبي التي ظهرت مع الثورة كتابه (هوية الإسلام) الذي نشر في باريس 1954، وهو الكتاب الذي كان قد فرغ من تحريره سنة 1950، ولكن مقدمته مكتوبة في يونيو 1954، ويبدو أنه لم يدخل عليه تعديلات رغم الحوادث التي جرت بعد تحريره، ولا سيما حوادث فلسطين، وجاء فيه أن ما يصنع تاريخ العالم الإسلامي اليوم ليس المؤامرات الخارجية التي تشل نهضته مؤقتا ولكن العمل الخفي والمستميت لحركيته العميقة، وقد خصص مالك بن نبي هذا الكتاب للعمل من أجل توجيه هذه الحركية، وأعجب بما قام به المستشرق الإنجليزي هارولد جيب في كتابه (الاتجاهات الحديثة للإسلام) حتى أنه أحال عليه الفصلين الثاني والثالث من هوية الإسلام، ولكنه لم يتابعه في الأفكار، واختار طريقه الخاص في التفكير، فرد عليه مثلا فيما يتعلق (بالأوتوميزم) وقال إنها ليست خاصة بالعقل العربي، كما ذهب إلى ذلك جيب، بل هي ظاهرة بشرية عامة، كما أنه لم يتفق مع جيب في القول بـ (الاتجاه الإنساني) للحداثة العربية، وهو الاتجاه الذي استعاره جيب من الثقافة الغربية، وأحال ابن نبي على كتابه (الظاهرة القرآنية)، ولا سيما فصل العلاقة بين القرآن والإنجيل، واتهم الأوربيين بوصف الدول الإسلامية بالمتأخرة دون أن يقولوا إنهم هم الذين تسببوا في تأخرها، وتساءل لماذا كان على المثقفين المسلمين أن يبحثوا عن (الإنسانية) في أوروبا مثلا وفي استطاعتهم أن يجدوها في ثقافتهم وتقاليدهم.
قسم ابن نبي كتابه هوية الإسلام إلى فصول هي: مجتمع ما بعد الموحدين (أو ظاهرة الدورة التاريخية)، والنهضة (أو الحركة الإصلاحية أو الحداثية)، وفوضى العالم الإسلامي الحديث (العوامل الداخلية والخارجية)، وفوضى العالم الغربي، والطرق الجديدة، وإرهاصات العالم الإسلامي، وفي الخاتمة عالج ما أسماه (المستقبل الروحي للإسلام)، وفي غلاف الكتاب جاء أن ابن نبي لا ينتمي إلى أي حزب، وأنه يتعاون بانتظام مع جريدة (الجمهورية الجزائرية) لسان حال حزب البيان، كما أنه تعاون مع جريدة (الشاب المسلم) وهي جريدة الشباب المنتمي إلى الحركة الإصلاحية (جمعية العلماء) والمتعاطفين معها، وجاء في الغلاف أيضا أن هدف الكتاب هو جعل الأوربي يفهم العالم الإسلامي فهما حقيقيا، وقد طلب ابن نبي من القارى المسلم أن يعي مؤهلاته التقليدية والأوضاع الحاضرة لعصره.
استقبل القراء (هوية الإسلام) استقبالا يليق به، فقد جاء في وقت تستعد فيه الأمة كلها لنفض غبار اليأس، وحمل السلاح لاسترجاع الحرية والاستقلال .. فكان الكتاب إدانة منطقية واعية للاستعمار وتبشيرا بإرهاصات نهضة شاملة للإسلام والجزائر، فكتب عنه أحمد توفيق المدني في البصائر، والمولود الطياب في هنا الجزائر، ونوها به أيما تنويه، واعتبرا المؤلف فيلسوفا عالما ومؤرخا دقيقا للحضارة ومنظرا واعيا لمسيرة الإسلام، وانطلاقا من دولة الموحدين التي كانت آخر الحصون الصلبة في نظر المؤلف، وترجم المدني عنوان الكتاب (هوية الإسلام) بينما ترجمه الطياب (رسالة الإسلام)، وأطلق عليه ثالث وجهة الإسلام، ولكن المعنى واحد تقريبا: فقال المدني إن المؤلف متضلع في الهندسة والرياضيات وأنه يحسن الفرنسية أكثر من أبنائها، وإن الكتاب فلسفي علمي يدرس حالة العالم الإسلامي بعد سقوط دولة الموحدين وسقوط العالم الإسلامي تحت الاستعمار ودخوله في حالة جمود وتخلف، وقال إن المؤلف قد أشاد بالنهضة الإسلامية الحديثة التي من آثارها ظهور جماعة الشبان المسلمين والإخوان المسلمين (3).
أما مولود الطياب فقد كان أكثر غمزا لابن نبي حين قال إنه سبق له أن أخرج كتبا عن الإسلام وهي معروفة وإن كانت غير مفهومة، أما في كتابه هذا (رسالة الإسلام) فهو يقدم آراء بطريقة واضحة شافية، وأنه يمتاز بفهم دقيق ولا يصدره إلا بعد تجربة ودراية، وأنه يدقق في مكانة الثقافة ومعناها (وهو أمر نادر عند المفكرين المشارقة)، ومالك ابن نبي أكثر فهما للإسلام من الغربيين
باعتباره يكتب عنه من الداخل (وهذا رأي ابن نبي في فرانز فانون - انظر سابقا)، فهو من أهل الدين نفسه، واقترح الطياب ترجمة رسالة الإسلام إلى العربية، وهو ما حصل فعلا بعد حين، إنه كتاب في نظره يتناول قضية التجديد والتقليد ويقدم نظرة شاملة لنهضة الإسلام (4).
ومن الواضح أن رسالة الإسلام أو هوية الإسلام جاء في وقته، لأن الثورة كانت تبحث عن إيديولوجية تقودها، وهي تفتقر، إلى ذلك الحين، إلى مرجعية تعتمد عليها في صياغة قوانينها وسير حركتها، ولا ندري الآن مدى رواج ومقروئية مالك ابن نبي في أوساط نخبة الثورة حتى نعرف مدى تأثيره على سير شؤونها وتفكير رجالها، غير أن هناك دلائل تدل على أن فكر مالك بن نبي لم يؤثر على نخبة الثورة بقدر ما أثر عليها الفكر الماركسي ممثلا في كتابات فرانز فانون وأمثاله.
وبعد 1962 أصدر ابن نبي كتابا آخر سماه (آفاق جزائرية) ناقش فيه قضايا هامة كانت ما تزال تشغل أهل الفكر الثوري عامة ... ويهمنا أنه ناقش فيه قضايا الحرية والمفهومية وميراث الجزائر من الاستعمار، وعالج فيه مسألة الإنسان الجزائري وكيف خلقت منه الثورة إنسانا جديدا، غير أنه رجع إلى أصله بمجرد وقف القتال وإعلان نهاية الثورة، كما تناول الفرق بين (البوليتيك) (احتراف العمل السياسي) والسياسة، إنه كتاب يعبر عن الروح الثورية التي لم تصمد أمام التهافت على الكسب ورأس المال والسباق إلى المناصب ابتداء من أعضاء الحكومة المؤقتة، حسب تعبيره (5).
الهوامش:
(1) المنار 17, 6 فبراير 1953، في الأصل من حظ إلى حظيظ.
(2) عن مؤلفات ابن نبي خلال الثورة انظر قائمة مذكرات شاهد القرن!)، المطبوعات الوطنية الجزائرية، الجزائر، 1965.
(3) البصائر 322، والتاريخ غير متوفر الآن.
(4) هنا الجزائر 32، فبراير 1955.
(5) طبع هذا الكتاب في القاهرة، في ط 2 سنة 1971، ولا ندري متى ظهرت طبعته الأولى.